نور.. وسنوات الضياع
خطيب بدلة
تستلقي الشعوب العربية المناضلة، المحبة للسلام والعدل، على ظهورها في فترة القيلولة من كل يوم أمام شاشات التلفزيون لتتفرج على مسلسلين تركيين كل واحد منهما يتألف من مئة وخمسين حلقة وسطياً، أي أنه أطول من شهر من دون خبز! الأول بعنوان “سنوات الضياع”، وعنوانه الأصلي “تحت الزيزفون”، والثاني اشتق عنوانه من اسم بطلته “نور”، التي كان اسمها في الأصل “جوميش”، وهذا يعني أن المسلسين قد تعرضا للإعداد أثناء الدبلجة، واقتربا بذلك من البيئة الشامية المعاصرة.
ولعل الاستقطاب الجماهيري الكبير الذي حققه هذان المسلسلان لم يقتصر على استلقاء الجماهير العربية على ظهورها في فترة القيلولة، بل تعداه إلى جلوس معظم أفراد هذه الجماهير أمام شاشات التلافيز، في الليل، لمشاهدة الحلقات نفسها، ومن ثم خوض المناقشات المطولة، صبيحةَ اليوم التالي، حول الحلقات المشاهدة، واستعرض ما قالته نور، وما قاله الوسيم مهند، ورفيف، وعمر، ويحيى.. والشاطر من هذه الجماهير هو الذي يعرف، أو يتوقع، أو يرهص بما سيجري من أحداث في الحلقات القابلة، وذلك تماشياً مع المبدأ العربي الرفيع المستوى الذي يقول: الكف لمن سطره!
وبعد النجاح الجماهيري الكبير الذي حققه مسلسل “نور”- جوميش سابقاً- ارتأت إدارة الـ إم. بي. سي عرضَه على محطة (إم. بي. سي 4)، وذلك ترسيخاً للفائدة المرجوة، وتعميم النفع الذي يعطيه المسلسل على أكبر عدد ممكن من المشاهدين، بدلاً من ترك هذا النفع حبيس الأدراج في استوديوهات المحطة.
بعد البدء بهذا العرض على (إم. بي. سي 4) أصبح بإمكان الجماهير المعطاءة والكادحة أن تعوض ما فاتها من حلقات “نور” الفائتة، أو ما التبس عليها فهمه منها خلال المشاهدة الأولى، فتترسخ الأحداث في الذهن وتستقر الثقافة العميقة والفكر النير اللذين يطرحهما المسلسل في الذاكرة، وبذلك تصبح هذه الجماهير مهيأة لمواجهة قضاياها المصيرية الكبرى بقوة وثبات وإصرار وصمود وتصدي!
وإذا كان لا بد لنا من إبداء ملاحظة جانبية حول هذين المسلسلين وما سيليهما من أعمال تركية تجري دبلجتها الآن استعداداً لعرضها، نقول إن هذا التثقيف التلفزيوني العظيم للشعوب العربية قد جاء استكمالاً لما شاهدناه قبل سنوات طويلة في مسلسل “كاساندرا” المكسيكي الذي طغى على ضمائر الناس ووجدانها حتى إن العشرات من النكات والطرائف قد جرى تبادلها حوله، والعشرات بل المئات من المحلات التجارية والمنتجات السلعية العربية الجبارة التي تأتي في مقدمتها صناعة (العلوك والبلضمينا- على حد تعبير الشيخ هديبان في مسلسل هجرة القلوب إلى القلوب) قد سميت باسم كاساندرا الممثلة المكسيكية المغمورة في بلد المنشأ،.. وجاء هذا التثقيف تتويجاً لما حققه مسلسل “باب الحارة” الجماهيري من أفكار معاصرة حداثوية أهمها الدعوات الصريحة إلى الإمعان في استعباد المرأة العربية! وهو الأمر الذي بوشر بطرحه في مسلسل جماهيري سابق يحمل عنوان “الحاج متولي”.
تسعى هذه الأفكار الجميلة، إذن، وعلى نحو حثيث، إلى رفع مستوى الناس في هذه البلاد وجعلهم يشاركون في صناعة الحضارة الإنسانية بدلاً من الوقوف أمامها على هيئة متفرجين!
الشيء الطريف في أمر مسلسل “نور” هو أن مَن ترجمه عن اللغة التركية هو صديقنا الفنان التشكيلي عبد القادر عبد اللي، وأقول لمن لا يعرف، أن عبد القادر، عدا عن كونه فناناً وناقداً فنياً متميزاً، قد ترجم حتى الآن أربعين كتاباً عن اللغة التركية، منها أربعة وثلاثون كتاباً صدرت، وستة قيد الطباعة، وهي من عيون الأدب التركي، فقد ترجم لعزيز نسين ومظفر إزجو وياشار كمال، وهو أول من عرفنا على الكاتب المسرحي الكبير خلدون طانر، وهو الذي ترجم سلسلة أعمال أورهان باموق قبل أن يحصل على جائزة نوبل للآداب، ولعل الشيء الذي رفع نسبة الجنون (أي العصبية) عند عبد القادر، وجعله يبذل محاولات جادة في نتف شعر رأسه ولحيته، هو أنه عُرف من خلال مسلسل نور أكثر مما عرف من خلال تلك الإبداعات كلها