النذر
العين تذرف دمع من يوم فرقاهم/
آني الرماني الهم للموت ما سلاهم
سنين يا حسرتي وإحنا.. برجواهم/
القلب عيَّ يبطل الواهجس البيَّه .
أغنية فراتية
صالح الحاج صالح
نذرٌ عليَّ سأرقص حافيةً حاسرةَ الرأس ” يلّي يطالعلي ولديَّ من الحبس أو يقلْ لي ” دربهم وين ” .
هذا النذر قطعته سعدة على نفسها , بعدما أعيت السُبلُ أسرتها في معرفة أي شيء عن مصير ولَدَيّها . كررت نذرها هذا إلى جانب نذور وعهود أخرى عشرات المرات ، فلم يشك أحدٌ في إيفائها لأيٍّ من نذورها وعهودها إلا نذر الرقص , فمن يرغب على كلٍ برقصِ امرأة تجاوزت الستين من عمرها .
غادر ابناها المنزل أو بالأحرى انتزعا … الأول : بصحبة رجال اقتحموا عليهم المنزل وهم يتناولون العشاء . ورغم التوسلات والنحيب , لم يعرفوا من هم , ولا أين أخذوه , ولا لماذا جروه معهم بالبيجاما دون أن يبدل ثيابه . في السنوات التالية ” سنوات البحث ” كثيرا ما تنسى ملامح وجه ابنها ما لم تكن صورته أمامها , ملامحه تنسحب من ذاكرتها أمام طغيان اللون ألعفني للبيجاما التي كان يرتديها , تأبطه رجلان يكادا يحملانه أكثر مما يمشي على قدميه واتجها به إلى الخارج , التفت مرة واحدة من بين الرجلين بوجه مصفر ومذعور, مستجديا مغمغماً بكلام لم يتبينه أحدٌ , فنهره أحد الرجلين ” امش يا خائن .. يا عميل .. ” . ما تكاد هذه الصورة تمر بذاكرتها حتى تهزم أمام طغيان اللون ألعفني .
الثاني ” ماهر ” كان خارج المنزل أثناء المداهمة , وعندما عاد رأى من طرف الشارع الذي يقع فيه منزلهم مسلحون يطوقونه وبعض المارة والجوار محتشدون من بعيد يدفعهم الفضول لمعرفة ما يحدث , اقترب وسط الحشد متلصصاً حذراً فبادره أحد الجوار :
– أنصحك يا بني أن تنصرف من هنا .
بدون تردد فتل على كعبه وعاد هائماً على وجهه لا يعرف لماذا امتثل لنصيحة الجار ولا أين يذهب ؟ ساعات وهو يجوب المدينة محاذراً الشوارع الرئيسة , دالفاً الأزقة والدربات الخالية من سابلتها , قالباَ الفكر أين يذهب وماذا يحدث ؟ ولماذا يداخله الآن إحساسٌ ما بوقوع كارثة ستؤثر في حياته وحياة أسرته .
قبلَ ليلته هذه لم ير فيما يجري حوله سوى أمر عادي لا يثير الاهتمام بشيء . لكن أثناء تجواله بدأت نتف الصورة تتضح إلى حد ما , شيئا ما كان يجري أمامه ومن حوله وداخل أسرته وبلدته وبلده دون أن يعي ذلك , فالتصاق والده بالراديو وبربرته الدائمة , و انقسام إخوته بين تبرير أفعال الحكومة تجاه الجماعات المسلحة التي انبثقت فجأة وبين إدانتها , وكذلك ظهور دوريات مسلحة تجوب الشوارع ليلا ونهارا في بلدته الصغيرة النائية التي بالكاد كانت ترى شرطيا مُزنراً بمسدس مهمل يتدلى من وسطه , هذا الظهور المسلح الذي أفرحه في البداية , وأشعره بالحماسة لأن بلدته حظيت أخيرا باهتمام ما , أشعره بالإرباك في مرحلة تالية بسبب وصايا والده ( لا تتأخروا ليلا , ولا ينسى أحد منكم حمل هويته , الدنيا على كف عفريت ,… ) ورغم ذلك لم يقلق لأن أقصى ما تصوره , مابين الجماعات المسلحة ورجال الحكومة لا يتعدى سوى لعبة عسكر وحراميه .
هل الأمر له علاقة باعتقال ” عبد الفتاح ” مدرسه و صديق شقيقه ” عزيز ” وما السر بينهما ؟ سنوات عمره الست عشرة لم تعطيه من الخبرة بأن يكون حذراَ عندما أرسل معه ” عبد الفتاح ” لفافةَ أوراقٍ لشقيقه – بل بالعكس كان فرحاً بأن يقدم هذه الخدمة لمدرسه وشقيقه – .
أين يذهب ؟ أيعود إلى المنزل , هل يستطيع أن يتخذ هكذا قرار , وهو الذي لم يختر إلى الآن أي شيء في حياته لا ملابسه ولا حذائه ولا مدرسة . أقصى ما كان يختاره الخروج إلى الشارع للعلب في الحارة أو أن يشتري من مصروفه شيئا يحبه ! فجأة وضِعَ في أتون أمرٍ لا يعرف عنه شيئاً , من يدله كيف يتصرف , وأين يلجأ . استعرض بيوت الأقارب والمعارف مرات ومرات , و كل ما مرً بذهنه اسم أو مكان نفاه , حتى عندما دلف إلى منزل عمه لم يكن باختياره , وجد نفسه بجوار المنزل عند انسحاب العتمة أمام الضوء الشاحب لفجر جديد , و بعد طرق خفيف ومديد على الباب , لقاه عمه , مستنكرا حاله المزرية .
– يا لطيف ؟ من مات ؟
– لم يمت أحد , ولكن .. . وشرق ببكاء وعويل , مختلجا في حضن عمه .
عندما عمَ الضياء , التفتْ زوجة عمه بعباءتها , وذهبت إلى منزل شقيق زوجها تستطلع الأمر . لم يكن من الهيّنِ الدخول إلى المنزل , حيث لا يزال هناك بقيةٌ من الرجال الغامضون , الغاضبون , مستقرين في المنزل بانتظار عودة ” ماهر ” الفوضى تعم المكان , كل ما في المنزل مبعثر ومقلوب , والعيون الحمراء المتورمة تشي بالبكاء وقلة النوم . استقبلتْ زوجة العم بهمس وهمهمة غير مفهومة وانسحبت عليها عدوى الهمس , حتى استطاعت أن تُسرِبَ لأم عزيز.
– ماهر , عندنا .
داخلَ الأم شعور بسيط من الارتياح , مما شجعها بأن تهمس بإذن زوجة العم جملة وحيدة وواضحة .
– قولي لأبو جاسم , ماهر ” بِشواربِهِ ”
وأبو جاسم ” العم ” المتمسك بمهنة والده بتربية الأغنام رغم استقرار في المدينة , يجوب البادية كل سنة في أربع جهاتها , عندما وصلته الرسالة القصيرة التي حملتها زوجته , قرر ماذا يفعل .
بعد عدة أيام , خرج ماهر متنكراً بزي راعٍ إلى البادية , حيث قضى ثلاثة أشهر يجوبها مع عمه وأولاده متحينين الفرصة الملائمة للدفع به , متسللا شرقا عبر الحدود مع العراق .
منذ تلك اللحظة , لحظة ولوج ماهر الأراضي العراقية متسللا انقطع يقين أخباره , وما وصل بعد ذلك كله ضربٌ من الإشاعات والتمني .
مرة جُنّدَ ماهر في الجيش العراقي ومات على الجبهة مع إيران .
وخبر آخر- أدمى قلب أمه – بأنه عاد متسللاً إلى الأراضي السورية والقيَ القبض عليه وأعدم .
خبر يقول : شوهد هائماً ومشرداً في شوارع بغداد . وآخر يؤكد بأنه في أحد السجون العراقية .
خبر تواتر كثيراً ويؤكد وجوده في سجن تدمر , مما دفع والده الذي كان يكتب أشعار الفخر بإمبراطوريات اندثرت منذ زمن طويل , إلى تدبيج وكتابة قصائد مدح تعدد مناقب وخصال متخيلة لمتنفذين , أكدوا له بأن ماهر لا يوجد في أي من السجون السورية .
خبر يقول بأنه لا يزال يرعى الأغنام في البادية حيث أودعه عمه , وأوصاه بأن لا يغادر مكانه هذا حتى يأتي ليأخذه ففقد أثره لوفاة عمه السريعة .
خبر يقول تسلل من العراق إلى تركيا ومنها إلى أوروبا , والذي نَقَلَ الخبر من قريب له يدرس في تركيا دفع ثمن هذا الخبر سجن سنتين بسبب نقل أخبار بين المطلوبين أمنيا وذويهم . … لكن الأكيد لا أحد يعرف ماذا حصل لماهر . ثلاثون سنة مرّتْ , خرج ابن الست عشرة من منزله , لم تودعه أمه , لم يقبل يدي والديه ولم يضع في جيبه مصروفا , لم يلق آخر نظرة على أخوته ومنزله , لم يكتب آخر واجب مدرسي أعطي له , لم يفهم لماذا عليه أن يرعى الأغنام ويتسلل إلى بلد لا يعرف فيه أحد .
سنوات البحث عن عزيز
سنين تراكمت في البحث لم يبق أي فرع للأمن إلا وتم السؤال عنه , جابوا جميع المحافظات بمدنها وبلداتها وسجونها لم يتلقوا سوى جواب واحد .
– هذا الاسم ليس لدينا ولا تسألوا مرةً أخرى ؟
بعدما أعيتهم السبل لدى الفروع والمقار الأمنية , توجهوا إلى السماسرة الذين نمو كالفطر, سمسار يسلمهم إلى سمسار , وآخر يدلهم على من هو أكثر نفوذا , من يعتذر ومن يُمنيهُمْ غداً أو بعد غد سيكون في المنزل . المدخرات والمصاغ والجزء الأكبر من الممتلكات تبخر في هذا الطريق , ضاربات الفال والمشعوذين كان لهم نصيب . يُنيمونَهم ” هناك غياب قادمون إليكم ” بعد ثلاث إشارات , بعد إشارتين , بعد …. ” وبانتظار الإشارات أو الوعود , تعود إلى سعدة ملامح عزيز بعيونه وضحكته بطوله ولون بشرته , بشعره , بصخبه وسيجارته التي بالكاد تنطفئ , بعاداته , بجرحه فوق الحاجب الأيسر , بالحادثة التي سببت الجرح . بخاله في صحن وجهه . وتمتلكها همة فتاة في العشرين من عمرها , تعيد ترتيب الأثاث وتنظيفه , تحضر الطعام الذي يحبه والضيافة للمهنئين , تتحول ملامحها الهرمة إلى نضارة ووجومها وصمتها المطبق إلى ذرابة لسان وقهقهة عالية , ولا تنسى الاتصال بالفتاة التي كان يعشقها .
– شوفي يا بنتي عزيز سيخرج ؟
– يا خالة الله يفرحكم بعودته , لكن انسيني , أنا صار عندي ولد .
ما أن تنهي الإشارات ولا جديد حتى تنمحي ملامحه من ذاكرتها , وتعود ذكرى واحده تطغى على ذهنها ( البيجاما باللون ألعفني بين رجلين متجهين إلي الباب الخارجي ).
تمر السنون ولا جديد , على دروب البحث وفي زوايا الانتظار تنشئ معارف جديدة وعلاقات متينة بين أسر كان من المستحيل التصور أنها ستنشأ بينهم , للاختلاف البيئي والبعد الجغرافي , يتكون عالم سري وخاص بهم , عالم شبه معزول عن الآخرين , عالم ابتعد عنه الأقارب والأصدقاء والجيران وتعزز وجوده وتحددت ملامحه من خلال خشية الآخرين بالاتصال بهم – كمصابين بمرض معد – وكذلك خشية هذه الأسر من الآخرين من الإطلاع على أسرارهم الخاصة , وأمنياتهم الصغيرة , واحتكارهم لحزنهم الذي منحهم شيئاً من الخصوصية , والتميز وشعور مبهم بالنبالة , مما ساعدهم جزئياً بتحمل مصابهم .
حياتهم ارتسمت وتمحورت بعودة الغياب , كم من المشاريع الصغيرة واليومية تأجلت , وكم من الزيجات جمدت , وكم من الفرح انمحى , مشاركتهم المجتمع المحيط بهم تعطل لم يرغب أحد بحضورهم , سواء كان فرحا أو مأتم أو تهنئة , ولا هم لديهم القدرة على المشاركة , عالمهم اضمحل بانتظار غياب طال غيابهم , حتى قاموسهم اليومي اقتصر على بعض مفردات تثرَدَدْ بكل مناسبة في التهنئة , وفي التعزية , في التمني وفي الأحلام .
– بعودة الغياب … الله يفك أسره … الله يصبركم
ما من طعام يوضع على سفرة وما من لباس جديد يشترى , إلا وترافقه دمعة تسيل متمنية – يا ريت هذا الصحن أو هذا القميص أو هذه اللقمة او….. أو …. يطير ويحط عند …؟
في السنة الحادية عشر من غياب عزيز وضياع ماهر, أصدر الرئيس عفوا عن بعض ” الموقفين السياسيين “. ورغم تأهيله للخروج من سجن صيد نايا لمدة سنة بعد قضاءه عشر سنوات في سجن تدمر . عاد عزيز إلى منزله مصفر الوجه , ناتئ العظام , بعينين زائغتين تلوبان في محجريها و لا تستقرا على شيء , ويدين مرتجفتين , يجلس مقعياً رغم رحابة المكان , لا يكاد يستقر في مكانه سوى للحظات , يخرج إلى الباب ويعود مسرعا , يقعي على الأرض أو يتقرفص فوق كنبة أو كرسي , لينطلق مرة أخرى , يزيح ستارة ثم يرخيها بعد لحظة , أو يفتح نافذة فيعيد إغلاقها . يرد على محدثه مطأطأ الرأس بجملة واحدة ” الحمد لله , بخير بخير , أنا بخير , بخي …………. ” .
في لحظة الفرحة لم يتذكر أحد نذر سعدة ولم يتوقع من تذكر إن وجد بأنها ستفي بوعدها , هي وحدها وبتدبير منها تذكرت الوعد , وضعت كرسي بمسند عال يسند صورة كبيرة للرئيس بإطار مذهب , وبدأت الرقص حاسرة الرأس , أمام الصورة وللصورة , وسط حلقة المهنئين ودهشتهم .
الإمارات : تشرين الأول 2010
خاص – صفحات سورية –