صفحات ثقافية

رحيل إدمون عمران المالح

null
إدمون المليح… المغربي اليهودي الذي عادى إسرائيل
معن البياري
لا مجازفة في القول إن ما من كاتب يهودي ناوأ إسرائيل والصهيونية بقدر ما ظل يفعل إدمون عمران المليح، وهو الذي كان يشدد على مغربيته قبل التأشير إلى يهوديته، وكان يزعجه التركيز على ديانته في المقالات الصحافية عنه، وعبر عن ذلك لكاتب هذه السطور عندما نشر مقابلةً معه في «الحياة»، جاء العنوان الفرعي فيها عن يهوديته فيما أراحه العنوان الرئيس: «ما زال ضرورياً أن نحمي أنفسنا من إسرائيل». نشرت المقابلة في 1 آذار (مارس) 1994، وقال فيها المليح الذي رحل الاثنين الماضي عن 93 عاماً إن تلك الضرورة باقية على رغم الزخم الذي أحدثه في حينه توقيع اتفاق أوسلو. وجاء سؤال في المقابلة عن الهاجس القوي الحضور في رواية «ألف عام بيوم واحد» (1986)، وهو نزوح يهود مغاربة كثيرين إلى إسرائيل، ما وصفه بأنه «كارثة في التاريخ اليهودي». وفي موقع آخر، قال «الحاج إدمون»، كما كان يناديه بتحبب أصدقاؤه فيتهلل وجهه: «دور المثقف في أمته حاسم، والأدب تعبير عن حياة الأمة وبنيتها التي ترتكز على الثقافة، ما يعني أن على المثقف والأديب والشاعر مسؤولية كبرى».
بعد تجاوزه الستين عاماً، جاء أستاذ الفلسفة القديم إدمون عمران المليح إلى كتابة الأدب، الرواية والقصة والمحكيات تحديداً، وإلى الانشغال بالتشكيل المغربي، وكان مساره عريضاً في النضال الوطني، فقد انتسب إلى الحزب الشيوعي المغربي في 1945، وصار عضواً في مكتبه السياسي، وناضل في إطاره ضد الحماية الفرنسية في المغرب، وكتب في صحيفته الفرنسية باسم مستعار عن العمال والفلاحين والفقراء، ثم قطع مع السياسة بمعناها الحزبي منذ 1959، غير أنه تعرض للاعتقال في 1965 إبان أحداث أو احتجاجات الدار البيضاء في ذلك العام، فارتحل للإقامة في باريس حتى استقراره في المغرب في 2000، وهناك اشتغل مدرّساً للفلسفة وفي ملحق الكتب في جريدة لوموند، ونشر مقالات في مجلة «الأزمنة الحديثة» وغيرها. وصدرت روايته الأولى «المجرى الثابت» في 1980، وهي «نص يوقظ شلال الذاكرة الغافية، ويفتح نوافذ مطلةً على الزمن البعيد القريب»، بحسب محمد برادة. وحتى وفاته، دأب المليح على رفض إسرائيل والتنديد بجرائمها، فاعتبرته «معادياً للسامية متعصباً»، ووصفته بأنه يهودي مغربي ومناضل عربي وطني.
لم يكن الراحل يعرف العبرية، ورفض أن تترجم أعماله إليها، وكان يراها لغةً غير مهمة ولا تحيا إلا في إسرائيل، ولم يكن يعرف ممارسة الطقوس اليهودية، وأودع زوجته مدرّسة الفلسفة في «السوربون»، ماري سيسيل ديفور، الثرى باللباس الفلسطيني العزيز عليها عند وفاتها في 1998. وقال مرات إنه يحلم بالصلاة في القدس عندما تتحرر من الاحتلال، وظل يدافع عن المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها، ويرفض توظيف المحرقة اليهودية لتبرير الصهيونية واستغلالها اليهود الذين ماتوا فيها ومن لم يموتوا. وفي كتاب ضم حواراتها معه صدر في 2005، كتبت الفرنسية ماري رودونيه أن إدمون يتأسف لهجرة اليهود إلى يوتوبيا تقوّض نفسها يومياً بيديها وبعنصريتها وجدارها العازل واغتيالاتها القادة السياسيين وعدم احترامها القرارات الدولية. ومشهور بيان الراحل «أنا أتهم» عن مجزرة جنين في 2004. وكان نشر عن «صبرا وشاتيلا» والغزو الإسرائيلي للبنان في 1982 مقالةً ساءل فيها يهوديته، واعتبر أن إسرائيل ترتكب جنوناً انتحارياً. وفي أثناء الحرب على قطاع غزة، نشر بيانه «إسرائيل على حافة البشرية»، ذكر مترجمه حسان بورقية أن الكاتب الكبير كان يؤثر عنواناً بالدارجة المغربية هو «لعنة الله عليك يا إسرائيل»، ووصف ما ارتكبته إسرائيل في ذلك العدوان بأنه رعب مطلق يتجاوز كل حد، وجرائم حرب حقيقية وإرهاب دولة.
قبل أسابيع، دعا المليح إلى وقف بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، واعتبرها عنصريةً تتنافى مع الديانة اليهودية، مطالباً إظهار السخط عليها باسم القيم الروحية لليهودية. وفي آخر كتبه «رسائل إلى نفسي» (78 صفحة)، الصادر عن دار الفنك قبل شهور، يجدد الراحل تنديده بالصهيونية، ويكتب أنها «حركة عنصرية وحشية تقتل الأطفال والشيوخ والشباب»، ويدين «الجرائم الإسرائيلية البشعة ضد أبناء الشعب الفلسطيني الذي يكافح بكل ما أوتي من قوة، من أجل حريته واستقلاله وحقه في وطنه». ويشير في الكتاب إلى اغتيال قوة إسرائيلية في نيسان (إبريل) الماضي القائد الميداني في حركة حماس علي السويطي قرب الخليل، عندما هدمت منزلاً وهو في داخله، بعد أن أصابته بالرصاص، ثم أخرجت جثته وشوّهتها، وكان الاحتلال يطارد الشاب ثمانية أعوام. كتب إدمون: «هذه الجريمة الصهيونية الجديدة منافية لكل الأعراف والتعاليم السماوية والإنسانية، وتضاف إلى سجل إسرائيل الدموي البشع».
رسائل أخيرة وتشكيل
ويوضح الراحل في كتابه الأخير أنه ارتأى أن يوجه رسائله العشر إلى نفسه بصيغة المفرد، ثم عدل عن ذلك، لأن «الاحترام اللازم الذي توفره أضحى عملةً نادرةً في زماننا»، فوجهها إلى قرينه بالصديق والصديق العزيز والآخر العزيز والرقيب العزيز والصديق والعدو اللدود والعزيز و «الصديق الذي لا أمل في تغييره». وكتب: «من منا لم يشعر مرةً في حياته بالرغبة في أن يكون مزدوجاً، بل متغرباً أو غريباً عن ذاته، وهي العلامة التي تدل على تعقد الشرط الإنساني». وفي مقابلة صحافية معه بمناسبة صدور «رسائل إلى نفسي»، قال إدمون، الذي وصفه أحد مؤبنيه بأنه كان طائراً حراً من النوع النادر، «عادةً ما تنسج أساطير حول الكتابة، وتنسج حول الكاتب هالة، فيما الأمر بسيط، فهو يكتب مثلما الآخرون يرسمون أو يغنون أو يبيعون الخضر».
قبل هذا الكتاب، صدر في العام الجاري كتاب «33 يوماً في لبنان»، يضم لوحات لحسان بورقية مع نص للراحل، يضم 33 لوحةً مستوحاةً من الحرب الإسرائيلية في 2006، و «تعبر عن رعب فظيع، حيث لم تعد للجثث والدمار الدلالة التي يفترض أن تكون لهما»، بحسب ما كتب إدمون، وأضاف: «تطلب إنجاز اللوحات شهوراً من الجهد الدؤوب والمتواصل الشبيه بالتأمل، ويقدم حسان إجابته فيها عن المأساة التي أحدثها العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006». ويندرج النص ضمن إصدارات المليح في التشكيل المغربي الذي رآه «رائعاً ومساره متميزاً»، واعتبر أنه يعرف قفزةً نوعيةً، بفضل شباب تشكيليين كثيرين من الطراز الرفيع. وكان قد نشر كتابه «صباغة أحمد الشرقاوي» في 1987، وله «العين واليد» عن التشكيلي خليل الغريب، و «رحلة الجير البحرية»، وأصدر في 2003 كتابه «نور الظل» عن الفوتوغرافي أحمد بن إسماعيل.
توازت كتابات المليح حول الفنون والمعارض التشكيلية والفوتوغرافية المغربية (لم يكن يحب وصفه ناقداً فنياً)، مع أعماله السردية التي تحضر فيها العادات المغربية وكذا كفاح بلاده من أجل الاستقلال ثم من أجل العدالة، وتعبر فيها خيوط من سيرة كاتبها وذاكرته. وبالإضافة إلى «المجرى الثابت» و «ألف عام بيوم واحد»، له «إيلان، أو ليل الحكي» (1983)، و «عودة أبو الحكي» و «أبنير أبو النور» (قصص 1995) و «المقهى الأزرق» (1998)، وأصدر كتاباً عن جان جينيه في 1995. وظل الراحل وفياً للكتابة الأدبية، فيما كان يعتبر نفسه كاتباً عرضياً جاء إلى الكتابة بالمصادفة في مسار الكفاح من أجل استقلال المغرب. وبحسب أحد مترجميه، حسان بورقية، فإن إدمون كان يكتب وفق مشروع روائي كبير فريد من نوعه، اختار له لغةً أدبيةً خاصةً ومتخيلاً مغربياً صرفاً. وقال خوان غويتسولو، في احتفاء به في مراكش في تموز (يوليو) الماضي: «عاش إدمون تجربة الكتابة كمغامرة، فظل كل كتاب يدفع به إلى دنيا القراءة بمثابة اقتراح مختلف، كما أن لغته الفرنسية التي كتب بها نصوصه خاصة به، وليست فرنسيةً كما ينبغي أن تكون، أو كما تتطلبه القواعد، بل لغة يكتبها كاتب مغربي بعمق مغربي».
إضاءة مطلوبة
لم يضئ الإعلام الثقافي في فرنسا على مرويات إدمون عمران المليح ومحكياته في كتبه، ليس بسبب ما أشار إليه غويتسولو عن خصوصية في فرنسية إدمون التي بثها روح العامية المغربية، وهو الذي كان يحمل المغرب في داخله أينما ذهب، كما كان يقول، بل ربما لخلوها من فولكلورية بأنفاس عجائبية وكليشيهات ذات إحالات جنسية، وربما لم يجعل ذلك رواج كتبه سهلاً في فرنسا التي أقام فيها عقوداً، فضلاً عن مناهضته الشرسة لإسرائيل ومناصرته الصلبة للقضية الفلسطينية. ويرى يحيى بن الوليد الذي أنجز كتابه عن أدب المليح «الكتابة والهويات القاتلة» أن مصدر صعوبة كتابة الراحل الذي وصفته «الإندبندنت» البريطانية بأنه «جيمس جويس المغرب» ليست في اللغة الفرنسية التي كان يكتب بها، و «إنما في التشظية والإيقاع اللذين يتخللان لغته المفتوحة التي تتعمق بتراث مخصوص، هو التراث اليهودي المغربي الشفوي، ما جعل لغته تتعذر على الترجمة من خارج دوائر التأويل الذي يستلزم، وعلى صعيد الترجمة نفسها، نحتاً في اللغة العربية، وهذا ما يفسر كذلك عدم ترجمة نصوصه أو كتاباته التي أنجزها في غير الرواية والسرد».

إدمون عمران المالح
اسكندر حبش
لا زلت أذكر لقائي الوحيد معه. كان ذلك منذ خمس سنوات، في معرض الكتاب في باريس. يومها، لم أكن أعرف الرجل شخصيا، فقالت لي كاترين بواسون الناشرة في دار «أندري ديمانش» (التي أعادت نشر غالبية أعماله)، «هل تريد مقابلته؟ سيأتي ليوقع كتابه في السادسة مساء».
كان لقاء طويلا. جلست لساعات برفقة هذا «الشيخ الجليل». ربما لحسن حظي، لم يأت كثر ذاك اليوم، ليوقع لهم، ما أتاح لي وقتا ممتعا إلى أقصى الدرجات. تشعبت الأحاديث حول كلّ شيء. وبالرغم من سنّه ومعرفته وثقافته، بقي الرجل متواضعا إلى أقصى الدرجات. بقيَ متقدّ الذهن أيضا، ولم يشطّ للحظة. ربما هو الدرس الأساس، والأول، الذي تعلمته من إدمون عمران المالح.
منذ أيام، غادرنا الكاتب المغربي الكبير، بصمت وهدوء، كما عاش سنيّه الأخيرة. عاشها بين الأحرف والكلمات، التي عجنها، ليصنع منها بعضا من أجمل الكتب، التي تبقى عالقة في ثناياك. كتب تعيد تذكيرنا ببديهيات، لا أعرف لِمَ نتناساها. هي بديهيات العدل والمساواة، بديهيات الحق، الذي لا يسقط من جراء «دين» الشخص، بل بقي يعتبر الإنسان وما يمثله من قيمة إبداعية وأخلاقية هي «المذهب» الحقيقي الذي يجب احترامه.
ربما ما من كاتب عربي، عرف كيف يدافع عن القضية الفلسطينية، وعن الحق السليب، مثلما كتب وحاضر وقال عمران المالح، وهو «اليهودي» المغربي، الذي لم يكن يجد في إسرائيل سوى دولة صهيونية، والذي لم يتوانَ عن التنديد بهجرة اليهود المغاربة رافضا انسلاخهم عن المحيط الذي عاشوا فيه، إذ اعتبر أنهم ينتمون إلى هذه البلاد، لا إلى دولة مزروعة غصبا.
هذه المواقف، جعلت العديد من دور النشر في فرنسا ترفض نشر كتبه، لما تضمنته من مواقف معادية للفكرة الأوروبية حول حماية الدولة «اليهودية»، ومع ذلك، لم يقدم أي مسوغات، فالموقف الأخلاقي بالنسبة إليه، كان الأهم من كل شيء.
لكن اختصار إدمون عمران المالح، على هذا الجانب، قد لا يفي الكاتب حقه. صحيح أنه بدأ الكتابة وهو في منتصف الستينيات، إلا انه وجد الوقت الكافي، ليصدر عددا من الروايات الجميلة والمهمة جعلته حاضرا على الخارطة الروائية. من هنا، ثمة مساران، المسار السياسي الذي بدأ بنضاله من أجل تحرير المغرب من الاحتلال الفرنسي، ومن ثم وقوفه مع القضايا العادلة، وفي ما بعد مسار الكاتب، الذي عرف كيف يبدع لغة خاصة به، داخل اللغة الفرنسية «الرسمية» التي تغرف كثيرا من محكية مسقط رأسه «الصوير» كما من مناخاتها الشعبية.
رحيل عمران المالح، أكثر من خسارة للثقافة المغربية وحدها. هي خسارة لمبدع أعلى شأن الأخلاق (بمعنى Ethique ) الإنسانية، من هنا نشعر كلنا برحيل واحد منّا. رحيل واحد، شكل مكانة حقيقة في وعينا الثقافي، على الأقل. لذلك من الصعب تعويض هذه القامة، في زمن، تفيض منه رائحة كراهيات الأديان المتناحرة.

رحيل إدمون عمران المالح
الكاتب اليهودي المتّهَم بمعاداة اليهود
عبد الرحيم الخصار
بعد حياة شاسعة رحل يوم الاثنين الأخير الكاتب المغربي المعروف إدمون عمران المالح (94 سنة)، إحدى ظواهر الأدب المغربي الحديث، فالرجل لم يصل إلى أرض الكتابة إلا في عامه الستين، حيث انتظر سنة 1980 ليصدر عمله الروائي الأول «المجرى الثابت»، ومع ذلك استطاع أن يحظى بلقب «الكاتب الكبير»، ذلك أنه تمكن من إبداع مجموعة من الروايات صُنفت ضمن أهم الأعمال الأدبية المغربية المكتوبة بالفرنسية.
كان واحدا من أكثر الكتّاب جرأة وشجاعة، على الأقل بالنسبة لوضعه الخاص، فهو اليهودي الذي يناصر القضية الفلسطينية ويرفض تهجير اليهود المغاربة إلى «إسرائيل»، مثلما يرفض توظيف الهولوكست لأغراض إيديولوجية، بل إنه ظل طوال حياته يردد مفهوم «اللوبي الصهيوني» في الوقت الذي انخرط فيه معظم مثقفينا في التطبيع «اللغوي»، وقد كانت مواقفه هذه سببا في رفض دار لوسوي الفرنسية نشر إحدى رواياته التي اتخذت من أحداث صبرا وشاتيلا موضوعا لها بدعوى أن الكتاب يحمل في طياته معاداة لليهود، ربما هذا ما سيدفعه للقول: «أنا أكتب بالفرنسية، لكن لغتي لا تشبه لغة الفرنسيين».
ناضل المالح في شبابه من أجل استقلال المغرب، والتحق بالحزب الشيوعي وتعرض للاعتقال، وسيترك الحزب سنة 1959 نائيا بنفسه عن العمل السياسي المباشر، وسيسافر في الستينيات إلى فرنسا ليستقر فيها أكثر من ثلاثة عقود، ليعود إلى المغرب مباشرة بعد وفاة الملك الحسن الثاني، الذي تلخصت علاقته به في كلمة واحدة هي «المعارضة».
كانت آخر مواقفه منسجمة تماما مع روح البداية، ففي الندوة التي نظمها مؤخرا المعهد الفرنسي بالرباط صرح بأن حكاية المحرقة لا يجب أن تجعلنا نغض الطرف عما يقع في العالم من جرائم، مضيفا: «إن كلمة «لا شوا la shoah» هي كلمة قامت الصهيونية باستغلالها لأهداف سياسية وإيديولوجية، وهو نفس الشيء الذي يقع الآن».
كما عبر في الفترة الأخيرة عن دعمه لنداء الشاعر عبد الطيف اللعبي بخصوص الإعلاء من قيمة الشأن الثقافي في المغرب، فالمالح كان يرى أن ما يسود الساحة الثقافية هو غبار البهرجة والتسطيح، لذلك كان دائما يدعو إلى الانتصار للثقافة الحقيقية وجعلها عنصرا مؤثرا في المحيط. كما ظل ينتقد الكتّاب الذين يمجدون الفرنكوفونية ويعتبرونها سرّ تألقهم، مؤكدا أنه يكتب أدبا مغربيا لكن بلغة فرنسية، داعيا الى نبذ الصراعات الناجمة عن الاختيار اللغوي، وعدم تجاهل الأدب المغربي الأمازيغي والمكتوب بلغات أخرى كالهولندية والاسبانبة.
مثل بروست وجويس
سيشبه محمد برادة إدمون عمران المالح ببروست وجويس في تقديم الترجمة العربية لكتاب «المجرى الثابت» الذي يتخذ من مسألة الهوية واللغة وتفاصيل حياته موضوعات أساسية له، ليس في كتابه الأول فقط، بل في مختلف مؤلفاته اللاحقة: «أيلان أو ليل الحكي» (1983)، «ألف عام بيوم واحد» (1986) «عودة أبو الحكي» (1990) «أبو النور (1995) «حقيبة سيدي معاشو» (1998) و«المقهى الأزرق: زريريق» (1998) و«كتاب الأم» (2004) وصولا إلى عمله الأخير «رسائل إلى نفسي».
يحظى الراحل بمحبة كبيرة، ليس من لدن القراء والمثقفين فحسب، بل إن البسطاء من جيرانه ومعارفه كانوا يلقبونه بـ «الحاج إدمون»، لذلك كان يقول: «في المغرب يحظى كبار السن باحترام خاص، عكس أوروبا التي تحيل كبارها على دور العجزة، وأهم شيء في بلادي هو العلاقات الإنسانية التي تترفع عن الكثير من الشروط الاجتماعية».
ولد المالح بمدينة آسفي الساحلية العريقة التي كان يحس دائما بأنه لا يزال مدينا لها، وبأن عليه يوما ما ان يرد هذا الدين، لكن أصول عائلته تمتد إلى مدينة الصويرة التاريخية وإلى منطقة آيت باعمران الأمازيغية المعروفة بتاريخها في مقاومة الاستعمار، عمل أستاذا للفلسفة في المغرب، وفي منفاه الفرنسي كان يشتغل صحافيا بالقسم الثقافي لجريدة «لوموند»، وكان منذ طفولته مفتونا بالرسم، وسوف تترجم هذه الفتنة إلى مجموعة من الكتب التي ستقدم رؤيته الخاصة للفن التشكيلي، مثل «العين و اليد» و«رحلة الجير البحرية».
دفن الراحل في المقبرة اليهودية بمدينة الصويرة بناءً على رغبته، المدينة التي كانت دروبها ومنازلها العتيقة مسرحا لأحداث عدد من الرويات التي نبش من خلالها في تاريخ اليهود المغاربة، ودافع عبرها عن الهوية رافضا انسلاخ معظم الأسر اليهودية من أصولها المغربية وتهافتها على الأراضي التي تحتلها إسرائيل.
ويبقى المالح أحد أبرز الروائيين المغاربة الذين كتبوا بلغة موليير، ولا يضاهيه في التأثير والحضور سوى قلة منهم لعل أبرزهم ادريس الشرايبي ومحمد خير الدين، أما نظرته للكتابة فتبقى فريدة وخاصة، هو الذي قال: «عادة ما تنسج حول الكتابة الأساطير، وتنسج حول الكاتب هالة، فيما أن الأمر بسيط، فهو يكتب مثلما الآخرون يرسمون أو يغنون أو يبيعون الخضر».
عبد الرحيم الخصار
(الرباط)
السفير

أخلص للكتابة وانتقد توظيف المحرقة لأهداف سياسية ولم يهادن الصهيونية في حياته !
عن رحيل الكاتب المغربي إدمون عمران المالح:

عبداللّطيف الوراري
2010-11-21

المالح..وداعاً: لن يعود بوسع أصدقائه وقرّائه، من الآن، أن يزوروه في شقته الصغيرة الهادئة في الرباط، حيث يتوكّأ عصاه، ويجلس على أريكة خشبية، حليق الوجه أنيق المظهر كما العادة بابتسامته الحييّة التي تُداري شاربه الكثّ الأشيب، ومُحاطاً بلوحاته وتحفه من تماثيل الخشب وكتبه باللغتين الفرنسية والإسبانية في الأدب والفلسفة والتشكيل؛ ولن يعود بوسعهم أن يرتشفوا الشاي المغربي اللذيذ الذي تحضّره مساعدته أمينة أو مينة كما يُنادي عليها بصوته الخفيض.
ويظهر أن عبارته الأليفة ‘ما دمت أقرأ وأكتب فأنا موجود’، التي كان يقطع بها دابر الشائعات حول حالته الصحية، لن يتفوه بها هذه المرّة، وقد خذلته صحّته. لقد توفي إدمون عمران المليح (1917 ـ 2010م) الإثنين الماضي في المستشفى العسكري في الرباط، الذي نُقِل إليه في الثالثة صباحاً بعدما وجد صعوبة كبيرة في التنفس، ثمّ فارق الحياة في السادسة عن عمر يناهز الثالثة والتسعين. وعملاً بوصيّته، يوارى جثمانه تراب الصويرة، مدينة الرياح التي أحبّها وأفنى فيها أخصب أيّام حياته في الكتابة والخلوة والتأمُّل.
وكان إدمون عمران المالح الكاتب المغربي من أصول يهودية قد ولد في العام 1917م، في مدينة أسفي الساحلية التي عاش فيها طفولة عادية لم يعكّر صفوها شيء، في جوّ من التعايش الهادئ والتلقائي بين مسلمي المغاربة ويهودهم، مما جعله يرفض فكرة الهجرة إلى إسرائيل شأن بني جلدته الذين أغرتهم أحابيل الصهيونية، ولم يستسغ ما كانت تُسمّيه بعض كتب التاريخ بـ ‘البروليتاريا اليهودية’، حيث حياة البؤس في الملاحات هي نفسها في أحياء المسلمين. وما إن شبّ عن الطوق حتّى أُغرم المالح بالفلسفة، وانضمّ إلى الحزب الشيوعي المغربي، وكان يكتب في جريدته الأمل (L’Espoir) تحت اسم مستعار هو عيسى العبدي، فأنجز ملفات وتحقيقات اجتماعية عديدة مكّنته من الاحتكاك بمجموعات أو شرائح اجتماعية مسحوقة من عمال وفلاحين وعمال ميناء الدار البيضاء.
في أثناء الأحداث الدامية لما يعرف في تاريخ الاحتجاجات في المغرب بـ ‘أحداث 23 آذار / مارس’ في عام 1965م، التي كشفت عن فشل الدولة الوطنية التي علق عليها أبناؤها آمالاً عريضة في فترة الاستعمار، وبسبب مواقفه المعارضة لحكم الحسن الثاني، غادر المالح إلى فرنسا مشتغلاً بتدريس الفلسفة، وبالصحافة في ملحق الكتب في جريدة ‘لوموند’ الشهيرة. في مهجره الاختياري، شعر بنفسه يولد من جديد، ويدشن مساراً في الحياة والكتابة مغايراً، إلا أن الأفق الثقافي لفضاء باريس المتعدّد وجد صعوبة في التكيّف معه واختراقه. ولمّا تحسّنت الأوضاع نسبيّاً، عاد إلى وطنه المغرب الذي ارتبط به وجدانيّاً، قاطعاً غربة دامت ثلاثة عقود ونصف العقد (1965- 2000م)، قائلاً إن الأمر يتعلق بـ ‘رؤية واقعية حاسمة، لا تنازل عنها ولا شوفينية فيها أو تعصُّباً’، وزاد: ‘من منّا لم يشعر مرة في حياته بالرغبة في أن يكون مزدوجاً، بل متغرّباً أو غريباً عن ذاته، وهي العلامة التي تدل على تعقد الشرط الإنساني’.

الكتابة أو علامة تعقُّد الشرط الإنساني:

لم يتفرّغ المالح للكتابة ويتّخذها معتقده الجمالي والسياسي إلا بعد أن شاب رأسه، فكان إقدامه على الكتابة يُحيي شبيبته الكامنة ويفجّر سحر قوله البديع، وهو في أرذل العمر. كان يقول عن نفسه أنّه جاء إلى الكتابة بالصدفة، لكنّه، ابتداءً من ثمانينيّات القرن العشرين، لمّا أصدر روايته ‘المجرى الثابت’ التي عبّر فيها عن تجربته الذاتية في النضال والسياسة والحياة، وعن تاريخ المجتمع المغربي وذاكرته، استطاع المالح أن يجد لنفسه موطئ قلم في خارطة الأدب المغربي، حتّى صار أحد أهم وجوهه البازغين، ولا سيّما الأدب المكتوب باللغة الفرنسية. وفي عام 1996م، يكُرّم المالح، إلى جانب الكاتب المناضل قاسم الزهيري والشاعر محمد الحلوي بـ ‘جائزة الاستحقاق الكبرى’، وهي أرفع جائزة ثقافية وأدبية رسمية تُمنح في المغرب، ثُمّ بـ ‘وسام الكفاءة’ عام 2004م، وذلك تقديراً لإنتاجه الأدبي والتخييلي، ولمواقفه الوطنية ومساهمته في إشعاع الثقافة المغربية الحديثة.
من ‘المجرى الثابت’ 1980 و’ أيلان أو ليل الحكي’ 1983 و’ ألف عام بيوم واحد’ 1986، ومروراً بـ ‘أبو النور’ 1995 و’ المقهى الأزرق: زريريق’ 1998، وانتهاء إلى كتابه الأتوبيوغرافي ‘رسائل إلى نفسي’ 2010 ، قدّم الكاتب إدمون المالح عملاً مهمّاً جديراً بالدرس، وهو يرتفع بالمحلي إلى مستوى العالمية، ويمسك بجوهر الأشياء والتفاصيل والصور التي وظّفها بفنيّة عالية في معظم أعماله السردية. لم يكن يأسر نفسه في نوع أدبيّ مغلق ومحدود، بل يتنقّل بين كل أشكال التعبيرات الأدبي، مُشخّصاً فضاءات وموضوعات ومواقف ظلّ أكثرها غائباً عن التداول، ولا سيّما ما يتعلق بفضاء العشيرة اليهودية، عبر تصويره لطقوسها وعاداتها وماضيها العريق. هكذا، يلمح القارئ إيقاع التشظي في معمار جُلّ أعماله المنقوعة بلغته المفتوحة التي تمتح من التراث المغربي اليهودي الشفوي، وتتخلّلها العربية العامية المغربية التي تُدار حوارات الشخوص بها، مثلما يكتشف القارئ روح السخرية المبطنة من الأشياء والمصائر في تلك الأعمال التي ألّفها في فترة مقامه الفرنسي، وترجم معظمها إلى العربية صديقه الكاتب والتشكيلي ومرافقه في أيامه الأخيرة حسان بورقية.
في ‘حوارات’ 2005، التي أجرتها معه الكاتبة الفرنسية ماري رودونيه، يكشف المالح عن خلفية ثقافية واسعة عن عصره المضطرب الذي عاشه صاحب ‘ألف عام بيوم واحد’ في موضوعات الكتابة والهجرة، والرسم، والصداقة، والمدينة، والطبخ، والنضال السياسي، وفلسطين، وإدوار سعيد… إلخ. وأصرّ على أن يقول أكبر قدر ممكن من الأفكار والمواقف التي شغلته على مدار عمر يغطّي قرناً من الزمن شهد المغرب الثقافي والسياسي خلاله قطائع سياسية و’ هزات ثقافية’. وكل ذلك في المنظور الذي لا يفارق دائرة الكتابة التي تتأطر داخلها هذه المواضيع، الكتابة التي تنأى عن الوثوقية و’ الامتلاء’ والتي لا مجال فيها لـ ‘الكلمة الأخيرة’. وفي آخر كتبه ‘رسائل إلى نفسي’ 2010م، الذي لم يعتبره عملاً أوتوبيوغرافيّاً ‘لأن في كتابة السيرة الذاتية من النرجسية الشيء الكثير’، يعثر القارئ، عبر توالي رسائله العشر، على مزيج من التأملات الفلسفية والشعرية والتأريخية، وعلى أسماء معروفة في عالم الأدب والفن والسياسة (زولا، بلزاك، برغسون، فوكو، بروست، ألان، ديكارت، طوماس مور، بورخيس ، ديكنز، سارتر، تيوفيل غوتيي، إلياس كانيتي، والتر بنجامين، فيلاسكيز، كازان، ماو، ميتران، ديستان …)، وعلى أسماء أماكن ذات حمولة تاريخية وحضارية متنوّعة تستدعيها ذاكرته النصية وذاكرة جذوره الروحية التي تنغرس في المغرب وإسبانيا السفاردية، وفي نصوص الثقافة الأوروبية أيضاً.
إنّ قوة كتابة إدمون عمران المالح ترجع إلى هويّتها المركبة، هويته المغربية العابرة لجغرافيّات وأسئلة ثقافية متعددة. الكتابة عنده في تحوُّل مخصب. الكتابة التي تحتفي بالأليغوريا وليست الكتابة المفهومية التي تتلبّس بالفكر المفهومي. تتجاوز الكتابة ،هنا، ذاتها باستمرار، في توليف سحري بين الظاهراتية والحياة.

مواقف جريئة:

وكان المالح إلى آخر رمق في حياته، يكتب ويناقش ويعرّف بالفنانين المغاربة، مثلما يدلي بآرائه في الندوات والمهرجانات التي يواظب على حضورها، كان آخرها رأيه بخصوص المشهد الثقافي المغربي، إذ دعا إلى الدفاع عن الثقافة الحقيقية الراقية ضدّاً على ثقافة البهرجة والتسطيح والمجاملات، مؤكّداً أن ‘الثقافة غائبة’ و’ نحن نعاني من نقص فظيع في هذا المضمار’. فلا بُدّ من ‘حياة ثقافية حقيقية بكل معنى الكلمة، ويكون لها تأثير على محيطها’. وفي هذا المعنى، أوقف كتبه على المكتبة الوطنية، ليستفيد منها جيل الشباب والباحثين.
وككاتب يهودي له وضعه الاعتباري، بادر المالح إلى كشف الخداع الصهيوني للعالم منذ روايته ‘ألف عام بيوم واحد’ 1986م بمناسبة الحرب الإسرائيلية على لبنان، ولم يتوان منذ ذلك الوقت عن فضح الصهيونية باعتبارها ‘حركة عنصرية وحشية تقتل الأطفال والنساء والشيوخ والشباب’، ولا هادن ‘الجرائم الإسرائيلية البشعة ضد أبناء الشعب الفلسطيني الذي يكافح بكل ما أوتي من قوة من أجل حريته واستقلاله وحقه في وطنه’. في أثناء الحرب الهمجية على غزة، قال: ‘حينما أشاهد ما يحدث بغزة: جثامين الأطفال والنساء والدمار، أحس بالاختناق من الظلم ومن الهمجية والبربرية ومن القدرة، بل الإرادة الرهيبة لإسرائيل على قتل الناس الأبرياء وتدمير شعب بأكمله’. ورأى أنّه من ‘الواجب الخطير محاربة الذات السياسية الوحشية العنصرية لإسرائيل تجاه الفلسطينيين’، داعياً إلى وقف بناء المستوطنات التي تحمل أفكارا عنصرية تتنافى مع الديانة اليهودية نفسها.
ويذكر الرأي العام المغربي والدولي البيان الذي نشر بالجرائد الوطنية والعالمية في آب (أغسطس) 2006م، الذي وقّعه أهمّ كتاب اليهود المغاربة: المالح وأسيدون وأبراهام السرفاتي الذين جاهروا بمعارضتهم الصريحة للصهيونية، ورأوا أنّ التدمير وتقتيل المدنيّين هما من صميم ‘المشروع الصهيوني وفي أساس الدولة الصهيونية التي تحاول دائما ستر وجهها البشع’. وكان المالح قد هاجم في أيامه الأخيرة طريقة تناول محرقة ” الهولوكوست”، وطريقة توظيفها لأهداف سياسية وإيديولوجية، وانتقد هذا الخطاب المغلوط والمغرض الذي يحصر الحديث في الجرائم التي وقعت ضد الإنسانية في ” المحرقة اليهودية”، في الوقت الذي عرف فيه التاريخ الإنساني جرائم أفظع بما في ذلك التي ترتكبها إسرائيل نفسها، متسائلاً لماذا لا تثار مسألة المغاربة ضحايا الاستعمار؟. لكن المالح لم يكن يُخفي حساسيّته الشديدة من مشكلة هجرة أو تهجير اليهود من المغرب إلى إسرائيل، وفي هذا الإطار انتقد الأفلام السينمائية المغربية التي تناولت حديثاً هذه المشكلة، مثل شريطي ‘فين ماشي يا موشي’ و’ وداعاً أمهات’، باعتبار أنّها تجانب الصواب في الكثير من الأمور، ولم تعد كونها ‘أشرطة فولكلورية’ لا غير. كما أنه رفض أن تُترجم أعماله إلى اللغة العبرية التي ليست في نظره ‘لغة مهمة’ ولم تُحْيَ الا داخل إسرائيل.
برحيل إدمون عمران المالح، الذي يكنى بـ ‘جيمس جويس المغربي’، والذي لم يرض عن جنسيّته المغربية بديلاً، تفقد الثقافة المغربية الحديثة واحداً من أعلامها، لكن عزاءها في إرثه الأدبي والفكري والفنّي الذي تركه وأفنى فيه زهرة روحه وعوده الذي عمّر وطال، وفي القيم التي أشاعها في هذا الإرث وحول محيطه الإنساني، المبنية على الانفتاح والالتزام وسخاء الطبيعة.

شاعر وناقد من المغرب
El_ouarari@yahoo.fr
القدس العربي

تحية إدمون عمران المالح
يحيى بن الوليد

شاءت المصادفة أن أتواجد صباح يوم الاثنين 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010، في العاصمة المغربية (الرباط)، وذلك من أجل الاطلاع على الصورة ما قبل الأخيرة من كتابي حول الراحل محمد شكري الذي سينزل إلى الأسواق عما قريب. وفي هذا الصباح سأتلقى، وفي إحدى قاعات وزارة الثقافة، نبأ وفاة الكاتب المغربي اليهودي إدمون عمران المالح، مما جعلني أنتقل، ورفقة الرسام والشاعر عبد العزيز أزغاي، الذي كان يتواجد بدوره في الوزارة، إلى بيت الراحل لتقديم التعازي لأصدقائه المقربين ومن الذين سأجد في مقدمهم ابن المدينة التي أقيم فيها (أصيلة) الرسام خليل لغريب.
ولولا إلحاح الصديق الأعز المحامي الطيب العلمي العدلوني لما أقمت في الرباط الليلة نفسها، ومما كان، وحقا، سيفوت علي فرصة نادرة في حياتي. ذلك أنه أول مرة سأحضر فيها مراسيم تشييع جنازة وفق الطقوس اليهودية. والجنازة، وكما نقلت بعض لحظاتها القنوات التلفزية المغربية، ابتدأت بمقبرة اليهود المغاربة في الرباط، لتنتهي، وعلى متن طائرة خاصة، في المقبرة البحرية اليهودية في الصويرة.
وقبل انطلاق الموكب، وفي الرباط، أثار التفاتي طبيعة الحضور الذي جاء لمقبرة الرباط. أطياف اللون السياسي والحقوقي، بل وحتى الحزب السياسي ذي المرجعية الدينية، في شخص ممثله، كان ضمن الحاضرين. وهذا لكي لا أشير إلى الكتاب والمثقفين والرسامين والنقاد والمهندسين المعماريين، ممن حضروا، وسواء من الرباط، أو من خارجه. لقد حضرت النخبة، وبما يدل على مكانة الرجل ونصرته لقضايا بلده المغرب وقضية الشعب الفلسطيني.
ولم أستغرب أن تتصل بي بعض الجهات حتى تأخذ مني شهادتي، وهي، وللمناسبة، مبثوثة في شبكة الاتصال الدولي، بخصوص الحدث. ولا أخفي أنني سعدت بسؤال حول ما يمكن استخلاصه الآن بخصوص الرجل وفي لحظة الموت هاته. ومن جديد أعدت أسطوانة ‘خرائطية الكتابة’ عند إدمون المالح، غير أني أوجزت القول بعض الشيء فيها، ومركزا على أن الأهم لديه هو ‘الكتابة’ ذاتها، الكتابة لا باعتبارها وسيلة أو أداة وإنما باعتبارها الفكر ذاته في زئبقيته وتشذره وانسيابيته. وكما شددت على ضرورة الالتفات إلى التخييل الذي يطال تعاطي المالح لبعض المواضيع وفي مقدمها موضوع الهجرة (هجرة اليهود إلى إسرائيل، تعيينا) التي جعل منها بعض الكتاب الروائيين المغاربة ‘موضة’ في الآونة الأخيرة.
وأتذكر أن أول لقاء لي بالكاتب والمفكر المغربي اليهودي إدمون عمران المالح كان في صيف العام 1994 ولمناسبة ندوة حول ‘صورة أصيلة في المتخيل الروائي’ كانت قد عقدتها جمعية الإمام الأصيلي في أصيلة، المدينة التي حرص الرجل على التردد عليها، وبشكل لافت، منذ منتصف السبعينيات، بل وخصها، وكمكان وكذاكرة وكوجوه، بأكثر من كتاب من كتبه المفتوحة. وكان قد شارك في اللقاء الروائي عز الدين التازي أيضا الذي كان قد خصّ المدينة نفسها بنص ‘رحيل البحر’. والدراسة مطولة ومنشورة في مجلة ‘الثقافة المغربية’ (العدد 16، آذار / مارس 2002، صص 123 ــ 132).
ولا أخفي أنه كان من الصعب أن تمر بيني وبين صاحب ‘المجرى الثابت’، وفي ذلك اللقاء، أسلاك الكهرباء… بسبب من تشديدي، النافر، وفي إطار من حماسة الشباب، و’ صنمية المنهج الواقعي’، على مفاهيم كالذاكرة والهوية والهجرة… وغير ذلك من المفاهيم التي سأدرك فيما بعد أن الرجل يمقتها في ظل انشداده، وبالمطلق، إلى نوع من ‘خرائطية الكتابة’ التي لا تستقر على أي مرتكز من غير مرتكز الكتابة ذاتها في جموحها اللافت. وقتذاك لم يكن يدور في خلدي أن يكون المالح ‘جيمس جويس البحر الأبيض المتوسط’.
وفي صيف العام 2004 سيكون اللقاء الأول، والحميم، بيننا، في فندق ‘الخيمة’ الذي كان يمضي فيه الرجل الشطر الأول من فصل الصيف وليرحل عن المدينة مع مقدم كل شهر آب (اغسطس) الذي يسيطر فيه مناخ ثقافي مغاير وزاعق لا يرتاح له إدمون كآخرين. وبعد ذلك تكررت اللقاءات الهامشية بيننا… وكم كنت أود أن تكون منفردة. وفي الكثير من هذه اللقاءات كان الرجل، وبذكائه الثاقب، وبفطنته النابهة، يوجّه أسئلة، تبدو في ظاهرها بسيطة، غير أن الإجابة عنها تبدو مركـّبة وشاقة، وكل ذلك بالاستناد، وهو ما يضاعف من مشكلات التواصل، إلى نوع من العامية المغربية النقية والمتقشفة وغير المهجّنة والمكسّرة، لغة لا مجال فيها لـ ‘عكازات’ النظريات والمناهج والمفاهيم التي كثيرا ما تقترن في نقاشاتنا بنفاق أكاديمي غير محمود.
وكم كنت سعيدا يوم جاءني إدمون، وفي الفندق نفسه، بكتابه (ما قبل الأخير) الذي هو في شكل حوار مطول مع ماري رودوني. وليس من شك في أن الكتاب تطلّب من الرجل وقتا طويلا، وقد أشار إلى الموضوع في الكتاب. ولا أستطيع أن أحدّد السرعة التي قرأت بها الكتاب في نسخته الفرنسية. وفي الحق بدا لي الكتاب منقذا للرجل، وخصوصا بالنظر إلى الترجمات التي لا أظنّها تقرّبه إلى القارئ المغربي ابتداء. والكتاب، وعبر ديداكتيك السؤال الذي يتسرّب في الجواب، يقدّم صورة مركزة لعوالم إدمون التي تصل ما بين الرواية والفلسفة والتشكيل والرسم والتصوير الفوتوغرافي والطبخ… وكل ذلك في إطار من ‘وطن الكتابة’ باعتبارها ‘تدخلا’ حتى وإن كانت تتقوّم على نوع من النهج الزئبقي.
وقد حصل لي الشرف عندما كلّفني بعض الأصدقاء بتقديم الكتاب وصاحبه في بهو الفندق في تلك الأمسية الدافئة التي حضرها جمهور آخر. وفيما بعد خلدت إلى تدقيق النظر في المداخلة وتعديلها وتعزيزها، وكل ذلك في المدار الذي جعلني أضيف إليها إضافات كثيرة وكثيرة. ومن ثم وجدت نفسي بإزاء دراسة مستقلة حول الرجل عنونتها بـ ‘الكتابة والهويات القاتلة’. ‘الهويات القاتلة’ التي تنصرف فورا إلى عنوان أحد كتب الروائي والكاتب اللبناني أمين معلوف مع أن المفهوم مكرّس في أطروحات مدرسة فرانكفورت التي أفاد منها كثيرا المالح. وللأسف فقد تم ‘تهريب’ الكتاب، بل وإظهاره في طبعة تنطوي على عنوان فرعي ينطوي على خطأين. ولم يهدأ لي بال إلا بعد أن سلّمت الكتاب لإلياس فركوح صاحب دار الأزمنة الذي اطلّع على الكتاب، وتحاورنا حول بعض أفكاره، ونشره، ومشكورا، وبعد عام واحد (2008)، وتحت عنوان ‘الكتابة والهويات القاتلة ــ دراسة في مرجعية إدمون عمران المالح’، وفي طبعة أنيقة أنستني طبعته الأولى الرديئة.
ناقد وأكاديمي من المغرب

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى