رياض الصالح حسين عائداً في أعماله الكاملة، احتــراف النبــوءة
منال الشيخ
شكرا لكل من أعاد الحياة للحياة مرة أخرى.. شكراً لمن عدَّل مرآة ذاتنا من جديد.. شكرا لمن عدَّ الجماجم ولم يستثن الرأس الذي اقتنص الكلمات من غيمة أوزارنا. علينا بين الحين والآخر أن نكتشف الموتى بشكل آخر. رياض الصالح الحسين لم يمت ميتة تاريخية، ولم تتدل رقبته من حبل مشنقة مثل الروائي العراقي (حسن مطلك) ليكون تغيبه قسرياً. إنه يعتمد، ببساطة غيبته، بساطة غير معهودة بين الشعراء وصمته الأليف. وأنا أحاول هنا أن أجاري نفسي في قراءة أعماله الكاملة التي قدمها مشكوراً الشاعر خلف علي الخلف في موقعه الالكتروني (جدار)، تعثرت أنفاسي المتتابعة واللاهثة وراء الكلمات بكومة ذهبية ـ من النبوءات، أكاد اجزم أنني أقرأ تبصيرا أواستشرافا روحيا لما يحدث الآن وحتى اللحظة الأخيرة من القراءة رأيت تفاصيل تاريخنا الراهن. لا أعرف كيف أبدأ بما ارتكبه ولا يزال يرتكبه من شعر هذا الشاعر الذي لم أكن أعرفه لوقت قريب. وكيف لي أن أبدأ وهولم يبدأ ولم ينته.
مثلما يقف الشاعر في أوائل قصائده مكتئباً حزيناً مستاء ومنفتحاً كالبحر، أقفُ مشدوهة لهذا الحزن الذي لا ينتهي ولا يتوقف حتى بعد توقف نبضاته. ثمة أيقونتان في أعمال الصالح: الحزن والنبوءة، وها أنا أقف لأحدثكم عنه ليس مثل نهره الصلب، المتماسك والمستمر، لان أنهارنا باتت محرمة، تصدر في حقها فتاوى (شرعية)، بل أقف منكسرة وأنا أتخبط بين أحزان مستمرة ونبوءات مستمرة مثل نهر الشاعر.
تظهر بوادر التنبؤ في نصوصه الأولى. مجموعته (خراب الدورة الدموية) الصادر عن وزارة الثقافة السورية/ ,1979 ويذكر أن الشاعر رياض الصالح الحسين من مواليد 1954 حسبما ورد في عدد من السير، من هنا يكون ديوانه الأول قد صدر وهوفي الخامسة العشرين، هذا إذا حسبنا سنة الصدور هي نقطة الانطلاقة، ولكن يبقى التساؤل: متى كتب هذه النصوص؟! ربما كتبها بسنوات سابقة على الإصدار. لا أريد قياس إبداعه نسبة إلى عمره، بل إن هدفي هوأن أقارب حجم الحزن الوارد في نصوصه وهوفي هذا العمر.
أنا رياض الصالح الحسين
عمري اثنتان وعشرون برتقالة قاحلة
ومئات المجازر والانقلابات
وللمرة الألف يداي مبادتان
لا شيء يخلق من فراغ وإلا كان مجرد نسخ أومسخ. وأظن أن ما مرَّ به الشاعر هوسبب اختلافه التام وتوازنه غير المستقر بين الجمال والتجريب. يقول:
وأذكر أنَّ المرأة الزرقاء عندما رأتني أبكي جثثًا وفقراء
قالت: عيناك مرآتان لخمسين قارَّة من الوجع
والانتظار
وقالت المرأة التي ترتدي العاصفة والوحوش:
أنت تعرف الكثير عن صبايا الأزقَّة المغلَّفات
هذه الأمثولة لنوع جاد من البحث عن جذر الأنبياء في ذات الشاعر. المرأة الزرقاء، يبقى للون الأزرق تأثير السحر وصلته اللازمة بغيبيات المجهول.. السماء.. البحر.. الصفاء والوحدة ووجوه الغرقى والمختنقين.. كل هذا الأزرق يدل على وهج خفي وبارد من الإقدام إلى لملمة تاريخ جديد لولادة نبي جديد ومواصفات كونية تليق بهذا الزمن وليس غيره. هل كان خائفاً بما فيه الكفاية لتكون عيناه مرآتين لخمسين قارة أخرى من الوجع والانتظار. وهل كان متبصراً أكثر من اللازم ليكون عارفاً بصبايا الأزقة؟! يبقى السؤال الحائر: لماذا وكيف اتجه شاعر شاب إلى احتراف النبوءة بهذا القدر الغريب؟
قبل أن أدخل بشكل أعمق إلى هذه النبوءات التي تتجلى أمامنا الآن بأشكالها المختلفة سأقف وقفة سريعة، وان كان يستحق الوقوف دهراً بأكمله للتأمل فقط ومن ثم التحدث، عند منعطفاته الشعرية الناعمة والصارخة في آن واحد.
وعندما يصبح للنافذة عينان تريان يأسي
وللجدران أصابع تتحسَّس أضلاعي
وللأبواب ألسنة تتكلَّم عنِّي
…..
والآن تعالوا لنحتسي قليلاً من الدهشة
والآن تعالوا لنمزّق خطانا المترددة
ونلفّ أوجاعنا بورق السجائر الرقيق وندخنها باطمئنان
من جديد وكحال الشعراء المتوحدين مع الذات والغوص في وهم الاغتراب يحاول أن يستنطق الموجودات الملازمة لنمو آلامه يوماً بعد يوم. مع اختلاف بسيط ورائع أن توظيف الذاتية في شعر الصالح الحسين يؤول بصورته العامة ولا ينفع إلا أن نطبقه على الهم الإنساني الجماعي. فهو جزء من كل وهكذا يرى نفسه أنه جزء من كل فرد ومن كل كائن موجود في الحياة. ولم يعتبر أن الكل جزء منه، كما الشاعر الذاتي النرجسي. هو يحاول أن يخبر المتلقي أن لا جدوى مما سيقول ما لم يحدث تغييراً وتحولاً جذرياً في كل مسامات الحياة. وبالنسبة له الحياة المخملية مغيبة، ولذا مساماته تأتي على شكل فجوات باتجاهين، يدخل ويخرج ما تيسر من حزن إلى جانب بصيرة مختلفة تماماً لتترجم هذا الحزن والألم إلى لغة أخرى ستكون صالحة للقراءة في يوم من الأيام.
شاعر المصير
تَمَيُز الشاعر رياض في إظهار شعريته الحقيقية النابعة من كونه إنساناً ذا اتجاهات غير محددة. فهو يقتحم كل بوابة يراها أمامه دون أن يحسب حساب الخطوة التالية، وما الذي يمكن أن ينتظره وراء تلك البوابات، لأنه متمكن من أدواته الكتابية المسنودة بطاقة ذهنية توازيها. جمال كتاباته يكمن في حضور الوعي واللاوعي أثناء الكتابة بالمقدار نفسه. لا غلبة جانب على الآخر، وهذا ما أوصل أعماله إلى درجة معقولة نستطيع أن نقول فيها: هنا يكتمل الشعر! يتعمد الشاعر باستخدام بصيرته المدروسة في انتقاء الصورة الشعرية الخالصة والخاصة به. وذلك ليدحض مقولة ضرورة تغييب الوعي أثناء الإبداع وحضور الجنون بشكله التام ليصل العمل إلى مستوى الخلق. مما أقرأه لا يمكن أن أعزو ما يكتب إلى وجود الموهبة فقط، ولكن هناك أمراً آخر، في رأي، أخطر بكثير من الموهبة والعلم بكيفية كتابة الشعر: المعرفة والاستشراف. لا يمكن أن أطبق مقولة إن كل شاعر نبي في رقعته الفكرية التي يشتغل عليها، ولكن أستطيع أن أجزم أنني كنت أقرأ شبه تقدمة لمستقبل نعيشه حالياً مروراً بالعيون الزرق الغازية وسلاسل الدبابات التي تدهس كرامة الانسان، وهذا الحرمان من تراب وطن غائر في ضمائرنا ومن روحه وريحانه، ولا يظهر جلياً الا في خانة (الجنسية) الوهمية التي لا تمنح الا غربة وارتحالا داخليا بين قضبان الذات.
لقد وجد رياض الصالح الحسين الشعر سبيلاً لإيصال ما رأى في مرآته السحرية حول مصير الجيل القادم خوفاً من مباشرة التنبؤ التي تقتل أي عمل روحي يحاول أن يتصدر قائمة التناول الإنساني وقد يدفع ثمنه كرامة رقبته الطرية على حبال معلقة دائماً أمام أنوف أحلامنا.
راعي بقر مكسيكي
يمتطي دبّابة سمينة
أسنانه في نهد خط الاستواء
وأصابعه تلعب البوكر في داريا
جزمته في طهران
ودماغه في واشنطن
راعي بقر مكسيكي
أطلق قذيفة واحدة
فأصاب ثلاث عائلات
الأولى: لم تسمع بالامم المتحدة
الثانية: لم تسمع بالامم المتحدة
الثالثة: لم تسمع بالامم المتحدة
راعي بقر مكسيكي
اطلق قذيفة واحدة
فثقب قلبي من ست جهات.
(كاتبة عراقية)