أساطير شبابنا
عباس بيضون
تقع نظرتي على مجلد بالفرنسية في سلسلة «شعر» الصادرة عن غاليمار. المجلد يحمل عنوان «تثلج في الليل» والشاعر ناظم حكمت، ناظم حكمت أسطورة في شبابنا واليوم هو أسطورة أكثر مما مضى. من لنا اليوم بحفيد باشا يلتحق بالمقاومة السرية ويعود إلى بلاده ليواجه حكماً بـ20 سنة سجناً ويعاني في سجنه آلاماً وأمراضاً، لكنه عند كل أزمة صحية يخرج كتاباً جديداً. الآن لا يخرج الناس من جلودهم بهذه السهولة ولا ينقلبون على سلالاتهم بالإصرار نفسه، الآن نسخر من الزمن الأسطوري ونعتبر أبطاله سكارى بأنفسهم وبأفكارهم، نراهم في الغالب طائشين وسذجاً، لقد دفعوا أثماناً باهظة لأغراض ما لبثت أن ذبلت. كانوا أحياناً من دون أن يعوا مغني الديكتاتورية المقبلة والطغاة الجدد، الآن نحن في منتهى الاحتراس، ما من فكرة لا تنقلب على نفسها، ما من غاية لا تغدو في النهاية أحيولة وفخاً. نحن الآن ندفع بالتقسيط ونساوم على كل شيء ونسهر لكي لا نُخدع. الواقع لا يقبل الأساطير. اليوتوبيات والأحلام الكبيرة مهد الطغيان. لا تمر علينا كل هذه الخيالات، لكن ماذا نفعل بأساطير شبابنا، بناظم حكمت والآخرين، لقد عاشوا مطرودين خائفين وأجبروا على أن يفارقوا بلاداً وأحبة وأن يعانوا سجوناً طويلة وأن يواصلوا هربهم طوال حياتهم، ماذا نفعل بهؤلاء الذين آمنوا، عن حق او خطأ بأن كرامة البشرية تتوقف على صمودهم، وأن ثمة ما يساوي حياتهم، أنهم موجودون إلى الآن لكن لا نأمن من ان يقال لهم خدعتم وبذلتم على غير طائل. هل نقول لهم ابتعدوا لا تجرّبوها، احملوا اوهامكم وأساطيركم وارحلوا، هل نقول لهؤلاء الذيت أفنينا شبابنا في ذكرهم: لقد شببنا عن الطوق. بعد الآن لن نذكر أحداً. ربما نملك القسوة لنفعل ذلك، ربما، لكننا نعرف أنه لا ينتظرنا بعد ذلك سوى القفر، سوى الجفاف، سوى طعم القش داخل نفوسنا، سيكون لدينا من الوعي ما يكفي لكي لا يكون لنا مستقبل. سيكون لدينا من الحذر ما يكفي لكي لا نحلم. سيكون لدينا من الحرص والتعقل ما يضمن لنا أن نواصل حربنا ضد الأوهام والأحلام والمثالات إلى أن لا يبقى لدينا شيء. ناظم حكمت الذي قضى 12 عاماً في السجن دفعة واحدة مرض قلبه، لكنه استمرّ يكتب ولقد كان سجنه مؤثثاً بالأحلام ولن يكون «فضاؤنا الحر» سوى سجن آخر من الفراغ والوحشة. ماذا سيكون ثمن هذا التعقل سوى اليأس النهائي من لقاء الآلهة المهاجرة، من استعادة الصلة بلغة الأصل. رغم كل شيء لا نفقد احتفالنا بالشجاعة والكرامة والحرية. هذه مفاهيم لا نستطيع تعريتها. اننا نتهجأ فيها وجودنا، مفاهيم ليست مطروحة للنقاش. لأنها باستمرار في مستقبلنا.
السفير