صفحات ثقافية

لا أسمع بل أرى موسيقى: الحمام الأموي يحلق في لحظة نسيان

null
فاروق يوسف
1
ثمَ وجه الله هناك. الوجه الساحر الذي لا يشبه شيئاً ويتغير في كل لحظة نظر. يقول الهواء، هواء الشام الذي ليس لأحد من الحاضرين. نقف على الجسر. ياسر صافي وأنا. بردى يمر من تحت نهراً للذكرى، يسعى به نور خفي إلى مصبّه. تذكرت أني تركت علي قاف واقفاً قرب مرقد يحيى وتوجهت الى القبلة. قيل لأبيه: “أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا. تلك هي آيتك”. أخذ يحيى الكتاب بقوة واستسلم لقدره. الأنس كلهم صامتون فيما كانت جنيتان صالحتان تتلمسان طريقهما قرب ضريح صلاح الدين. “عدنا”، قال الجنرال غورو بلغة مغشوشة ومهدمة. في باحة المسجد العظيم لا تقع شمس الامويين على الأرض بل تنبعث مثل نافورات مياه من جهات مختلفة لتنزلق على المرمر. الخط الفاصل بين الشمس والظل هو أكثر الوقائع الروحية وضوحاً. يلفّق البصر وقائع منتحلة من لقاءات غابرة متقاطعة. أقدام البناة الوثنيين تنقّب في الارض بحثاً عن جذر لغوي تشتقّ منه كلمات صلاتها المفقودة. النصارى يتركون أثراً من أكفّهم المرتجفة على باب توما. عبد الملك بن مروان يفرش عباءته للريح وهي التي تجلب إليه الحصى ملونةً. مصابيح للحياة الدنيا وبيت وحيد يشير إلى الجنة. البدوي الذي اكتشف البحر صار يرخي العنان لبوصلته العاطفية لتقوده إلى المناطق اللامعة من مخيلة اليابسة. أنظر الى المتر الوحيد الممكن أمامي، حيث يمتزج الوثني بالنصراني بالمسلم ليشرق جسداً بأرواح هائمة متعددة. صرامة المرمر تشفق عليَّ وتزيل عن عيني غبرتها. هناك عاطفة صامتة تمشي بردفَي امرأة اسطورية. لم يذهب الجميع إلى الصلاة. يلتبس الأمر عليَّ. هل أذهب إلى الصلاة وحيدا؟ ما من شيء أكثر فشلاً من التاريخ. نعود القهقرى دائماً. العشب هناك في الوادي على ضفّتَي بردى لا يزال يهذي بلغات مختلفة. بعد كل هذا الزمن لم يعد مهماً الشكل الذي تتخذه الالهة. المهم أن تحضر وترعى المساكين. المنفيون يشابهون. منذ أن ولدت الفكرة قرر العباد أن يخترعوا لها جسداً. في المسجد الأموي ينزلق التاريخ على جغرافيا وهمية. النور الذي تغرق الوجوه في بحيراته هو نوع من الغواية التي ترمي شرراً أثر خطواتها الواثقة. صوت المؤذّن ينبعث من مكان عميق. مكان لا تلتقطه العين بل تبصره الأذن. التفتّ إلى الاروقة. الظلال مثل أسهم تلتصق بالأعمدة. الحمام هناك. الحمام الاموي يحيط قدمي بنشيد مستلهم من روما. ليس جحوداً أن تبقى روما خارج السور. روما المتأنية تستقر في شقوق الحجر، بين قدمي سائحة غلبها الوله، على باطن كفّ بائع الحرير الدمشقي. القوس الأبيض وهو من بقايا المعبد الوثني يصنع مسافة من الضباب. بعده يستسلم الناس لعاداتهم مستجيبين لمتاع الغرور. “ما حكم من صلّى قبل الاذان؟” يلتصق صوت المؤذّن بظهري. يمتزج ذلك الصوت المنغم بلعثمة صوت بائع عصير الرمّان. ما معنى كل هذا؟ سيعذبك المنطق وهو في أغلب الأحول لن يكون نافعاً ولا مفهوماً. عراقي يقدّم عصير رمّان الى عراقي آخر على أرض ليست لهما. غريبين التقيا وغريبين سيفترقان. ولكن أين شجرة الرمّان؟ أفكر في ولع العراقيين بالرمّان وقد كانوا يظنونه نذير غربة. لا أحد يجرؤ على جمع حبّات الرمّان حين تنتشر. غرام قديم بثّه في أعماقي صوت البائع الفتي. كنا نهبط السلالم متجهين إلى طبقة أخرى من التاريخ. خُيِّل إليَّ أن قدمي تقع على قدم تاجر روماني ظلت تسهر على الدرجات في انتظار ما تجود به يدا صانع دمشقي من حرير. قال البائع لعادل السيوي: “كلما زاد عدد الخيوط ارتفع سعر القطعة”، وكان الرسام على دراية بما يقوله البائع. انزلقت قطعة الحرير بين يدي كما تنزلق قطرة عسل على لساني. ألا يكفّ الغائبون عن الهذيان؟ التفتُّ فرأيت الأزقة الضيقة التي اجتزناها ونحن نبحث عن هذا المخزن الصغير. هي ذي دروب صغيرة تتفرع من طريق الحرير إذاً. ما لم يتخيله العراقي بائع عصير الرمّان كان بالنسبة الى السوري بائع الحرير بداهة عيش: أن نحلّق في لحظة نسيان. عبد الرحمن الداخل أدرك أن الخديعة أكثر غموضاً من أن يتمكن المرء من ازاحة أقنعتها ففرّ. كانت اندلسه المتخيلة نوعاً من دمشق المؤجلة. أتسمر عند باب القلعة. العيون الزرق. الشعر الأشقر. الشفاه الافريقية. الأقدام البدوية. الخصور الشركسية. باعة البندق الارمن. العثمانيون شطبوا المصائر كلها. هل سأل أحد عن أحد بعينه في تلك السوق المترامية الاطراف؟ كنت هناك أتأمل الأبجدية وهي تنمو مثل نبات وحشي. أنا لا أقرأ بل أرى موسيقى تقفز من الحجارة.
2
أتذكر أن سعدي يوسف ما دلّه أحد في دمشق غير أنه أهتدى. هنا لا يضيع أحد غير أن طبقات التاريخ لا ترحم أحداً من هذياناتها. حارة قنوات تسلّمني الى النوم داخل قنينة مسافرة في بطن الحوت. أتنفس هواء الياسمين قليلاً لأدخل بعدها إلى رحم المعنى الغامض الذي يجر وراءه أفئدة فرسان هلعين. أرى إلى الأبنية وهي ترسم صوراً لعصور جميلة غير أن الأقبية تجرّ خطواتي إليها بقوة سحرها. الرومان يسهرون على المياه وإن نشفت. ليست الأرض سوى غطاء شفاف. يشعر المرء أن هناك تحت ذلك الغطاء من ينصت إلى وقع قدميه. زائر آخر سيمضي. التفتُ بسبب شعوري أن هناك من يراقبني من الخلف. في بطن الحوت لم يكن يونس وحيداً. هناك من يؤنس وحدته بقوة انصاته ونبل تمنعه. إلى جوار الكنيسة هناك جامع. الجدار لصق الجدار. على بعد ثلاثة أمتار، في قفزة طويلة واحدة هنالك حانة. تذكرنا، ناصر حسين وأنا، ديك الجن الشاعر الحمصي: فحق نعليها وما وطأ الثرى/ شيء أعز عليَّ من نعليها. كان الجمال يهبط على شكل طبقات. طبقة تمحو الطبقة التي سبقتها. قلت له: “أيعقل أن يكون كل هذا الجمال دمشقيا؟”. كان الرسام حزيناً. ماتت أمه قبل أيام. يحصل المرء على أم واحدة، إن ذهبت ذهب معها نوع خالص من الجمال. المنفيون يخلطون الأمور بعضها بالبعض الآخر ببراعة. قبل يومين كنا في مرسمه، أنا وعادل السيوي. سحرتنا قدرته على أن يمحو المشهد كله لتبقى كثافة العاطفة وحدها. ولم ننتبه إلى قوة الايحاء في عينيه. خدعنا الرسم فصرنا نتكلم عن حيائه الشخصي كما لو أنه ذنب. حين أخبرنا أن أمه ماتت قبل أيام، صمتنا وصرنا نبحث في وجوه فتياته عن صورة الأم الغائبة. أتأمل صورة الذئب الذي لا يكفّ عن ابتكار صورة لفريسته. المدينة تفرض صورتها على رسّاميها. طبقة تلتهم الطبقة التي قبلها. فاتح المدرّس والياس الزيات ولؤي الكيالي ونصير شورى ومروان ويوسف عبد لكي وأسعد عرابي وزياد دلول، ومن بعدهم يأتي جيل لا ليرمم بل لكي يهيل التراب على خطوات من سبقه ويشيد طبقته. في البئر هناك أصوات عديدة. الموسيقى تتسلق الأبنية المزخرفة في الحي اليهودي. تسلل الرسامون والنحاتون فرادى إلى فردوس الحياة المخيبة. زرت مرسم عبد الله مراد، ومن بعده مشغل فادي اليازجي، فتعرفت الى طبقتين من الخيال. مراد لا يكذب بصره بل يهب ذلك البصر معاني متجددة من خلال مساحات لونية متجاورة، تجر الواحدة منها الأخرى إلى حيزها، فيما تكتفي دمى اليازجي البرونزية بعزلاتها الصامتة. قطط اليازجي لا تمزح. في الزقاق الضيق وقفنا أمام ضريح أحد العارفين بالله وقرأنا سورة الفاتحة، فإذا برجل مسنّ يلقي علينا السلام بإجلال. من أين تخرجين أيتها المادة المنغمة؟ هناك شيء من الشظف الواقعي لا يرقى إلى الحقيقة. أزقة قصيرة، يسلّمنا كل زقاق منها إلى زقاق يليه. وما بين الزقاقين، هناك منعطف ساحر بتهذيبه ورقته. أنظر إلى شقّ في السماء. هناك ضوء. قلت: سنتيمتر من الضوء يكفي لإضاءة مكان مترع بالنور. كلما نبشت أصبعي جداراً تبلل طرفها بنداء غريق. بردى ضيق فيما معنى الحياة من حوله يتسع. أرى شعبا يحب الحياة.
3
ذهبت إلى دمشق وأنا أحمل في حقيبتي صابونة صُنعت في حلب. كانت تلك الصابونة هي الحل الناجع الأخير الذي اهتديت إليه بعد تجارب معقدة أجريتها بسبب اصابتي بنوع من الحساسية. رافقتني تلك الصابونة إلى أماكن مختلفة من العالم غير أنها وهي تعود إلى بلدها معي جعلتني أفكر بها بطريقة مختلفة. لقد تسلل منها الشيء الكثير إلى جسدي. تسلل من خلالها إلى روحي هواء الشام. وها أنذا أتنفس ذلك الهواء كما لو أني خبرته من قبل. اشرقي بلغتك النباتية أيتها الصابونة. قريباً من باب توما جلست، وكنت أشعر بالحيرة. فكرت أن تلك الصابونة صارت تنقص وستختفي بعد أيام. مع ذلك فإنها ستكون الأسعد بين أخواتها. ستكون جارة لإبن عربي. هذا ما حلم به عبد الوهاب البياتي. في قاعة المتحف الوطني حدّثت المستمعين عن صابونتي. من خلالها وبها، اهتديت إلى ضالتي في وصف الهوية التي جئت إلى دمشق باحثاً عنها. لنجرّب الذهاب إلى قلب الصابونة إذاً. لن نلقاه في المركز. قلب الصابونة يقيم متشظيا في كل جزء يزول منها. ما من شيء قابل للوصف، ذلك لأن كل شيء مهدد بالزوال. في تلك اللحظة من التفكير العميق بمصير الصابونة، أدركت أن مصائر كثيرة تظل عالقة في فضاء معنى مؤجل. أنا مثل تلك الصابونة أفنى من غير أن يلامس شيء مني أرض بلادي. على حجر روماني جلستُ في محاذاة المسجد الأموي وصرت أفكر في مصير من نحت ذلك الحجر. قلت سأحدّث أحداً ما عما تبقّى من صابونتي، عن خيالها النابت على كفّي، عن سعادتها التي تنبعث في ضحكات الفتيات العابرات. وعدتُ رفيا بأن لا أخون طعم الرمان. قلت لنايله أن هناك سنتيمتراً أضيف إلى الأرض. كلّمت لينا عن طاعة الرجال الكامنة. قرأت في عيني رندا حيرة أجيال مغامرة لا يزال الماضي يفتنها. لكن الصابونة لا تفارق خيالي. أنتِ، كما لو أنك لم تخلقي بعد. كل صباح ينزلق شيء منكِ مع الماء. تنقصين. تذهبين إلى العدم. أفكر في دمشق التاريخية التي تنقص أزقتها كل صباح. لكنها تزداد أيضا. المدينة لا تثق بالأقدام مثلما لا يثق اللسان باللغة. لا يلتفت إلي بائع الحرير. أسأله عن السبب فيقول لأنك جلست على الكرسي ولم تبق واقفاً على قلق. الحرير يتطلب قدراً من القلق. أردت أن أحدّثه عن صابونتي غير أنني شعرت بالحرج. لقد تخيلت خبرته بالصابون الحلبي وشممت عطر ذلك الصابون وهو ينبعث من بين ثيابه. قلت لنفسي لنعد إلى البداية. صلاح الدين هناك ينعم بالهدوء. وهناك يحيى. هناك ابن عربي أيضا. حين ذهبنا إلى جبل الشيخ كانت هناك امرأة اسمها غرناطة تذكّر بالمدن الضائعة. لا أحد يشترط على أحد عناصر منفاه. هناك سميتُ القمر باسم يختصر علاقته بأشجار التين. كذلك ليكون ذلك القمر شامياً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى