فليحترق بنار الجحيم
نديم جرجورة
الرقابة مرّة أخرى.
باتت، لكثرة تناولها نقديّاً، أكثر المؤسّسات الرسمية حضوراً في التعليقات السينمائية. باتت، لحضورها الطاغي في المشهد الإبداعي، سيفاً مصلتاً على رقاب الجميع: مخرجين جدّيين، منظّمي مهرجانات سينمائية، معنيين بالهمّين الثقافي والفني للسينما، مشاهدين مهتمّين. باتت، لاختراقها السمج قلب الحركة الثقافية والإبداع الفني والعلاقات الإنسانية، أقسى من أي سلطة أخرى. أو بالأحرى، باتت تابعة للرقابات الدينية والثقافية والاجتماعية، التي ضاقت بالحريات الفردية والجماعية.
أساساً، باتت الكتابة عنها مملّة. إذ كيف يُعقل تناولها مراراً وتكراراً، من دون أن تأبه بالكتابة وأصحابها، ومن دون أن تنتبه إلى ضرورة تبديل خططها العملية، وإن ادّعت تطبيقها قانوناً بائداً والتزامها توافقات طائفية ومذهبية أرهقت البلد وناسه ومجتمعه؟ لكن، هل يُعقل، في المقابل، أن يُسكَت عمّا يرتكبه جهاز «الرقابة على المصنّفات الفنية» من أفعال مضادة للحريات هذه؟ هل يُعقل أن يصمت المرء عن ممارسات مناهضة للإبداع، وإن شاب بعض الإبداع خلل أو ضعف ما؟ ألا يحقّ لكل عامل في المجال الإبداعي، ثقافياً وفنياً، أن يطرح أسئلته الإنسانية والدرامية والجمالية من دون عائق أمام المُشاهدين؟
أإلى هذا الحدّ بات البلد هشّاً؟
نعم. البلد هشّ في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والإعلام والعلاقات الإنسانية والنزاعات الطبقية (إن وُجدت في بلد نهشه الرأسمال المتوحّش، والسياسة الأمنية، والتوافق المذهبي/ الطائفي). ذلك أن بلداً لا يحتمل رأياً صريحاً من دون شتيمة، ولا يتقبّل قولاً سوياً من دون إساءة، ليذهب إلى الجحيم، وألف لعنة عليه وعلى من لا يتجرّأ على رفع الصوت عالياً ضد موبقاته، وإن اقتنع سلفاً بأن صوته العالي لن يؤدّي إلى حلول أو تبدّل في أحوال البلد وناسه. ذلك أن بلداً لا يتقبّل فيه أحدٌ أحداً إلاّ إذا كان الأحد الآخر متوافقاً ورأي الأحد الأول، ليحترق بنار الجحيم، وليختف عن خارطة الدنيا، وليتحوّل إلى ساحة موت وخراب. لكن، مهلاً: أليس هذا البلد ساحة للموت والخراب، من دون أن تؤكّد أفعال الرقابة هذه الصورة البشعة عنه؟ أليس هذا البلد معقوداً على الفوضى والمتاهات والقرف والنبذ والعزلة المرضية، من دون أن تواجه الثقافة والفنون، يومياً، منعاً وقمعاً وتأنيباً وتمنّيات مشبوهة، تُضاف كلّها إلى اللائحة السوداء، التي تحتوي على فقر وآفات اجتماعية وانهيار اقتصادي وفراغ سياسي، وانعدام أفق عملي لأحزاب يجب أن تكون علمانية ضد هذه الموجة العارمة من الطائفية والبؤس؟
كلّما أصدرت الرقابة المذكورة قراراً بمنع هذا الفيلم أو ذاك، يتحمّس صادقون بالتزامهم الحريتين الفردية والجماعية للدفاع عن الحقّ العام في القول والبوح والاعتراف بالذات وآرائها، للدفاع عن حقّ السجال الشرعي والسوي. لكن الرقابة لا تكترث ولا تبالي. تماماً كمدّعي عمل ثقافي أو فني، يرضخون سريعاً لـ«تمنّيات» الرقابة وقراراتها الصارمة.
أي بؤس هذا؟ أي شقاء؟
السفير