‘سبلة’ إدوارد سعيد
صبحي حديدي
قبل أشهر وجّه لي الأصدقاء في منتدى ‘سبلة عُمان’ الثقافي دعوة كريمة لإلقاء محاضرة، ثقافية أو فكرية أو نقدية، في سياق أنشطة مميّزة، بينها لقاء شهري مع ضيف خاصّ، عُماني أو عربي أو أجنبي، تستضيفه العاصمة مسقط. ولأنهم تركوا لي حرّية اختيار الموضوع، فإنّ كفّة الترجيح عندي مالت إلى استذكار الراحل الكبير إدوارد سعيد (1935 ـ 2003)، في موعد قريب من الذكرى السابعة لرحيله، وفي موضوعة واحدة يمكن أن تشمل الهمّ الثقافي والموقف الفكري والممارسة النقدية، على حدّ سواء. وهكذا اقترحت، ووافق الأصدقاء، على موضوع انشقاق المثقف من وجهة نظر سعيد، كما في سلوكه وسيرته وممارساته وتنظيراته، فكان عنوان المحاضرة هو ‘إدوارد سعيد وتمثيلات انشقاق المثقف’.
وكما هو معروف، كانت إذاعة الـBBC قد عهدت إلى سعيد بإلقاء محاضرات ريث لسنة 1993، وهذه سلسلة إذاعية سنوية عريقة وذائعة الصيت، كان قد أطلقها الفيلسوف البريطاني برتراند رسل سنة 1948، وتناوب عليها عدد من كبار مفكّري وكتّاب النصف الثاني من القرن العشرين. وقد ألقى سعيد ستّ محاضرات حول موضوع ‘تمثيلات المثقف’، سوف تصدر بعد سنة في كتاب صغير حمل العنوان ذاته (تُرجم إلى العربية، سنة 1996، بعنوان ‘صور المثقف’). عناوين المحاضرات سارت على النحو التالي: ‘تمثيلات المثقف’، ‘لجم الأمم والتقاليد’، ‘المنفى الفكري: مغتربون وهامشيون’، ‘محترفون وهواة’، ‘قول الحقّ في وجه السلطة’، و’آلهة تفشل دائماً’.
وعلى نحو ما، كانت تلك المحاضرات زبدة رأي سعيد في مفهوم، ثمّ وظائف ومهامّ ورسائل، المثقف في عصرنا الراهن، اعتماداً على قراءات سجالية في أفكار عدد منتخب من المثقفين، أمثال أنطونيو غرامشي وجوليان بيندا وميشيل فوكو وجورج أرويل وتيودور أدورنو وجان بول سارتر ونوام شومسكي وسواهم. كبرى الخلاصات تشير إلى واجب المثقف في توطيد الحرية الإنسانية والمعرفة، وضرورة تمثيل قضية واضحة أمام الجمهور، وعدم الإنسياق وراء التعميم واليقين المطلق، وسمات أخرى عديدة ناقشها بإسهاب، ومن خلال أمثلة ملموسة.
وهكذا تناولت المحاضرة آراء سعيد في مفهوم، ثمّ وظائف ومهامّ ورسائل، المثقف في عصرنا الراهن، وكيف تتخذ صفة الإنشقاق مستويات شتى، وكيف اتخذت عند سعيد شخصياً مظاهر متعددة. والأرجح أنّ خيارات الإنشقاق كانت قد شملت محطات حياة سعيد، وهيمنت على الكثير من وقائع سيرته الذاتية، وكذلك أعماله النقدية والفكرية، لا سيما تمرّده المبكّر على الإتجاهات الأكاديمية الأمريكية، وميوله نحو فلسفات أوروبية ألمانية وفرنسية وإيطالية كانت شبه مجهولة، أو حتى رجيمة، في الولايات المتحدة. وبالطبع، كان صدور أعمال مثل ‘الإستشراق’، و’تغطية الإسلام’، و’الثقافة والإمبريالية’ بمثابة نقلات كبرى فاصلة على ذلك الدرب الإنشقاقي الذي سار عليه سعيد.
مستوى الإنشقاق الثاني هو انحياز الراحل إلى القضية الفلسطينة، حيث تحوّل إلى أحد أبلغ الناطقين بها في الولايات المتحدة، والعالم بأسره في الواقع، فتعرّض للتأثيم والحرب الشعواء، من جهة؛ كما أُتيحت له فرصة إنشاء خطاب سياسي متطوّر ورفيع المستوى حول الشخصية الفلسطينية، من جهة ثانية. ومن المفارقة أنّ الأب، وديع سعيد، بذل كلّ جهد ممكن لإبعاد الفتى إدوارد عن السياسة عموماً، والقضية الفلسطينية خصوصاً، منذ سنوات النكبة الأولى ورحيل الأسرة من حيّ الطالبية في القدس، حيث ولد سعيد، إلى القاهرة. وبالطبع، كان حسّ الإنشقاق الدائب هو الذي قاد هذا الناطق البليغ باسم القضية الفلسطينية إلى رفض اتفاقيات أوسلو، ونقد السلطة الوطنية الفلسطينية، في أطوار لاحقة.
مستوى الإنشقاق الثالث هو مفهوم النفي، وتطوّرات نظرة سعيد إلى شخصية المنفيّ، وطبيعة المنفى، وقراءته الخلاقة لتفكير تيودور أدورنو وإريك أورباخ حول جدل الهوية بين الإقتلاع والإنتماء. وبصدد الصلة بين المنفى والإنشقاق، رأى سعيد أنّ المنفى، بكلمات الشاعر الأمريكي والاس ستيفنز، هو ‘ذهنية الشتاء حين تكون عواطف الصيف والخريف، مثل العواطف الكامنة للربيع، قريبة ولكنها ليست في المنال. المنفى هو الحياة خارج النظام المألوف. المنفى بَدَوي، غير متمركز، وطباقي’.
المستوى الثالث هو مفهوم ‘النقد العلماني’، الذي طوّره سعيد على سبيل توفير ردّ انشقاق شجاع ومعمّق في وجه انحدار النظريات النقدية نحو نزعة تجريدية تقدّس النصّ في ذاته، وتعزله عن محيطاته الاجتماعية والسياسية والثقافية والتاريخية. وكتب: ‘ليست ممارسة نقدية تلك التي تُشَرْعن الوضع القائم، أو تلتحق بصفوف طبقة من الكهنة والميتافيزيقيين الدوغمائيين’؛ كما ‘شدّد على الرابطة بين النصوص والوقائع الوجودية للحياة الإنسانية، وللسياسة والمجتمعات والأحداث’.
ولأن الـ’سبلة’ في المصطلح الغُماني تصف المجلس في حال انعقاده التشاوري والتداولي، والسجالي ربما، فقد كان مبعث بهجة شخصية أنّ معظم الأسئلة تناولت مسائل معمّقة تخصّ مسارات سعيد الثقافية والنقدية والفكرية، كما اقتدت بروحية الإنشقاق التي حضّ عليها الراحل الكبير. وهكذا، لم يكتفِ البعض بتقريظ مكانة سعيد، بل ‘انشقّ’ عن المألوف، وأثار تساؤلات أقرب إلى المساءلات، حول مسائل أساسية مثل ميله إلى تفكيك رسائل الرواية السياسية أكثر من تحليل خصائصها الفنية، وموقفه من الماركسية، وعلاقته بالأدب العربي المكتوب بالفصحى، وما إلى ذلك.
وذاك مآل تفاعلي لعلّه غاية ما يطمح إليه محاضر، في محاضرة مثل تلك.
خاص – صفحات سورية –