صبحي حديديصفحات العالم

خيط عنكبوت

null
صبحي حديدي
ليس ثمة ما هو أسوأ، في مهنة الإعلام المقروء، من افتتاحية بالغة الضحالة والهزال والسطحية، تتصدّر صحيفة عريقة ذات سجلّ حافل، وشهدت صفحاتها تواقيع كتّاب كبار كانت لهم بصمات فارقة في صناعة وجدان أمّة بأسرها. تلك كانت حال صحيفة الـ’موند’ الفرنسية، في افتتاحيتها ليوم 18 من الشهر الجاري، والتي جاءت بعنوان ‘صمت الأمم المتحدة في وجه الرئيس الإيراني’.
وقد يخال المرء، طيّب النوايا بخاصة، أنّ كاتب الإفتتاحية يقصد الحديث عن صمت المنظمة الدولية إزاء البرنامج النووي الإيراني مثلاً، أو صمتها عن تدخلات طهران في شؤون العراق، أو تسليح ‘حزب الله’ وتمويله… كلا، فهذه لم تكن في بال محرّر الـ’موند’ العبقري، لأنّ ما أفزعه في سلوك الأمم المتحدة، وأمينها العام بان كي مون شخصياً، هو… السكوت عن زيارة محمود أحمدي نجاد إلى بنت جبيل، في جنوب لبنان!
كيف، يتساءل كاتب الإفتتاحية مذعوراً، يعقل أن يلتزم المجتمع الدولي الصمت المطبق، ولا تثور ثائرة العالم ساسة وشعوباً، وأحمدي نجاد يكرّر العزم على محو إسرائيل من الخريطة، واقفاً على مبعدة أمتار قليلة من الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية؟ يا للهول! هناك حدّ أدنى من قواعد ‘السلوك’ في العلاقات الدولية، إذْ يمكن للدول أن تخوض الحروب، أو تستهدف الأنظمة المعادية بعضها البعض، أو تتصارع الإيديولوجيات المتنافسة، ولكن… هل تجاسر الإتحاد السوفييتي أو الولايات المتحدة، حتى في ذروة الحرب الباردة، على إعلان الرغبة في محو الآخر عن الخريطة؟
لا شيء يمكن أن يهدّيء من روع كاتب افتتاحية الـ’موند’ إلا اجتماع مجلس الأمن الدولي، واتخاذ قرار عاجل بإدانة خطاب الرئيس الإيراني: كيف لرئيس دولة فتحت له الأمم المتحدة منبر الخطابة قبل أيام قليلة، يسأل صاحبنا حانقاً ساخطاً، أن يطالب بإزالة دولة أخرى عضو في المنظمة ذاتها؟ بل كيف له أن يقول، على مسمع العالم، إنّ دولة إسرائيل أضعف من خيوط بيت العنكبوت! ولو حدث هذا على حدود دولة أخرى غير إسرائيل، يتابع المحرّر العبقري، أما كانت الدنيا ستقوم فوق رأس القائل، ولا تقعد؟
وليس الأمر أنّ الصحيفة كانت، في أي يوم، صاحبة موقف متوازن تجاه إسرائيل، بل العكس هو الصحيح في الواقع؛ إلا أنّ هذه السوية الهابطة في السخف والتساخف ليست مألوفة البتة، بل لعلّ الإفتتاحية تسجّل الدرك الأدنى منذ انطلاق الـ’موند’ سنة 1944. كذلك لا تنفرد هذه الصحيفة في بسط مساحات رئيسية لأيّ سخف يتغنى بإسرائيل كواحة وحيدة للديمقراطية في الشرق الأوسط بأسره، أو يرتعد خوفاً على مصيرها من ألوان ‘الإرهاب’ كافة، بما في ذلك طراز ‘الإرهاب اللفظي’ الذي مارسه أحمدي نجاد من بنت جبيل.
وذاكرتي الشخصية تسجّل مناسبة سخف نظيرة، كان فارسها روجيه كوكيرمان، الرئيس السابق للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، أو الـ CRIF في مختصراته الشهيرة، تعليقاً على أحلام السلام الفلسطيني ـ الإسرائيلي التي راودت يهودياً فرنسياً آخر هو تيو كلاين، كان رئيس المجلس ذاته قبل كوكيرمان. ‘قد نرغب في رسم الذئب بألوان وردية، لكنه يظلّ ذئباً’، كتب كوكيرمان، متسائلاً عن حقّ أيّ يهودي في انتقاد الحكومة الإسرائيلية. وبالطبع، لمَنْ فاته إدراك طرفَي الإستعارة، كان الفلسطيني هو الذئب الذي يمكن رسمه باللون الوردي دون أن يتغيّر باطنه الذئبي.
كذلك تحدّث كوكيرمان عن وجود ‘تحالف بُنّي/ أحمر/ أخضر’ في فرنسا، ليس له من شأن آخر سوى استهداف الصهيونية وممارسة العداء للسامية. وهذا الإكتشاف جاء في فقرة من خطاب أثناء العشاء السنوي الذي يقيمه المجلس، ويحضره عادة كبار رجال الدولة وممثّلي الأحزاب في الحكم والمعارضة على حدّ سواء. وعلى سبيل الأمثلة فقط، كان في عداد الحضور رئيس الوزراء، ورئيس الحزب اليميني الحاكم، وأمينة الحزب الشيوعي الفرنسي، وأمين حزب الخضر…
وفي قناعة كوكيرمان بات العداء للصهيونية هو المنطلق المفضّل لنزعة العداء للسامية، هذه التي تتجسد في تحالف يضمّ ‘اليمين المتطرّف الذي يحنّ إلى الهرمية العنصرية’، واليسار المتطرّف ‘المعادي للعولمة، المعادي للرأسمالية، المعادي لأمريكا، والمعادي للصهيونية’. ولم يغب عن ذهن كوكيرمان واجب الهجوم على جوزيه بوفيه، زعيم اتحاد الفلاحين الفرنسيين الذي زار فلسطين المحتلة واتهم الإسرائيليين بممارسة التطهير العرقي.
وتبقى إشارة إلى أنّ العشاء السنوي للـ CRIF هو التقليد الذي سنّه، قبل أكثر من عقدين، كلاين نفسه (الرئيس الأسبق الذي تعرّض لانتقاد كوكيرمان وتلقّى مواعظه حول الذئب الوردي)، وتحوّل بمرور الأعوام إلى واحد من أذكى أشكال توظيف العلاقات العامة، وخدمة قضايا اليهود وقضايا الدولة العبرية في آن. كذلك امتاز العشاء السنوي بالقدرة على توليد درجة عالية من إجماع الأحزاب والقوى السياسية الفرنسية، على اختلاف مذاهبها وفلسفاتها ومواقفها من الصراع العربي ـ الإسرائيلي. وهذا الإجماع هو معمار القوّة الذي سيتكفّل كوكيرمان بتقويضه، عن طريق تحويل حفل العشاء السنوي إلى محكمة تفتيش.
ومع الإعتذار من الرئيس الإيراني، في وسع المرء أن يستخدم استعارته العنكبوتية، فيرى أنّ الفارق بين افتتاحية الـ’موند’ وخطبة كوكيرمان، أوهى من خيط عنكبوت!
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى