عن معرض الفنان يوسف عبد لكي في حمص
علاء الدين عبد المولى
قال عنه الشاعر نزيه أبو عفش (الذي كان إلى جانبه يوم افتتاح المعرض):
(الفنّ ليس دار أيتام مفتوحة لرعاية المعاقين من ذوي النوايا الطيبة. الفن حرب أبدية مع الكمال.
الكمال ؟ ما أرعب هذه الكلمة! ما أفظع هذا الطّموح!
منذ ذلك الوقت ويوسف عبد لكي يتعارك مع كماله. ينقضه ويعليه. يشك ويوقن. لا يكاد ينتهي من مطاردة حلم (أو مطاردة كابوس) حتى يقلب الخريطة كلها.. ليبدأ من جديد.
ودائما كانت لديه نقطة صفر جديدة ينطلق منها. دائما كان لديه ما يحلمه، ويعيش لأجله. ودائما لديه ما يكفي من زوادة الزاهد، الحكيم، الصارم والمتطلب: عابد الفن.
من المستحيل على أي فنان ان يواصل ـ سنة بعد سنة ومجازفة بعد مجازفة ـ النحت في صخرة أحلامه ويظل جيدا. لكن يوسف عبد لكي استطاع أن يفعل)
***
يوسف عبد لكي يعرض في صالة الشعب في حمص… (13 – 23/10/2010) هذا حدثٌ تاريخيّ عميق وكافٍ لأنْ يعيد الإنسان علاقته مع الحرية إلى نقطة السّؤال الجوهريّ… لأن هذا الفنان الاستثنائي أصبح معادلاً موضوعيا للحرية وكفى. هل ندخل في تفاصيل ذلك؟ صار الحديث عن تفاصيلها مملاًّ. الآن علينا أن نستوعب الأمثولة الأخلاقية والرمزية التي تركتها لنا تجربة عبد لكي مع المنفى والتحدي والرّجوع والإصرار على مواصلة الرّقص مع آلهة الحريّة… ممتع يوسف عبد لكي وموجع عندما يقدم لنا رقصاته على شكل لوحات سوداء… ما هذا السواد يا معلّم؟ إنّه السّواد الذي يفتح الأعماق على تعدد الألوان والمساحات الخضراء والمنفية في أقصى الذاكرة. إنه السواد السيد الذي لا يتمكن من اعتقال يوسف عبد لكي لأنه فنان مبدعٌ ينقلب على كل ما هو أسودج وينتصر عليه بأن يستنبط منه التعدد والتنوع والاختلاف…
إذاً: يوسف عبد لكي مرَّ من حمص… وأقامت أعماله في القلوب القلقة والأذهان المتسائلة أكثر مما أقامت في العيون الخارجية… كان متواجدا مع لوحاته وأشخاصه وذاكرته التي يعرفها الجميع. يكمل بحضوره رمزية اللوحة ومعناها ومقولتها اللونية الآسرة. أسماك في لوحاته محتنقة مذبوحة تنظر في المشاهد بضراوة وصراخٍ احتجاجيّ… فجأة يجد المشاهد أنه اصبح هو هذه السمكة ويدخل في اللوحة لينظر في شخصه الخارجي محتجا هو الآخر… ورود منكسرة ضمن فضائها الفارغ… صحون تتربع في وسط اللوحة وعلى أطرافها كائنات وثمار غير محايدة، طبيعة غير صامتة بل هي في منتهى الاحتجاج والقول العالي. لوحات سكنت الذاكرة وقالت عن مبدعها الشيء الكثير الذي لا يقال دائماً ولا يباح به…
من أجل الفيض الخاصّ الذي أسبغه بيوسف عبد لكي على متابعي لوحاته وزملائه وأصدقائه من تشكيليين وشعراء وقارب، من أجل ألا يمر معرضه مرور الكرام، كانت لنا هذه الجولة مع بعض من تشكيليي حمص وسواهم يحتفون بزميلهم الكبير بطريقتهم وأدواتهم…
نبدأ بصديقه أيضا الشّاعر أحمد دحبور:
(أعمال يوسف عبد لكي تعيد الاعتبار للتعريف التقليدي والذي كان يطلقه النقاد على الرسامين بأنهم مصورون. ولا أزال أذكرُ لوحة شهيرةً ليوسف كانت ضمن أعماله أثناء التخرج حيث ينشىء من الحصان مساحات شاسعة من التخييل… وكأنه الآن في الرسوم المعاصرة التي نراها يمسك الحبل السريّ بين الحصان القديم والموجودات التي تتشكل على مرأى منا في المساحات التي يغلب عليه اللون الأسود والأبيض. هنا لا تجد ما يمكن أن يوصف بـ ( الجوّ ). إذ أن لوحته تركّز على الكتلة التي تشكل البؤرة الأساسية للعمل.
ويتيح لوناه الأسود والأبيض في إضفاء كثافة على العمل تخرجه من حيزه الفيزيائي المحدود. فهذا الفنان ابن الحياة الشعبية بتفاصيلها، لكنه حين يأوي إلى لوحته لا يصطحب معه أدوات الواقعية الاشتراكية مثلاً، بل يشحن عمله بقوة تعبيرية تحيل المشاهد إلى ما يسمّى بالنص الغائب. أي أنك ترى اللوحة لا بالعين الفيزيائية الموضوعية، بل بما تسحبه من ظلال وإيماءات تؤكد خصوصيته بحيث أنك بعد هذا العرض مباشرة تستطيع أن تعرف لوحة يوسف عبد لكي حتى واو لم يمهرها بتوقيعه.)
إنها الحياة بكل ما تحمله من قسوة وجبروتٍ
معتصم دالاتي (كاتب وناقد فني):
(أول ما يلفت النظر في لوحات الفنان عبد لكي تلك التقنية المشغولة بسويّة عالية. فالتجربة التشكيلية للفنان تتيح له امتلاك تلك التقنية العالية، ولا سيّما قضيتان أساسيتان في تلك اللوحات لا يستطيعُ امتلاكهما إلا فنان بتجربة فنية عالية أولاهما الحجم الكبير للّوحة ممّا يجعلُ القبض عليها وتغطية كامل مساحتها أمرا ليس بالسهل إلا على من كل يمتلك تلك الخاصية. والشأن الآخر هو اللون الواحد وهو اللون الأسود وتدرّجاته، الذي لعله في بعض الحالات عند الفنان عبد لكي يوحي لك بالتلوين فاللون. فاللون الواحد في بعض أو معظم الأعمال يوحي لك بأنك أمام لوحة بالألوان. وهذه ميزة استطاع الفنان تحقيقها.
تبقى الموضوعات التي تعرض لها يوسف عبد لكي وهي الإسقاطات الإنسانية عن طريق بعض الطيور والأدوات الحادة التي تقف على طرفي نقيض لأنّ الآلة الحادة هي تقضي على الحياة، ويبقى الطائر المستسلم إلى قدره هو الضحية… إنها الحياة بكل ما تحمله من قسوة وجبروت لا إنساني.
ترى ما هو الشعور الذي ينتاب المتلقي وهو أمام لوحة غصن الزنبق الذي تخترقه مجموعة من المسامير؟ ترى هل يرمز الفنان في معظم لوحاته تلك إلى الإنسان؟ لا شكّ في ذلك وإلاّ فما هو مبرّر تلك الأعمال لفنان عالي الفنية يحظى بكل الاحترام في ساحة الفن التشكيلي؟)
بسّام جبيلي (فنان تشكيلي)
(الطّبيعة الصامتة تتجه نحو الخارج وتمحّص الأشكال وحالاتها عند الانطباعيين، وذلك بمختلف تحولات الضوء. ولكن بقيت الطبيعة الصامتة هذه شكليّة عند الانطباعيين والتّكعيبيين. ونراها أصبحت عن يوسف عبد لكي تتجه نحو الداخل وتؤكد على دوام الأشياء مقابل تلاشي الزمن. تركيزه في هذا المعرض على قضية النظرة الوجودية للحياة وهي نظرة تمجد الحياة عن طريق تعميق تراجيديتها، وشعورنا بهشاشة وجود الإنسان والكائنات. وهذه الدلالة تفرضها اللوحة ببنائها الشكلي. حيث للفراغ دور مماثل، إن لم يكن في أهمية، الأشكال. (الفراغ) أصبح بحد ذاته شكلاً، لأنه يساهم في تعميق فكرة سيطرة الحالة السّديمية للوجود، ومحاولة الأشياء التشبث بخيط الحياة مهما كان واهياً.
الميزة الأبرز في اللوحات بما أنها مبنية بتقنية غرافيك الفحم هي اختيار حجم اللوحة الكبيرة. وهذا يساعد في تعميق إدخال المشاهد إلى فراغ اللوحة. علما بأن يوسف عبد لكي كان متقشفاً في اختيار الحدود بين الأسود والأبيض (الحدود التي يجب أن يتوقّف عندها). وإذا شبهنا (تونات) اللون بالموسيقى واعتبرنا أن الامتداد بين (دو – قرار) و(دو – جواب) / أي مسافة الأوكتاف / فإن عبد لكي يبدأ بالأسود على أنه قرار، ولكنه لا يستفيد من كل الإمكانيات الرمادية للوصول إلى الأبيض، وبالتالي يختصر أدواته إلى نصف (الأوكتاف) تقريباً.
قضية الكائن الذي يذكّر بعبثية الوجود حيث نرى أحيانا أنّ (الفراشة) تأتي إلى (الجمجمة). رهافة الفراشة وعمرها القصير مقابل الجمجمة الباقية مئات السنين لا حياة فيها، والتي في الأساس كانت عبارةً عن كائن له نزواته وحياته الخاصة بكل ما فيها…
بالنسبة للحداثة التي تظهر في اللوحات والتي يعطيها الاختلاف ويميزها عن لوحات الطبيعة الصامتة التقليدية هو وجود الفراغ كبناء.والذي يعطيها شيئا من الحداثة. ولكن الملاحظة الأساسية أن البناء دائماً كلاسيكيّ رغم محاولة بناء لوحة حديثة. فالأشكالُ أغلب الأحيان تبقى في منتصف اللوحة (في مركزها) وتعتمد على البناء الهرميّ غالباً، وهو البناء المعتمد لدى الكلاسيكية. وربما هذا لأنّ الفراغ يُجبر الفنّان على طريقة في التّعامل مع الأشكال كبناء في اللّوحة).
تعلمنا منه الصبر في العمل والدقة
فريد جرجس (فنان تشكيلي):
(الفنان يوسف عبد لكي قامة كبيرة في مجال الفن التشكيلي والنقد الفني. ومعرضه في صالة الشعب بحمص هو هدية لطيفة ومهمة لمتابعي الفن ولزملائه الفنانين التشكيليين في مدينة حمص.
قدم مجموعة لوحات بالأبيض والأسود وبرهن بشكل واضحٍ عن المقدرة التي يتمتع بها والتفرّد في طرح أعمال فنية مفعمة بالإبهار من حيث الشكل والمضمون.
تعلمنا منه الصبر في العمل والدقة وكيف أن الموضوع مهما كان يصاغ بفنّ راقٍ ومهمّ.
يوسف عبد لكي وكأني أراه يخرج من قلب اللوحة بتقنيته وليس فقط يرسم على صفحة بيضاء فهو يعلم إلى أين يذهب وكيف وإلى أين سيصل، فيظهر الأشياء من سواد يجسد أفكاره بشكل رائع وجميل.
لقد استمتعنا بمعرضه وبحضوره وجلساته والنقاش معه يوازي أهمّية فنه وإبداعاته).
التكنيك الخاصّ الناتج عن تجربة نابعة من جهد طويل
محمّد ديب المصري (فنان تشكيلي):
اللافت للنظر أن في أعماله التكنيك الخاصّ الناتج عن تجربة نابعة من جهد طويل لكيفية استخدام الفحم وتثبيته. واستعمال مواد مختلفة للوصول إلى هذا التكنيك. والتأكيد على تدرجات الأبيض والأسود مع الاستفادة من اللون الرماديّ للوصول إلى رموز معينة باستغلال أشكال مثل السكين والعصفور، بالإضافة إلى المسامير المدروسة بشكل واقعيّ ودقيق.
وندوةٌ عن تجربته وتاريخ الفنّ التشكيلي السوريّ:
قبل انتهاء المعرض بيومين، كانت صالة الشعب وحشود زوارها على موعد مع يوسف عبد لكي، الذي أحب أن يتحدث بصراحة عن رؤيته لبعض مسائل الفن التشكيلي في سورية، إضافة إلى حديث خاصّ عن تجربته مع لوحات المعرض والتكنيك المعتمد فيها وما إلى ذلك…
في بداية مداخلته اعترض يوسف عبد لكي على التّحقيب الزمني لتاريخ الفن التشكيلي في سورية لأن تاريخ الفن هذا لا يقاس بالعقود والأكثر حصافة أن نحقب اعتماداً على مراحل مهمة وأحداث مؤثرة. حيث كان يقال فن مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى وما بعد الحرب مثلاً.
تلقّى جيل الرّواد صدمةً في التّعامل مع الغرب وهو جيلٌ له همّ أساسيّ. واستمدّ التقنية الغربية بتمام تفاصيلها.
في نهاية الخمسينيات أصبح للفنانين تراكمات وتشكلت لديهم ثقة بأنفسهم. وبدءا من الستينيات كان أبناء هذا الجيل مختلفا متزامنا ذلك مع صعود الفكر التحرري – الفكر القومي…الخ) مما صنع عجينة، أو بذرةً ليفكر الفنانون بمفهوم الهوية.
فبدأنا نرى سؤال الهوية أساسياً عند (نذير نبعة ومحمود حمّاد والياس الزّيات…) ورأينا في هذا المجال لوحاتٍ فيها زخارف شرقية أو لوحات قوامها الحرف العربيّ وبدأ يظهر الاهتمام بالحياة اليومية
حتى بداية السبعينيات صار هناك نقلةٌ – ربّما كانت بطيئةً – قائمة على تحسّس الناس ليس لمفهوم الهوية فقط، بل للمسائل الاجتماعية. حيث هنا صعدت أنظمة تحت شعارات سياسية تحررية كبيرة تكشّفت عن طبيعة محدوديّتها قياساً لعِظَمِ شِعاراتِها. وبالتّالي تحسس الفنانون مثل هذه المسائل بشكلٍ أوضح. وصارت اللوحة فيها (فقراء وشحّاذون…) في نوعٍ من الفانتازيا والإدانة لمجتمع استهلاكيّ. نرى وجوها محروقةً عند نذير إسماعيل.
انتهت هذه المرحلة دون ملامح واضحة. ثم بدأت فترة أصبح فيها الفنانون في مكان آخر مع مطلع التّسعينيّات مع تغيّر الخارطة السياسيّة فتغيّرت طرق التفكير السائدة وانعدم الوزن الفكري والسياسي والوزن الثقافي معاً. لذلك نرى جيلا جديداً لديه هموم وأسئلة مختلفة تماماً.
الآن الطرف السّياسيّ الذي يقتني اللّوحة هي الدّولة. وقد كان دورها دوراً راعياً ضعيفاً مع ذلك شجّعت الفنانين أن يعملوا من خلال شراء بعض من لوحاتهم.
الآن صرنا أمام وسائل اتصال جديدة نرى الفنانين معها أكثر قدرة على معاينة عشرات بل مئات الأعمال الفنية فاطلعوا على أنماط تعبير لم تكن معروفةً في سورية، أنماط محمولة على قدر هائل من الدعاية. جيل حضرت لديه فكرة السوق والمال، حضرا معه فنون جديدة لا تنتمي لتاريخه ولا هويته، فنون تلقى دعما من جهات أوروبية. إنه جيل يتعرض لتحديات وضغوط ما كانت موجودة سابقاً.
وعن أعماله في معرضه الحالي يقول عبد لكي:
أعمال تنتمي إلى الشغل الأخير الذي أسعى منذ 15 سنةً الأخيرة إلى إنجازه. التقنية هنا هي الفحم والورق. أعمال فيها التباس. تنتمي إلى طبيعة صامتة. والطبيعة الصامتة مفهوم ابتكره الأوروبيون في القرن التاسع عشر. وكانت موضوعات الطبيعة الصامتة تقدم موضوعات كان ينظر إليها سابقاًٌ على أنها مرذولة وثانوية. (التفاحة – الصحن – المزهرية – الوردة…) ولكنها كانت لوحات تزيينية وتجميلية بينما الطبيعة الصامتة في لوحاتي لا تقدم موضوعات للتجميل ولا للتزيين ولا هي لوحات مريحة.
أستخدم في هذه الأعمال المنظور الشّرقي وأدمجه مع المنظور الغربي لأن أوربا جزء من ممتلكاتي ومن ممتلكات أي فنان في العالم. والقطيعة مفتعلة بين فن شرقي وفن غربي أو فلسفة غربية وفلسفة شرقية.
وعن عنصر الفراغ المهيمن في جميع أعماله في هذه المرحلة يقول: إن أي عنصر يأخذُ قيمة مختلفة إذا وضعناه في فراغ كبير. حتى المتلقي يتلقاه بشكل مختلف عندئذٍ. الفراغ الكبير هو من معاينتي لطرق الرسم بالحبر الصينيّ. الصينيون يرون الكائن الإنساني نقطة صغيرة جدا في الكون الكبير جداً، على عكس المنظور الأوروبي حيث يعتبر الإنسان هنا مركز العالم ولذلك يحتل الانسان معظم المسلحة في اللوحة وذلك ما لا يفعله الصينيون.
تحدث يوسف عبد لكي عن عنصر الملمس أيضاً… حيث أن الملمس ليس عنصراً إضافيّاً بل أحد أقطاب الشغل الفني الأساسية. وهو مصدر غنى للوحة. حيث لا تأتي أهمية العمل الفنيّ من قوة الفكرة والتقنية فقط، بل من قوّة الملمس أيضاً.
وعن طغيان فكرة الموت في أعماله الأخيرة. أشار إلى أن السبب يعود إلى أنّ الموت جزءٌ من وجدان البشر ويمثّل الأسئلة الداخلية للإنسان، وهذا نقيض اللوحة التزيينية.
أخيراً اعتبر هذا المعرض جزءا من تجربته بدءا من فترة الأحصنة والأحصنة المقيدة. ولكن الآن يبحث عن مفهوم الهوية ليس بمعنى جيل الستينيات بل هو يبحث عن هويته كانسان يعيش في محيط إنسانيّ. وقال إن همي الأساسي الآن أن يتحاور عملي مع عين ووجدان المشاهد.
***