ماذا يقول الجيل الثاني في المنفى؟!
فلورنس غزلان
لا أجوبة عندي لابنتي …لماذا جرفتنا الريح إلى حيث لانعرف؟ …لماذا علي أن أغسل ذاكرتي من براءتها..التي ولدت هناك؟ لماذا أكبر حيث لا أهل سواكما؟..لماذا أدفع ثمن موقف لا أفهمه وحلم لم أحلم به ولست من شخصياته؟..
رغم هذا تعرفت على عالمي الجديد وبدأت أحس بالانتماء إليه والانسلاخ عن ذاك البعيد..أصبحت أقدامي أكبر وخطواتي أوسع ونما عقلي بطريقة تختلف عنكم..طردت الخجل من ثيابي ومن لهجتي..كما طردت حروباً لا أريدها ولا أفهمها…تجردت من خرائط سكبتموها في عروقي منذ ولادتي..صرت أمتلك خرائط تختلف عن حدود كيانات لم أترعرع بها..لاحيلة لكم فيما أنا عليه..هنا كونت نفسي …وهناك مازلتم تعيشون…فلا أريد أن أعيش وأموت في الفقد، غسلت ذاكرتي من صور التكرار..فاكتملت أنوثتي وحَمَلت هواء نقياً ….لم تعد مراياكم ولا صوركم الماضية تشكل لي أزمة وجود أو هوية..أنا شجرة تعيش هنا…وجذورها أيضا هنا…لكم جذوركم ولي جذوري..ولا أريد منكم سوى المباركة..لأنكم المسؤول الأول عن وطني الجديد وإقامتي حيث اشتهت رياحكم السياسية..لهذا أنحو للاستقلال عنكم.
لقدا امتلأت زجاجاتكم بصور وذكريات حملتوها معكم ومازلتم تجتروها ليلا ونهاراً..صرت أتقن كل معابدها وأزورها في خيالي..ربما شدني بعضها من باب الفضول وحب الاطلاع على هواجسكم الملتصقة بجلودكم وجداول أيامكم..أن أتعرف عليها حقيقة وواقعاً…لكن حواجز أخرى تمنعني من رؤية هذه المساحات المصورة بألوان شرقية تشبه ألف ليلة وليلة…أعشق قراءتها وتهفو نفسي لزيارة أزقتها…إنما تمنعني جدراناً تقف حائلا بيني وبينها…أنا لاذنب لي..فلماذا؟..أنا ابنة الغيب وابنة المنفى…فماذا جنيت حتى أصاب بطعنات خناجر مسمومة بسموم عقول..لم يدخلها أوكسجين الحرية؟!.
أسمع نحيبكم فأطمر رأسي من أجل إنقاذ نفسي..أشعر أن بكم شيئاً معطوباً غير قابل للإصلاح، ومن العبث محاولة الدخول لأرواحكم المعذبة..لا أريد لروحي أن تشبهها،أريد لأوراقي وزهوري أن تكبرهنا نقية شفافة تلمع تحت ضوء النهار ، أريد لأشجاري أن تتطاول نحو السماء باسقة كأشجار الصنوبر في الغابة..أريد لأطفالي ان يقرأوكم كأساطيرمن عالم آخر..لأني لا أشعر أن روابطاً من الفكر تجمعنا..روابطنا عاطفية أسرية ..كتبكم وحواراتكم تصيبني بالملل..وكأنكم في شرنقة تحاصركم من كل الأطراف…
منذ عرفت أبجدية النطق وأنا أراكم تبحثون عن حل..توغلون في الحلم كما تكثرون من القول..تتناحرون على زعامة لم تولد بعد.
يتحدث أصدقاءكم كما يتحدث الوعاظ ولا يهجعون دون أن يلقوا تحية على الماضي ، بعضهم يرى الله مزروعاً في كل خطوة ،وفي كل نقطة فوق الأرض، وأن أعماله ترصد وترقب وتحصي أخطاء البشرية..أتساءل كم من الموظفين لديه حتى يلم بدقائق هذا الكون؟ هل يسجلنا كأرقام ، أم يحفظ أسماءنا التي منحتونا إياها؟…أضحك من ضعف المحاكمة لدى هذا البعض منكم..وأستغرب تسامحكم وأنتم علمتموني أن أُعمل العقل في كل شيء..كيف يمكن لهؤلاء أن يبنوا وطناً؟ ألم تتعلموا من الفشل تلو الآخر ومن هزيمة تلحق بالأخرى؟. ومع هذا لازلتم موقنون أن الخطأ مقيم في بنية الثقافة!..فمن المسؤول عن ثقافة عرجاء مايزيد عن نصفها غيبي، والباقي مغيَّب؟!
معظمكم ينتفش كطاووس..حين يذكر اسم بلده..تفخرون بما ذهب ولن يعود، ولا تنتجون إلا حاضراً يسطركم في عداد الأمم الموؤدة، كما لاتفكروا بغدٍ لايقام له صرحاً فوق هذا الكم الهائل من الخطأ، وهذا الضعف المَرضي في اختيار الدرب الملائم..لا أسمع إلا تصادماً بين قطاراتكم السياسية..ولا أرى مذ نشأت إلا مزيداً من التراجع في تحقيق حلم كدتم تجعلونه حلمي..لو أني لم أقتنص فرصتي في الابتعاد عن درب لايشبه إلا طريق الجلجلة في أورشليم..
كيف يمكنكم الاعتقاد بأن وحوش الغابات يمكنها أن تتأنسن؟ كيف يمكن لمادح الله أن يمدح الموت ويقدسه؟ كيف يمكن لمن يؤيد القتل ويصدر فيه مراسيم ويعلق للقتلة أوسمة ونياشين أن يعيد النظر في قوانينه….فيمنحكم حق العودة، أو يتكرم على ابنتكم بزيارة لأرض ولدتم عليها؟
تاريخكم ياأمي ويا أبي..اقتحمته الغفلة منذ عقود وأقامت ثم بطشت ،لم تنفع قرابينكم في تغيير مساره، ولم تؤثر شموعكم في ليله الطويل..كما لم تخفف من ازدحام الجثث في عنابر السجون…فعلى من تعولون؟..أبكي من أجلكم..لأنكم أنقياء بين الكثير من الفساد..ولا أرى في الحفنة الصغيرة، التي تجمعكم بمن يشبهونكم أنها قادرة على انتشال التاريخ من كل هذه الأوحال.
تُصِّرون على أن أؤمن بكم وبطموحاتكم، وأن الليل سينجلي ويحمل للجميع فجراً جديداً!!..ها أنذا أصبح أُماً هنا…ومازالت طروحاتكم تراوح مكانها..إن لم تتراجع فراسخاً نحو الوراء..أحترق ألماً لأبٍ قضى دون أن يحقق شيئاً من هذا الحلم..فهل يمكنك يا أمي أن تكملي الدرب..دون مزيد من الأوجاع ؟ تُلَّفق لكم الأخطاء والتُهم ..بحق مشاعركم الوطنية ..التي حفظتوها داخل جدران أقفاصكم الصدرية ومع هذا لديكم الاستعداد للتسامح والغفران!..ما أنتم إلا فرساناً مهزومة…أمام جبروت أنظمة لاتحترم الإنسان…أنظمة تزعُم أنها حققت انتصارات!..يأكلها الوهم وتزرعه في قلوب صبايا وشباب بمثل عمري…أُصدم في كل لحظة حين أرى بنات جيلي…يلحفن العقل والرأس ويخضعن للعواصف الذكورية ويعشن في أقفاص المحرمات، التي تتكاثر حولهن فقط…هذا الذل بكل مايحمل من هوان للكرامة وللمشاعر الإنسانية…لا أستطيع العيش فيه لحظة..تثيرني الشفقة فقط على أمثالي هناك…أنا لا أشرك فيما زرعتوه بعقلي وقلبي..لكني أنجو بنفسي…من وباء قاتل…لكل إبداع ولكل تطور…ربما تقولين أني أنانية… لكن العمر قصيريا أمي ..وعمري لايحتمل أن أضيعه في مهاترات لاتؤتي ثمراُ وفي مقايضات لاتمنح حقاً..وفي أحلام لاتعرفونها إلا ليلا..العمر لايحتمل القتل …فلماذا تريدون لي أن أموت في سبيل قناعاتكم وفي سبيل وطن لا أعرفه..ولا يعترف بي..حتى أنه لايعترف بكم..إلا أمواتاً!..اعفني من هذا الحوار مسدود الأفق والآفاق..ودعيني أكمل دربي حرة دون نفاق ..حرة وإنسانة لها حقوق ..تعرفها ويعترف بها قانون بلد يحميها..دعيني أعيش إنسانيتي ووطنيتي كما أراها وتراني..لأني أكره أن أكون ضحية.
باريس 17/10/ 2010
خاص – صفحات سورية –