صفحات ثقافية

الـعـمــــى

null
عباس بيضون
قبيل الثورة الروسية استطاعت روسيا في بضع سنين ان تمتص ما احتاجت فرنسا الى عقود لإنجازه. احتفلت روسيا بالتكعيبية لكنها بدءا من 1913 بدأت تنقلب على الوافد الأوروبي وتراه دون طموحها. 1914 قال فيلونوف رائد المدرسة التحليلية إن المركز الفني ينتقل من فرنسا الى روسيا. فيلونوف انتقد التكعيبية والمستقبلية قائلاً انهما تؤديان الى طرق مسدودة. نيقولا برديانيف قال ان بيكاسو ليس الفن الجديد انه اكتمال الفن الماضي. ميكائيل ماتيوشين، أحد الرواد الروس، قال ان بيكاسو في تفكيكه للواقع بالطرائق المستقبلية يتبع الطريقة القديمة للفن الفوتوغرافي. ميكائيل لودانتو قال إنه لخطأ كبير اعتبار بيكاسو بداية. انه بالاحرى ختام، اما نيقولاي بونين فقال إننا لا نستطيع ان نرى في بيكاسو فجر فن جديد. كانت التكعيبية في نظر هؤلاء جزءاً من الماضي. أما المستقبل فكان في انظار الروس، كاندنيسكي ومالفيتش اللذين كانا يهيئان لفن لا تشخيصي بالكامل، كانت التعالية لدى مالفيتش فناً كونياً يخترق نطاق الجاذبية الأرضية فيما كان الفن التحليلي يتخطى المظهر والأحجام الى رصد الحركة الداخلية للأشياء، كان هناك غليان حقيقي للمدارس والاتجاهات والتجمعات. لا ننسى ان الاختمار الثوري كان عارماً على الجبهة السياسية، لقد تميزت روسيا الفلاحية بنخب رفيعة للغاية. رواية القرن التاسع عشر كانت الرواية الروسية، غوغول وترجنيف ودوستويفسكي وتولستوي. كان هناك أيضاً ازدهار الفوضوية والإرهاب الثوري فضلاً عن الماركسية. استمر هذا حتى الثلاثينيات بعد عقد وأكثر من قيام الثورة البلشفية، لكن النظام الحديدي الستاليني فرقه. هجر مالفيتش وكاندينسكي وشاغال وسكت ليفونوف وماتيوشين، وخمدت الحركة مع الزمن، لقد التهمت الثورة وبقسوة جذورها وتم مسبقاً حبس وتحديد المستقبل.
هل يمكننا ان نتحدث عن ثورة فنية فكرية مماثلة في المحيط العربي، ثمة ستون سنة من الغليان السياسي العنيف والدموي غالباً، قامت أنظمة على بند وحيد هو الحرب. انفجرت ثورات شعبية وحركات مقاومة وحروب أهلية. كان لدينا نخبنا التي رغم قلة طموحها العالمي أحدثت شيئاً في الموسيقى والمعمار والفن التشكيلي والأدب والشعر والفكر السياسي. ذلك ما دعي الحداثة، لم نصل الى تاريخ نسبي لهذه الحداثة ولم نقم تناظراً، من أي نوع، بين فروعها، أي بين الفكر السياسي والتجديد الموسيقي والمعماري والأدبي. الواضح اننا لم ننتظر هذا التاريخ لنبدأ في محاكمة التحديث العربي والمحاكمة بالطبع كانت إحباطا تاماً. لقد تكلم أقطاب عن ان الحصيلة لا تتعدى الصفر، إنها انتكاسات متكررة، نحن لم نكد نبدأ حتى رجعنا الى من وراء البداية. هذا الإنكار هو الآن معيار التقدم. الجميع يعجلون الى مغادرة السفينة الغارقة. الجميع يتنصلون منها، الاشمئزاز من الحصيلة شرط لكي لا نتحمل مسؤوليتها، لكي ننجو بأنفسنا، اما هذه النجاة المرجوة غير واضحة فنحن ننقذ أسماءنا فيما تبقى أعمالنا غالباً على الضفة الثانية ولا نعرف ماذا ينجو منها من الطوفان.
لا شك ان المصائر السياسية التي انتهينا إليها كافية لننظر الى واقعنا الراهن بقدر من الاشمئزاز والتنصل. ما وصلنا إليه عجيب بأي مقياس كان. عجيب وباعث على الازدراء وغريب بحيث اننا لا نظنه من فعل بشر أسوياء، وقلما نجد ان لنا دخلاً فيه. ويشق علينا ان ننتمي إليه او نتسمى به. انها سياسة وضيعة بالتأكيد لكن هذه السياسة لم تكن في يوم محل طموحنا. لطالما تجنبناها، الحق اننا لا نجد حصة فعلية للواقع السياسي في كل مغامرات التحديث، لا في التصوير او النحت او الموسيقى او الأدب، لقد نشأت هذه جميعها بطاقات ذاتية. ولم تكن لها صلات واضحة بالواقع السياسي والاجتماعي. كانت غالباً تخطياً لهما وخلاصاً ولو صورياً منهما، لطالما عيب على هذه النخب بُعدها عن المجريات السياسية، ويبدو الآن ان هذا التجنب كان في القرارة تعالياً ومحاولة للخروج، ببراعة، من الوحل، وخلاصاً ذاتياً. لا يسعنا الآن ان ندرج هذه المغامرة في النسيج المنحط والمتهافت للواقع السياسي، إن تفاوتاً واضحاً يفصل بينهما، تفاوتاً مأسوياً الى حد بعيد، قد يكون من مظاهر هذه المأسوية إنكار المغامرة لذاتها وتحملها الأخلاقي مسؤولية ما عن الانحدار الراهن وإدانتها الشاملة للواقع الحالي.
لكن هذه الإدانة وإن بدت حصيلة تمحيص ونقد وتاريخ. لم تمر بهذه الحلقة ولم تبن على تاريخ ونقد حقيقيين. لا نعرف ان موازنة حقيقية حدثت للفن او الأدب او سواهما، وأن تقييما حقيقيا حصل. وأن تاريخاً فعلياً انبنى، إننا الآن نلقي الى النار بأدبنا وفننا كما نلقي سياساتنا. نجد فيهما الصفر والانحدار والقهقرى التي نراها لسياساتنا. نشطّب عليهما كما نشطّب على واقعنا السياسي والاجتماعي، نزدريهما كما نزدري واقعنا ومعه أنفسنا. قد يبدو هذا صحيحاً أخلاقيا. فنحن هكذا نتحمل حصتنا من الذنب. ونشترك في العار لكن هذا النزوع الى الإدانة قد يكون ظالماً، وقد يزدري بأشياء ثمينة من الأفضل ان نحتفظ بها لمستقبلنا. ثم ان الناس يستمرون في المغامرة والأدب والفن لا يزالان جاريين متصلين. إن أمراً بالتوقف وإعدام الذات لا يصل الى أحد، وربما يغدو ذلك بدون ان ننتبه جزءاً من نزوع شعبي الى كره الذات، جزءاً من مناحة عامة لا يبدو انها تفضي الى شيء، في ظني ان بعض شعرنا وبعض رواياتنا وبعض فننا التشكيلي وبعض موسيقانا وبعض معمارنا يقولنا كما نحن، بعيداً عن البؤرة السياسية التي نتخبط فيها. يقول مكاننا في هذا العالم ومغامرتنا داخله ورؤانا له. إن وضع كل شيء على سوية واحدة لا يؤدي إلا الى عمى قد يكون صارخاً وصاخباً وإنكاريا، لكنه العمى.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى