رحيل المخرج المصري سعد أردش خسارة فادحة للمسرح العربي
بول شاوول
المتعدّد الخصب بين التجارب الطليعية العربية الحديثة
العام الفائت، وفي أيلول، وفي مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي التقيته، سعد أردش، ككل دورة من هذا المهرجان، على امتداد أكثر من 20 عاماً. كان الحاضر الآخاذ ، في ادارة ندوات فكرية حول المسرح، والحاضر الجامع، والهادئ، لكن الذي يحمل ايضا في فكره النقدي، ما يجعله يتعامل مع الأوراق النقدية تعامل المفكر، والفنان، والمخرج والمنظر، وذي التجارب المتعددة في المسرح والسينما والتلفزيون.
ما كان يمكن أن تتصور ندوة لا يكون فيها سعد اردش، مواظباً، دقيقاً، متابعاً، ومرناً، من دون أن يقع في اشكال من التوفيقية البرانية، بقدر ما كان يحاول “تفكيك” الرأي، أو الموقف، أو الفكرة، وربطها أو فصلها عن “اصطناعها” أو تماديها.
شاركت في كثر من 20 ندوة في المهرجان، وكم كان يسرني عندما يكون سعد يديرها:
هذا الصوت الهادئ، الذي لم يتخل لحظة عن نكهة “درامية” او نبرة تميز مطالعاته، ولطالما قدمني “اليكم الآن… المشاكس… ويمكن يفرقعها!” وكنت افرقعها لكي يصح تكهنه أحياناً.
صديق لا يعرف المبالغة في التعبير عن مشاعره: يمكن ان تلمح ذلك في ابتسامة، او “ازيك يا بول” أو “كيف احوال بيروت” أو “انت كويس؟”.
في المرة الأخيرة، الذي قابلته فيها لمحت شيئاً من الوهن في صوته، وتعباً في ملامح وجهه، وعرفت انه خضع لجراحة، ولكن برغم هذا التعب كانت حيوية في عينيه لم تفارقه، حيوية تلمع من وراء نظارتيه، وحتى في مشيته، قلقت وسألت: “نجا من عملية صعبة” عال! وعرفت انه نفذ عملاً مسرحياً مع مجموعة شبابية: انه الفتى الاشيب الدائم سعد. جايل كل التجارب، ومارسها منذ اواخر الستينات وحتى رحيله ولم يتوقف عند اتجاه ليكتفي به، ولهذا بقي خارج كل التصنيفات: استفاد من البرشتية حيث كان للبرشتية ان تخدم رؤيته الاخراجية، من دون أن يكون سفير برشت الابدي كما كان للعديد من المخرجين والكتاب وهو اعتمد الكلاسيكية المفتوحة حيث دفعها إلى تخوم تجريبية جديدة. والاخراج فن لا تقف تجريبيته عن اي مادة أو منهج أو اسلوب (أو نص)، واشتغل على النصوص التاريخية، والسير والمسرحيات الحديثة ، العربية (لا سيما المصرية) والعالمية… وكان يحاول استنباط الحلول الاخراجية من داخل تأويلات النص، من دون بهلوانيات، او اجتراحات شكلانية، أو بهرجات فنية برانية، او افتعالات ادائية.
لهذا، يبدو سعد اردش، من المخرجين العرب القلائل، الذين اجادوا في الشغل على الممثل، واستخراج اقصى ما عنده، ووضعه على سكة الاختلاف في التمثيل بعيداً عن “المحاكاة” او السهولة… او البلادة. هكذا اشتغل على امتداد تجارب، وكان فعلاً اكثر من جسر بين المسرح “السياسي” كما بدا مع سعد الدين وهبه. ونعمان عاشور، وبين المسرح التجريبي المتعدد التوجهات: من العبثية إلى السياسي، إلى البرشتي، إلى التسجيلي، إلى التعبيري… فإلى الحركي فإلى المسرح “الشامل” والكوميدي الشعبي. جمع طرفي النقيض: الشعبي من دون شعبوية، والجماهيري من دون استهلاكي، والنخبوي من دون اقتلاع، والملتزم من دون تقنين، ولهذا فسعد اردش، أكثر من مهارات أو عرض براعات، واكثر من مجرد محرك للممثلين، هو صاحب رؤية متحركة، دينامية، مفتوحة، وعندما بدأ المسرح العربي، في التراجع، في انتهاء الثمانينات، وكادت تحل “الفرجوية” النمطية على “الدرامية”، وكادت تحل الجسدية الحركية، محل الجسد كمعمارية مسرحية او كبؤرة تحمل اسرار العمل، وعندما اختلط المسرح التجاري بالشعبي، وترك كثير من المسرحيين مواقعهم إلى أخرى تحت ضغط الحياة، او السياسة، أو الواقع، بقي سعد اردش في علوه الشاهق ، وفي قلب “قدسية” المسرح كرسالة، بل كآخر مكان للحضور الانساني والحوار والحرية والصوت والتمرد والاحتجاج والتجديد. بقي سر المسرح المسرح في يديه، وفي قلبه. اي بقي المسرح كخصوصية في مقدمة هواجسه، فالمسرح مسرح: واذا لم يحول المسرح كل المواد إلى طبيعة المسرحية، فيعني انه ذاب في الفنون الأخرى كالتلفزيون، والسينما والخطابة والتكنولوجيا والرقص والايقاعات والموسيقى فهذه كلها احتمالات للمسرح شرط أن يمتصها في لغته، لا ان تمتصه وتبيد قسماته. ولهذا، فان معظم مسرحيات سعد اردش، قدمت بتقنيات متقشفة موظفة، وبجماليات تنبع من الحاجة الدرامية، وبسينوغرافيا تخدم المناخ والحالات وخصوصاً الممثل، فلا تكون فائضاً، يعطب الجوهر المسرحي.
ونظن ان النص، (أي الممثل)، بقي عن سعد اردش اساساً في تعامله الاخراجي. فلا هو سيد العرض كما كان في العصر الكلاسيكي، ولا هو ثانوي او ذريعي كما رأينا في المسرح الذي طغت عليه التقنيات والبهرجات الشكلانية، والحركية والضوضاء.
وعندما نقول “النص” أساس المسرح، فيعني ان الحضور الانساني هو المقصود: اي الممثل، الذي صار في موجة من الأعمال المسرحية مجرد “ديكور” ملتحق بديكورات اضخم منه، او مجرد تعبير في تعبيرات أقوى منه. ولهذا، ظل سعد اردش “درامياً” بالمعنى المسرحي العميق على امتداد اعماله، درامياً متفتحاً على مجمل التجارب العربية والعالمية والفكرية: فهو مسرحي ذو خلفيات تنويرية، وذو مقدمات سياسية ملتزمة على انفتاحها.
مع هذا ظل سعد اردش، حتى رحيله، ابن المسرح الكبير، ناسكه، ومتقشفه وراهبُه وأحد قديسيه الكبار. وعندما نرى ان كباراً سبقوه كالفرد فرج وكرم مطاوع ونبيل الالفي وسعد الدين وهبي ويوسف إدريس وسمير سرحان وسعد الله ونوس… نجد كم ان الفراغ يتسع، بعدهم جميعاً. ونشعركم نحن، وفي هذه الزمن بالذات، نحتاج اليهم، في هذا الزمن الذي يبدو فيه مسرحنا العربي مهدداً اكثر من اي وقت مضى.
فيا ايها الصديق الكبير، هل نقول لك كم تملكنا الحزن. والأسى فيا أخي الكبير، كيف يمكن أن نتصور ندوة فكرية لا تديرها، ولا تحييها، ولا تحركها ولا تفتح مغاليق افكارها، بذلك الهدوء، وبذلك العمق وبتلك المرونة وايضاَ بتلك “اللذعة” المحببة.
المستقبل
سعد أردش… بدأ بالتجريب وانقلب عليه
محمد الحمامصي
أخرج مئة مسرحية ومثل أدواراً قليلة
جاء رحيل المخرج والفنان والمعلم المسرحي سعد أردش الأسبوع الماضي (عن عمر84 عاماً) ليمثل خسارة كبيرة للمسرح المصري والعربي على السواء في وقت يمر فيه هذا المسرح بمشكلات معقدة وملتبسة، كان الراحل كثيرا ما يشير إليها في أحاديثه متحسرا على الفترة الذهبية للمسرح والتي عاشها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حيث يعد أحد أبرز المسرحيين الذي خرجوا من عباءة الثورة المصرية والمشروع القومي الناصري التي رأى أنها ـ الثورة ـ قدمت دعما كبيرا للفن والفنانين (هو أول مخرج يدرس الإخراج المسرحي في أوروبا / إيطاليا بعد ثورة يوليو 1952). ولو ألقينا نظرة سريعة على الأعمال المسرحية التي قدمها سنجد أنها ارتبطت بالقضية الوطنية والقومية وبرؤيته الأيديولوجية ومنها (الأرض) لعبد الرحمن الشرقاوي (النار والزيتون) لأفريد فرج و(سكة السلامة) و(بير السلم) و(كوبري الناموس) و(المسامير) لسعد الدين وهبه و(يا طالع الشجرة) و(المخططون) ليوسف إدريس و(باب الفتوح) لمحمود دياب، هذا عن الكتاب المصريين الذين ينتمون لجيله، لكنه قدم أيضا للمسرح الكلاسيكيات اليونانية والإيطالية والمسرح العالمي مثل مسرحية (أنتيجون) لسوفوكليس والتي عرضت على مسرح الأوبرا القديمة قبل احتراقها في أوائل السبعينيات، ومسرحية (البرجوازي النبيل) لموليير، ومسرحية الذباب لسارتر، و(القاعدة والاستثناء) و(الإنسان الطيب من ستشوان) و(دائرة الطباشير القوقازية) لبريخيت. وهاتان المسرحيتان الأخيرتان لبريخيت كانتا بداية تقديم منهج بريخيت الملحمي والتعليمي للمسرح المصري. لقد كان أردش يرى أنه لا مسرح بلا أيديولوجيا، ومن ثم ارتبطت أيديولوجيته بالحلم العربي، من القومية العربية، من القضايا والأخطار التي تهدد الحركة الاجتماعية العربية أو تعوق تقدمها واستقلالها. وربما يكون كتابه (مسرح سنوات الثورة) مؤكدا على توجهه فقد رصد فيه نشاط وإنجازات المسرح العربي في الخمسينيات والستينيات، هذه الفترة التي ظل حتى رحيله يدافع عنها ويرى فيها أزهى فترات المسرح وأهمها.
مسرح الجيب
في عام 1952 أسس أردش فرقة المسرح الحر مع عبد المنعم مدبولي وزكريا سليمان وعبد الحفيظ التطاوي عدد من متخرجي المعهد العالي للفنون المسرحية، وهذه الفرقة هي أول الفرق التي تكونت في الخمسينيات، وقدمت مواسم مسرحية، هذه الفرقة التي قدمت أول ما قدمت (بيت الدمية) لابسن، ومسرحية (ماهية مراتي) واكتشفت نعمان عاشور وقدمت له أولى وثانية مسرحياته (المغناطيس) و(الناس اللي تحت).
وقد أسس سعد أردش مسرح الجيب عام 1962 وافتتحه بصرخة من صرخات اللامعقول حيث قدم على خشبته أول عمل مسرحي عبثي وهو عمل (لعبة النهاية) لصموئيل بيكيت، ليعلن بذلك دعوته للتجريب، وليتولى رئاسة أول دورة لمهرجان المسرح التجريبي عام 1988 الذي هاجمه بعد ذلك واتهمه بأنه تسبب في تفتت المسرح وضياعه حيث لم يضع في اعتباره مسألة المحافظة على المسرح التقليدي وأطلق العنان للتجريب مما أصاب المسرح التقليدي بالتفكك والتخلف، مؤكدا انطلاقا من رؤيته القومية على أنه لا يجوز التجريب على مسرح لم يزرع بعد في معظم البلدان العربية .
وفي حوار لي معه منذ عامين سألته عن قلة تمثيله في المسرح واكتفائه بالإخراج وعن الأعمال التي شارك فيها فقال: بالفعل مثلت للمسرح مرات قليلة جدا منها دور عبد الهادي بطل مسرحية الأرض، ولم أكن من المفروض أن أمثله، لأن القاعدة أن مخرج العمل يكون في الصف الأول للمتفرجين ولا يشارك في العرض، لكن الفنان حمدي غيث الذي كان يمثل دور عبد الهادي لظروف سياسية بمعني تصادم بين القيادات منع من تقديم الدور فلم يكن أمامي إلا القيام به، والعمل الثاني الذي شاركت فيه تمثيلا (الحصار) لميخائيل رومان وهو من المسرحيات التجريبية القليلة جدا في تاريخ المسرح المصري المعاصر، وجلال الشرقاوي أخرج العمل بحكنة ومقدرة شديدة، كما قدمت مسرحية الكل في واحد وهي عبارة عن ملخص لفكر وفلسفة ومسرح توفيق الحكيم وأخرجها ممدوح طنطاوي.
تشكيل الوعي
ويذكر أن أردش بدأ حياته التمثيلية من خلال الإذاعية قبل دخول التلفزيون، ومن أدواره للإذاعة والتي لا يكاد أحد يذكرها (قصص القرآن) للكاتب محمد على ماهر والمخرج يوسف حطاب، وأيضا مسلسل ألف ليلة وليلة الذي كان يخرجه محمد محمود شعبان (بابا شارو)، ولم يقتصر الأمر عند ذلك بل قدم عددا من المسرحيات العالمية، وعند دخول التلفزيون عام 1961 قدم عمله الأول لا تطفئ الشمس عن قصة إحسان عبد القدوس وإخراج نور الدمرداش.
وظل أردش الذي أخرج للمسرح قرابة المئة مسرحية يواصل العمل حتى أعجزه المرض وإن كان بشكل أقل كثيرا عن فترات سابقة، فقدم في السنوات الأخيرة عددا من المسلسلات التلفزيونية وأخرج أكثر من مسرحية منها مسرحية «يا طالع الشجرة» لتوفيق الحكيم والتي مثلتها أمينة رزق قبل رحيلها، ومسرحية «الشبكة» المأخوذ عن «سقوط مدينة ماهوجني» والذي عرض على خشبة المسرح القومي في الصيف الماضي والتي تعد آخر مسرحياته.
ومن أهم إنجازات أردش بعيدا عن المسرح تمثيلا وإخراجا أنه تخرج على يديه سواء في المسرح أو في قاعات الدرس أجيالا عدة من الفنانين والمسرحيين في مختلف الدول العربية، فمنذ عودته من إيطاليا عام 1961 وهو يدرس علوم المسرح، وله اسهامات بارزة في تشكيل الوعي المسرحي في مصر والجزائر والكويت.
وفي التلفزيون شارك أردش في العديد من الأعمال الدرامية، وربما من أشهرها (لا تطفئ الشمس) و(الوجه الآخر) و(المال والبنون) و(محمد رسول الله)، أما في السينما فالأعمال التي شارك فيها قليلة جدا قياسا للمسرح والتلفزيون، على الرغم من أن أول ظهور له كان سينمائيا في فيلم (ظهر الاسلام) عام .1951
وسعد أردش من مواليد مدينة فارسكور بمحافظة دمياط 21 أكتوبر ,1924 كما حصل على ليسانس التخصص في الإخراج المسرحي من اكاديمة الفنون المسرحية بروما عام .1961 وقد عمل رقيبا عام 1950 ثم مديرا عاما لمكتب المدير العام لمصلحة الفنون عام 1956 وسكرتير دار الأوبرا المصرية عام ,1957 وعمل الفنان أستاذا ورئيسا لقسم التمثيل والإخراج بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وتدرج في عدة مناصب حتى أصبح رئيسا للبيت الفني، كما كان عضوا في لجنة المسرح بالمجلس الاعلى للثقافة. ونال الفنان الراحل الذي أطلق عليه الراحل د. سمير سرحان (شيخ المسرحيين) العديد من الجوائز والأوسمة منها وسام العلوم والفنون عام 1967 وجائزة الدولة التقديرية من المجلس الأعلى للثقافة وكرمه مهرجان المسرح الكويتي في دورته السابعة ,2004 كما حصل على جائزة الشارقة للإبداع المسرحي عام 2007 .
وللراحل العديد من المؤلفات الفنية والدراسات والأبحاث أهمها «المخرج فى المسرح المعاصر»، «خادم سيد درويش»، «ثلاثية المصيف»، «جريمة فى جزيرة الماعز»، «البرتو مورافيا» و«الحفلة التنكرية» و«انحراف في مقر العدالة»، «أجويني»، «بياتريس»، و«كارلو جولدوني» وهي سلسلة مسرحيات عالمية، وله العديد من الدراسات في العديد من الدوريات المتخصصة بمصر والعالم العربى مثل المسرح ـ فصول ـ الإبداع الفنى المعاصر ـ أعلام العراق ـ العربى ـ البيان.
(القاهرة)