صفحات ثقافية

الآربُــر» ســيرة فنانــة مــن الحضيــض

null
زياد الخزاعي
فيلم «الآربُر» درس سينمائي يجب عرضه عربياً في أسرع وقت ممكنن لتعلّم كيفية صنع فيلم عن سيرة. حيوي. مبتكر. تحفة صغيرة. معالجة تحرق التقليدي، وتستلف أسلوب التداعي في أقصى درجاته طلقاً. حيوات شخصيات من العامة، تعيش هامشاً بريطانياً يصل إلى حدود الفاقة في الجزيرة السعيدة، وتُسرد من باب بريختي نقي. تغريبة درامية تَسبِق الترتيب المدرسي لسيرة الكاتبة المسرحية أندريا دانبار، التي قضت في التاسعة والعشرين من عمرها، مُخلِّفةً أربعة نصوص هزّت الوسط المسرحي البريطاني في الفـترة الممتدّة بين العامين 1977 و1986، قبل أن تتوفّى فجأة داخل مرحاض بار شعبي، وهي في قمة سُكرِها المزمن.
فرادة دانبار، سليلة عائلة من المتوطِّنين في قوائم العاطلين عن العمل والبارات الشعبية و«باينتات» الجعّة، كامنةٌ في أنها خطّت مسرحيتها الأولى «الآربُر» عندما كانت في الخامسة عشرة من عمرها، وتناولت فيها محيطها وأناسها الذين تختلط أعراقهم وسُحَنُهم وميولهم بعضها بالبعض الآخر، ويتربّى شبابهم على حرية لا مثيل للا أباليتها. الجنس أقرب إلى العموم الحيواني: الكل بصحبة وليد جديد. لا حدّ لعمر الأمهات والآباء. مراهقون يقلّدون كبارهم، فيتضاجعون مع بعضهم البعض في الأمكنة كلّها. نشأت دونبار في عائلة قاسية العواطف.
أمضت وقتها في الشارع غالباً. المدرسة شأن ثانوي. الأمومة شأن الشارع والحارة الغاصّة بالمشاكل والقذارة والعصيان. التعليم شأن مصالح حكومية لا تستطيع فرض قوانينها. التسيّب علامة جودة وإشارة ثورة. وضعت دانبار فطنتها الكتابية على راحة يد العفوية. لا تخطيط عملاتياً لبناء الشخصيات والأجواء والمحيط. إنها نصوص تقلب آية الشارع، وتنقلها إلى خشبة وهمية. قولها يجذب التفرّس الاجتماعي بأحوال «وحوش» مجمع «بترشو» السكني، التابع لمدينة «برادفورد» المتضخّمة بوافديها من الباكستانيين. هؤلاء قوم ناصعو البياض، يتباهون بصلبانهم وأوشامهم الدينية. لكن الوازع مؤجل. يتبارزون بعنفهم باعتباره السيّد على الحي وزواريبه، لكن من دون رغبة في نشاط التغيير والشفافية. القوة تجذب السطوة، وهذه تولّد النعمة الكاذبة. قوم مهملون وطائشون، ينتظرون مستحقّات المعونات الحكومية لصرفها على سُكرهم اليومي.
الحكايات غير المختلفة
في «الآربُر»، تحكي دانبار قصة مراهقة يرهبها والدها المدمن (أهي حكايتها؟). العلاقة الأزلية بين المالك والمستعَبد. الخالق الأبوي والخِلفة الضالّة. الإثم العائلي الذي يصل إلى حدود زنى المحارم من دون أن يقع. لدانبار ثلاثة أطفال من ثلاثة آباء مختلفين. هي واحدة من ثمانية أطفال لعائلة مُعدَمة. في حياتها كانت تتفاخر: «لم أصرف بنساً واحداً من المعونات عليهم (أطفالها)». كتبت نصّها كواجب مدرسي. بيد أن مباشرته وصراحته شجعتا معلمتها على إرساله الى «رويال كورت»، ذلك المسرح الذي أطلق ورعرع تيار الغضب (هارولد بنتر، جون أوزبورن وشلّتهما الانقلابية في الستينيات الماضية)، فعرف عرضها في العام 1976 نجاحاً ساحقاً، حوّلها إلى نجمة مجتمع «سلوين سكوير» وحديث نخبة «كينز رود» الراقي، ما يُعَدّ تناقضاً طبقياً بامتياز، حيث تُمتَدح ابنة الفقراء على طاولات مرموقي الأرستقراطية اللندنية. لاحقاً، أنتجت هذه الصبية الموهوبة نص «ريتا، سو، وبوب أيضا» عام 1980، عن مراهقتين تتباريان على مضاجعة رجل واحد. تحوّل النصّ فيلماً شعبياً نال التقريظ والفضيحة في آن واحد، أخرجه آلان كلارك عام 1986. هنا، اتضح للجميع أن دانبار لم تختلق حكاياتها. فهذه الأخيرة حولها أينما يمَّمت بصيرتها. ما عملته كامنٌ في إعادة الحيوية إلى عالم تفكّك على خلفية صعود السيدة الحديدية مارغريت تاتشر. إنها النصوص ـ الإيذان بطغيان النزاع اليومي بين سلطة أوليغارشيّة ومستعمري الحانات. السياسة لا تُناقَش، بل تُشتَم. الوافدون ذوو السُحَن الرمادية، الذين يحتلّون البيوت الفيكتورية المعمار، هم في عرف البيض «حيوانات الإمبراطورية» التي جاءت كي تسرق اللقمة وتُناكد الصبيات الحمراوات. عليه، فإن استهدافهم واجبٌ قومي وصليبية محلية مبرَّرة. هذا التمييز لم يجد صدى في ضمير الفتاة المتنمِّرة، فكان آخر أزواجها باكستانياً هربت منه لاحقاً بعد أن زاد من عيار حرصه وأوامره، على الرغم من ولادة ابنتها الخُلاسية. في المسرحيتين، تكون البطلة الأولى زوجة لآسيوي، لا تفلح الزيجة وأعرافها من منع زناها المقبل.
انتقمت حفيدة تاتشر عبر نصوصها من الخيبة الشخصية، قبل أن ينتصر الخمر وإدمانه عليها. تحوّلت على يدي فنانة التجهيز والفيديو الإلكتروني والمخرجة السينمائية كليو برنارد (ولدت عام 1965 في «سانت باربرا» الاميركية) إلى امتحان للمأساة في فيلمها الذي استلف عنوان مسرحية دانبار. وبدلا من أفلمة هذه الأخيرة مباشرة، ذهبت إلى الحي نفسه، إلى أناسه وقاطنيه والمتسكّعين حول الشارع الذي أصبح محجّاً إعلامياً منذ شهرة «رويال كورت»، وجعلت ميدان «بارفيرتون آربُر» الأخضر، الذي يتوسّط الحي الفقير، «مسرحسينمائي» تتحرّك على مرجه عائلة الكاتبة وجيرانها وأزواجها واصحابها وصويحباتها، ومعهم روّاد مقصف «ذي بيكون» ومالكه الحقود وزعران الحي ومغالو العنصرية ومذيعو التلفزيون القادمون من لندن والساعون إلى فض بكارة الحكاية العجيبة: طفلة الأحياء المعدمة، التي ثوّرت الخشبة، لا تربّي ابنتها في غرفة بل في حانة. والنتيجة: مُبهرة. فيلم هجين بقوّة درامية صاعقة، ممتعة وتنبيهية. سينما وثائقية صوّرت غرفة دانبار والزوايا كلّها التي عاشت فيها حياتها القصيرة، تداخلت وخليط آخر من التمثيل والتجسيد لنصّها الأثير، حيث تناوبت شخصيات المسرحية على تمثيل أدوارها فوق العشب مع ديكور وهمي. وفي أحيان، تحوّل إلى اختزال (قريب الشبه بما فعله الدانماركي لارس فان ترير في «دوغفيل» عام 2003)، وقالت جملها أمام الكاميرا في تغريب سينمائي لاهث.
إلى ذلك، تفاجئ برنارد مشاهديها بإدخال شخصيات حقيقية (الأب وزوجته الجديدة. الأخت. العشيق الأول. الصديقة الأقرب. الجيران. سكارى الحي) للإجابة على أسئلة مغمّطة الصوت، تحوِّل اعترافاتهــا إلى ما يُشبه الشهادة الميدانية عن دانبار وحياتها المأساوية. إن عمل برنارد هو «تجهيز سينــمائي»، يُمكن للمتفرج أن يعيد صوغ السيرة فيــها بحسب مشيئته. إنها لعبة درامية لا تستهدف المتعة، بل التحريض على اكتشاف ســرّ الصبية، والتلوّع بخسارة العمر القصير. في الخــطّ العام الذي أعده شخصياً أشبه بصيغة الحكم العائلي المطلق على خطايا دانبار وأنانيتها (وسذاجتها، ربما، التي لوّثتها الشهرة السريعة)، جعلت صاحبة «الطوفان» من ابنتها لورين ذات الدم الباكستاني (مانجيندر فيرك) المحكّ المركزي لأخبار الكاتبة المنكوبة. إنها الرائي والحكّاء والضحية والحكم في آن واحد. ما ينفع المُشاهد هو كسرها لوهم السينما وتوثيقيتها، إذ أنها دخلت من دون إذن إلى قلب الحدث وملأت الشاشة بحكايات حقدها ومرارتها ونزعتها العدائية، لأن «أمي لم تكن سوى وحش». يُعرف لاحقاً أن لورين ارتكبت حماقات عدّة قبل أن تحقّق جرائم أودت بها إلى السجن. إنها وارثة الخطايا بلا منازع. إن نكبة دانبار تُصوَّر عبر نص برنارد، باعتبارها صيرورة درامية بديلة للوقائع الحقيقية. أي إنها إغراء سينمائي لبحث مقبل، يُكمل لغز الصورة الناقصة في فيلمها: هل أندريا ضحية عائلة أم نظام؟ أهي خطيئة تربية، أم سوء حظ طبقي؟ مَنْ الملام؟ والدها الأمّي اعترف أنه كان لاهياً عنها. عشيقها قال إنه نَفَدَ بجلده. زوجها الباكستاني يوسف (جيمي ميستري) لعنها: «لم تسمعني». ذهبت أندريا إلى دار حقّها، وأبقت فوق حشيش «الآربُر» الأوغاد جميعهم الذين كالوا المديح لها أمام الكاميرا، لكنهم أذاقوها العار عندما سبقت قراراتها الشخصية وعنادها.
نص كليو برنارد ثمين القيمة، لأنه لَعَب بحنكة على وتري السينما، وجعل غالبية الحرفيين في حيرة بشأن نعت جنسه الذي هو لا درامي ولا وثائقي، بل اسلوب سينمائي متجدّد بثّ ألقاً خاصاً على «فيلم السيرة»، الذي يجدر التمعّن في مشاهدته وإشاعة بصيرته بين السينمائيين العرب، خصوصاً شبابهم، لفهم معاني ابتكارها الحقّ.
(لندن)
السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى