صفحات ثقافية

شرفة الفراغ

null
جاكلين سلام
امرأة في موجة معلّقة، ويطيب لي أن يكون بيتي مركز العالم، الموسيقى ترقص في قدميّ ورأسي مذ عبر السرّ كياني، الكلمات المرفقة باللحن، لغة لا أفهمها، تصلني بعالم يتداعى، كي أعبئ الموسيقى بما أشاء.
الوقت والصورة. المرأة تكتب صفر القلب، صفر الدائرة، صفر الكون.

(0)
امرأة تروح وتجيء بين جدرانها، تعالج أوقاتها المبعثرة، تروّض صمتها، وحين تعجز، تذهب في الرقص، تذهب في الأمكنة مترعة بالأسرار والطلاسم حين ينهمر وجدها كنور في العتمة.
يتناثر عقد الكلمات حراً منسابا بلا اشتراطات أو مقدمات موضوعية تختال بين أمواج بحيرتها المجنونة، تحاصرها الجدران، يحررها اللحن، تسلم نبضها للاشيء، للا أحد، للا مركز. ( هذا كذب تبدأ به النص إذ أراها تصوب سهام روحها وكلماتها إلى بحر عينيك الموغلتين في زرقة السموات)

(0)
تلوب هاربة من الاختناق، تبحلق في الفراغ، كالشبح تسير الى غرفة نومها تتأمل المرآة وجهها:
الاسم: لا يهم أحداً
العمر: تقارب الأربعين من الورد
الطول: يانعة بما يكفي لاحتضان حبيبي كما يشتهي
مكان الإقامة: لا جغرافية ولا تاريخ منذ تهدمت ‘نينوى’ مدينة جدنا الأكبر، ومنذ هرب باقي الأجداد من مذبحة على حدود ملتبسة – سورية تركية عراقية ولا أدري شيئا عن تاريخ القمقم الصقيعي، اعتقدتُ أنه لم يجمدني أو يحرقني، فأعاوده بشغب، بشغف، بورد وموت يتفصد من جرح في جبين وقت لا يندمل.
ـ هل يندمل الوقت؟
ـ لا أحد يندمل، القلب محبرة، وتسيل
ـ هل المحبرة واقع؟
ـ واقع ما تروضه الأوهام والأخيلة.
( هذا كذب آخر، لقد فقدتُ معالم التاريخ والجغرافيا والبوصلة، أزخرف العراء العذري لمرة واحدة وأخيرة، وأكذب إذ أقول: في هذه الوهلة أتجرد عن كل الحالات السابقة).

(0)
امرأة لم تستعمل صوتها، أو ربما محاولات الكلام كانت يائسة بلا لون
ما زالت تجرّب صوتها لتقول: أحبّكَ!
الصوت حزين ويعلوه الصدأ، لربما يحتاج إلى شمس صريحة.

(0)
تقف مع ذاكرتها، تصب نبيذا، تبتسم حين تمسك الكأس تتذكر صديقة أبدت إعجابها بالكأس الشفاف، لاحقا أبدت إعجابها بالسهرات الموغلة في تفاصيل أزمنة وأمكنة مهاجرة على الدوام.
( سهرات، وشقاء وشقاق، طفولة شباب وسيدات – هذا أيضاً خروج عن النصّ)
ـ الصديقة تبتسم وتقول: هذا الكأس يمنحني الاطمئنان، يشبه حضنا، ولا يشبه الكؤوس ذات القاعدة الممشوقة بشفافية حدّها الجرح.
ـ أبتسم، كنتُ أجهل لماذا أُحبُّه دوناً عن العشرات الأخرى، ألأنه كأس يجبرني على احتضانه برهافة؟!

الصور المبحرة في الصمت ترفع نخب امرأة شاء لها الوقت أن توغل في الغياب، تركتْ لي بعض الورد، وفيض تساؤلات.
مؤخراً انكسر الكأس ولم أرمه في الزبالة. مؤخراً رحلت الصديقة وما زالت على أطراف ذاكرتي تتمايل.

(0)
تريد شيئا ما، تجهل أشياء كثيرة.
مَنْ؟ أنا أم هي؟!

تفتح ملفاً أبيض لتبدأ نصّها، تجد الملف الالكتروني محاطا بحاشية رمادية، لم يعجبها الرماد المرفق بالبياض، أغلقت الصفحة، تريد بياضا بلا رماد، إلكترونيا على الأقل
تخاف الإبحار إليكم بكل الحذافير. فقط تريد أن توصل رسالتها التالية:
كانت فرحتي بكِ حقيقية لأسباب جوهرية:
كنت مستعدة أن تلملمي معي حجارة مثقوبة من ‘بريملي بلفز بارك’ ومستعدة أن تجعلي من الجاكيت سريراً لحمل الحجارة إلى البيت، لوضعها زينة في المدخل، وفوقها تضعين العود الشرقي.
لأنكِ الوحيدة التي تبتهج بتناول القهوة على شاطئ بحيرة أونتاريو حين يغطي الثلج العالم.
لأنكِ شاركتني الجلوس على الشاطئ في جلسة خاصة كان محورها الأساسي أن نشتم المدير العام للشركة والذي أقالني عن العمل، وأقالك ايضاً.
ولأنك كطفلة أرهقتها الفصول، غفوتِ بسلام على أريكتي حين كنا نستمع إلى ملحمة جلجامش.
( هذا بوح يصل متأخرا كالعادة. وهذه ارتحالات أخرى، كائنات العالم الممتد من أقصى الشرق إلى الشمال الامريكي – الكندي)

(0)
تغادر الأوراق والشرفة، تسحب ملقط شعر من علبة في الحمّام، ترتب فوضى حاجبيها، تسحب الآلة الكهربائية الصغيرة من الدرج، تتخلص من بعض الشعيرات المتناثرة على ساقيها، تنقطع الموسيقى. تسير إلى الستريو، تعيد الأغنية ذاتها تترك دفاترها مبعثرة وترقص ترقص الكلمات، الأفكار تتصارع، تتلاطم، شريط الأفكار يتأرجح ويشبك الأمكنة والوجوه العابرة والافتراضية والأرواح المغادرة تصرّ على أنها ستكتب الفراغ الذي بين فكرتين، ستكتب الخلاء: هذا الذي يعادل اللا أحد، واللا شيء. تلك المساحة اللامرئية، المترعة بالغيبوبة المجردة من الأبيض والأسود.
ستكتب النص من تلك المسافة الغائرة ما بين الفكرة والفكرة حيث تقيم الأبدية.
( كذب ومحض رغبات، تعيش التباساً، لم تستطع أن تكتب / لم تستطع القول: لم يكن الفراغ أعمى كما اعتقدتُ في وهلة سالفة، تماما حين التقاء عقارب الساعة بين عامين)
يهمني الفراغ الممتلئ بنا، أريد الفكاك من هذه العثرات أيتها الأبجدية.
تمتعض سيدة أخرى تريد حدودا فاصلة بين الأنا والـنحنُ
ويهمني التأكيد على أنه لا مكان لإقامة الأنا في هذه الومضات
*
*
هذه الفراغات متروكة للذي تساقط بين فكرة وفكرة وفي خاطري العودة إلى قلب النص والصورة.
( النص والنصف والآخر وأنتم. أوهام لا بد أن أنغمس فيها)

(1 )
أتشرّب تفاصيل الهامش المبعثر، أترك الواجهات للذين يحبّونها
النصف الآخر يقال فيما بعد، ما بعد ارتحالات أكثر جدوى:
سـأكتبُ امرأة، تلملم وجلَ الأربعين، تنظر خصلات الناضج الأبيض من شعرها كما لو أنها فضة كونية.
ترى ثدييها كما لو أنهما نبعان يمضيان إلى شفاه حبيبها البكر، حبيبها الأخير
ترى الدروب على جبينها بصمات تؤكد أنها كانت موجودة هناك وهنا
ترى بصمات الدهر على قوامها وتبتسم لصباها الممشوق في المخيلة
تتكور على ألوانها كجذع عريشة تهب العنب نبيذاً معتّقاً – خلاصة الروح تصير سراباً نظراتها، تفقد وجهها والمرآة والحقيقة تستيقظ بلا قبلات سحرية. تعلّق على شجرة الجسد، ذاكرة ومستقبلاً. قصاصات سوداء وبيضاء محاكة بألفة ونزق تستيقظ فيها المرأة مراراً وتكتب من حيث يبدأ الصفر انطلاقته بزهو. بفائض النشوة تقول سأكتب الحبّ:
الرغبات نبيذ قصائد، أقواس قزح تترنح في قوس الشهوة بها، سأكللكَ وإن أخذتنا المسافات المعتمة، فلا بأس حبيبي – فقط، ضع وردة على القبر وافرح لمن يهبّ لنار العشق جسداً،
لمن يترع النور في حقيبة من كلمات.
شاعرة سورية مقيمة في كندا
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى