صبحي حديديصفحات ثقافية

الحكمة والحيوان

null
صبحي حديدي
يحدث مراراً أن يكون لأثر أدبي كلاسيكي قديم دلالاته الصارخة في حدث راهن غير أدبي، سياسي أو إقتصادي أو عسكري أو علمي، وذلك رغم أنّ حسّ الأدب، في مفهومه الإنساني العريض علي الأقلّ، يندر أن يغيب عن الواقعة البشرية المميزة. هذه هي الحال مع حكايات كليلة ودمنة في مثال أوّل، حيث يضع الفيلسوف بيدبا فلسفة الحياة والسياسة والأخلاق والحكم علي ألسنة حيوانات شتي، مصاغة في أقاصيص طريفة، ذات مغزي مبسّط، وترميز خفيّ ولكنه غير خافٍ. كتاب الأقاصيص الهندي الكلاسيكي بانشاتانترا ، في مثال آخر، يضمّ خمس مجلدات من الحكايات التي تستهدف تلقين الأمراء فنون السياسة والحكم، علي النحو الذي سوف تتخذه مطارحات مكيافيللي في الأمير .
لكنّ حكايات إيسوب تظلّ الأكثر شيوعاً علي النطاق العالمي، إذْ لا تمرّ سنة دون أن يصدر بصددها جديد، في أكثر من لغة، علي صعيد دراسة العمل، أو إعادة تحقيق نصوصه، أو إصدار طبعات مختلفة منه. ولعلّ طبعة منشورات بنغوين البريطانية، بترجمة جديدة ومقدّمة وافية من روبرت وأوليفيا تيمبل، هي أفضل الطبعات المتوفرة، ليس لأنّها تدرج الحكايات كاملة غير منقوصة فحسب، بل بسبب تفوّقها في اعتبارات كثيرة علي جميع الترجمات الإنكليزية السابقة. وكما هو معروف، كانت معظم الطبعات البريطانية (منذ سنة 1484، حين أنجز وليام كاكستون أولي الترجمات) قد غربلت هذه الحكايات، وراقبت ما يخلّ منها بالآداب العامة، فحذفت عشرات من أصل 350 حكاية. وإلي جانب الحذف، بذل الفكتوريون، خاصة، جهداً خارقاً لتجريد الحكايات من دلالاتها السياسية والأخلاقية والفلسفية، وتحويل الأثر إلي محض قصص مسلّية تدور في عالم الحيوان إجمالاً، وتُروي للأطفال قبيل الإغفاءة.
ويجمع الباحثون علي أن إيسوب عاش في في جزيرة ساموس الإغريقية في القرن السادس قبل الميلاد، وكان قد وُلد عبداً، وهكذا مات أيضاً. باحثون آخرون يعتبرونه شخصية مختلَقة، أحالت إليه المخيلة الإغريقية طائفة من الحكايات اللاذعة التي كان من المستحيل نسبها إلي البشر، بسبب من وطأة رموزها السياسية والأخلاقية. وإلي هذه الحكايات ندين بأمثولات راسخة، مثل حكمة السباق بين الأرنب والسلحفاة، أو الذئب في جلد الحمل، أو حصّة الأسد، أو العنب الحامض…
ومن المفارقات أنّ أولي حكايات إيسوب تدور حول حوار بين الذئب والحمل، وكيف ارتأي الأوّل أن يتسلي قليلاً فيسوق بعض الذرائع المنطقية و الحقوقية قبل التهام الأخير:
الذئب: وجّهتَ لي إهانة كبري العام الفائت.
الحمل: ولدتُ منذ أيام معدودات!
الذئب: انتهكتَ حرمة المرعي الذي أقتات عليه.
الحمل: أسناني لبنية ولست قادراً، بعد، علي أكل العشب.
الذئب: شربتَ من نبعي.
الحمل: لم أشرب سوي حليب أمّي.
الذئب: حسناً… صحيح أنك تدحض حججي، واحدة تلو الأخري، ولكني مع ذلك لا أستطيع التهاون معك، وينبغي أن ألتهمك.
هنالك حكاية الدبّ الذي تباهي بأنه شفوق رحيم، وصديق صدوق للإنسان، حتي صار يأنف من ملامسة جثة ابن آدم. الثعلب ابتسم وردّ عليه: ليتك أكلتَ الجثة الميتة، وأبقيت علي الإنسان الحي! أو حكاية تحالف الصيد المشترك الذي عقده الأسد مع الحمار البري، الأوّل لأنه قويّ وملك، والثاني لأنه سريع الركض وحمّال أثقال. الأسد اعتمد الحسبة التالية في تقسيم الطرائد: حصّة أولي للأسد بوصفه ملك الغابة، وحصّة ثانية للأسد لأنه الأقوي، وحصة ثالثة للحمار… ولكن من الحكمة أن تُترك للأسد أيضاً، ثمناً لبقاء الحمار علي قيد الحياة! وهذه حكاية أخيرة: وقع نسر في قبضة صياد قاسي القلب، سارع إلي قصّ جناحَيْه، وحبسه في القنّ مع الدجاجات. رجل ثان أشفق علي النسر فاشتراه، وأبقاه تحت رعايته حتي نبت ريش جناحيه، فأطلق سراحه. النسر سارع إلي اقتناص أرنب، وأهداه إلي الرجل الثاني من قبيل ردّ الجميل. الثعلب راقب المشهد وخاطب النسر بسخرية: كان الأحري بك تقديم الهدية إلي الذي اصطادك وليس إلي الذي ردّ لك كرامتك. الثاني لن يؤذيك في كلّ حال، والأوّل هو الجدير بالرشوة!
وفي مناسبة راهنة مثل الشدّ والجذب بين البيت الأبيض والحكومة العراقية حول مسوّدات الإتفاقية الأمنية الدائمة بين البلدين، وما إذا كانت تنتهك سيادة العراق أم تحافظ عليها وترتقي بها، ألا يستحقّ كلّ من الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي هذه الهدية: نسخة مذهّبة، مزيدة ومنقحة ومصوّرة، من حكايات إيسوب؟ ألا يستحق الهدية ذاتها بشار الأسد، إسوة برئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، في مناسبة استئناف المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية؟

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى