راينر ماريا ريلكه بترجمة كاظم جهاد: أسئلة شعره أسئلة الشعر كلّه
مها حسن
[لذّة الكتاب
طبعة أنيقة ذكّرتني ببداية دخولي في عالم القراءة غير الشرعية، حين كنا نشتري الكتب بشكل سرّي من إحدى المكتبات الشهيرة في مدينة حلب. لا أعرف إن كان خوفي موضوعياً أم عصابياً، لأنّ المكتبة كانت محسوبة على الشيوعيين، وطبيعة الكتب التي كنت أشتريها كانت من النوع الذي تُحبّذ قراءته: حياة لينين، إيتماتوف، مكسيم غوركي، ليرمنتوف…
كان اقتناء تلك الكتب يصيبني ببهجة غامضة، لم تكن لذّة القراءة، لأنني لم أكن قد اكتشفت تلك اللذّة بعد، بل لذّة الكتاب.
ما إن احتضنت (لم أجد غير هذه المفردة)، الأجزاء الثلاثة التي تضم الأعمال الشعرية الكاملة لريلكه (القصائد التي كتبها بالألمانية)، حتى استعدت هذه اللذّة التي فقدتها منذ أكثر من عشرين عاماً. هذا لا يعني أنني لم أستمتع خلال هذه السنوات بالقراءة، إلا أنني لم أستمتع بالكتاب منذ ذلك الوقت. الكتاب الذي يتحوّل هو ذاته إلى موضوع، إلى شيء يرافقك، حيث طبيعة الطباعة، والتجليد السميك، والأجزاء أيضاً، تجعل من الشاقّ على أحدنا أن يستسهل القراءة. أنا التي أقرأ في أمكنة متعددة، في المترو مثلاً أو في الحديقة، في المقهى، أو حتى في قاعات الانتظار، كعيادات الأطباء… تُلزمني هذه الطبعة المختلفة بتغيير عاداتي، للجلوس إلى طاولة، متتبّعةً السطور الأنيقة والصفحات الفاخرة.
[لذّة النص
بعيداً عن احتكار رولان بارت، ومن حقّه طبعاً، لهذا المصطلح، فإنّ اللذّة هنا هي الطمأنينة والثقة اللتين نشعر بهما بسبب الثقة بالكاتب. إذ يستمتع أحدنا بنصوص ما، قبل الاستغراق في قراءتها، لمجرّد أنها صادرة عن كاتب سبق أن قرأنا له، واستمتعنا بنصوصه. فاللذّة هنا مختلطة بالنوستالجيا أو بالأثر الأوّل الذي تركه النصّ وصاحبه.
وكما تنفرد مجموعة ريلكه بأناقتها الورقية وتجليدها الفاخر، ينفرد كاظم جهاد مترجم هذه القصائد.
من حُسن حظّ القراءة العربية، ومن حُسن حظّ ترجمات ريلكه إلى العربية أنها وقعت في أيدي مترجمٍ شاعر.
المترجم أوّلاً أستاذ جامعي معروف بدقّته إلى درجة الصرامة أحياناً، وبحذره وأمانته الشديدين في مسّ قصائد ريلكه الألمانية، وهو نفسه ينوّه في مقدمة الجزء الأول بنقطتين مهمّتين: الأولى انصرافه إلى معرفة اللغة الألمانية سنوات عدّة (عشرون سنة تقريباً من ارتياد أشعار ريلكه)، وزمالته مع أساتذة الألمانية في الجامعة التي يدرّس فيها، وبخاصة البروفيسور غيرالد شتيغ، إذ قام جهاد بترجمة المقدّمات التي أنجزها هذا الأخير لنشرة “لا بلاياد” الفرنسية التي تضمّنت آثار ريلكه الشعرية الكاملة.
من يعرف كاظم جهاد عن قرب، يتعرف على حساسية هذا الرجل في التعامل مع اللغة، حتى في حياته اليومية، ودقّته في استخدام الجمل والألفاظ. لهذا فإن شخصاً بدقة كاظم جهاد وأكاديميته، إضافة إلى حساسيته الشعرية، تجعلنا نشعر، مجدداً، ونحن نمسك بهذه الأجزاء الثلاثة، بأننا أمام كنز معرفيّ حقيقيّ، لينتقل بنا المقام من لذّة يحقّقها الكتاب إلى لذّة يصنعها الكاتب.
لذّة الكاتب هنا، هي المتعة التي يشعر بها القارئ، والتفاعل مع صاحب النصّ، وهذه اللذّة يسبّبها هنا، ويتقاسمها معاً، كلّ من ريلكه وكاظم جهاد.
ريلكه من خلال جهاد، وجهاد من خلال ترجمته أوّلاً، ومن خلال المقدّمة، التي تستحقّ وحدها أن تُطبع مفصولة في كتاب صغير مكثّف، من ثلاثين صفحة، يساعد الباحثين الأكاديميين، المهتمّين بريلكه، كما يحقّق متعة مختلفة للباحثين عن لذّة القراءة بعيداً عن أيّ غاية مدرسيّة.
[مقدّمة كاظم جهاد
النقاط المهمة التي يمكننا التوقّف عندها في مقدّمة جهاد، والتي تختلف من قارئ إلى آخر، وفقاً للذائقة الشخصية، أو المزاج الشعريّ، أرتّبها هنا وفق النقاط التالية:
ـ أسطرة ريلكه: ريلكه والتحليل النفسيّ
يحدّثنا المترجم عن الروائيّ والناقد النمساويّ شتيفان تسفايغ الذي اعتبر أنّ “الارتقاء المعجز الذي قام به ريلكه، بعد بداياته المتلكئة بسنوات، يكاد يشكّل إحدى أكبر الأساطير الحيّة في تاريخ الشعر”. في إيراد جهاد لتعبير تسفايغ عن ريلكه، والتحدّث عن أسطورية الارتقاء الشعريّ لدى ريلكه أيضاً عبر صموده “أمام الآثار النفسية الشالّة التي كانت تنجم عن صدوعه تلك، جابهها بالشعر وحده، رافضاً الاستعانة بالتحليل النفسيّ أو سواه” (ج 1، ص 9).
وفي الحاشية المتعلقة بالمرثية الثالثة من “مراثي دوينو” والواردة في الجزء الثالث من المجموعة، في الصفحة 280، يُعلم القارئ بأنّ بعض النقّاد اعتبروا هذه المرثية “قصيدة تعليمية في التحليل النفسيّ”، كما أنّ ريلكه كان قد حضر المؤتمر الرابع لجمعية التحليل النفسيّ المنعقد في ميونيخ وتعرّف فيه على فرويد.
كما أنّ غيرالد شتيغ، في المدخل الذي كتبه عن أعمال ريلكه والذي لخّصه جهاد، يتوقّف عند المراثي قائلاً: “كما لا يمكن ألا نتذكّر هنا اهتمام ريلكه وبعض أصدقائه بالظواهر النفسية غير الاعتيادية أو الغيبيّة (بارابسيكولوجيا)” (ج 1، ص 93).
إنّ تجربة ريلكه مع التحليل النفسيّ مهمة جدّاً، ويمكن اعتبارها بمثابة مرجعية، أو نصيحة ثابتة، لتفسير العلاقة بين الأعراض النفسية والشعر من جهة، أو الكتابة عموماً والشعر خاصّة، وبين التحليل النفسيّ والشاعر. إذ أن ريلكه فكّر في اللجوء إلى التحليل النفسيّ، خاصة في فترة ” دوينو”، إذ مرّ بحالة انتظار لم يتمكن أثناءها من الكتابة، وهو فكّر في اللجوء إلى التحليل النفسيّ. إلاّ أنّ لو أندرياس-سالومي أقنعته بضرورة الاستغناء عن الفكرة. وقد كتب ريلكه إلى الطبيب النفسيّ فيكتور إميل فون غيبزاتل: “يبدو لي أن عملي (الشعريّ) يشكل في العمق نوعاً من العلاج الذاتي” (ج1، ص 95).
وهو كتب إلى لُو مجّدداً: “بتُّ أعرف أن التحليل النفسيّ لن يتمتع بالنسبة لي بأي معنى إلاّ إذا ما حملتُ على محمل الجدّ الفكرة التي ستنجم عنه، والمتمثّلة في هجران الكتابة. هذه الفكرة التي كنت ألوّح بها لنفسي كنوع من الترويح عندما كانت روايتي “دفاتر مالته لوريدس بريغه” بصدد الاكتمال”.
[رسائل ريلكه
من أولى رسائل ريلكه الشهيرة “رسائل إلى شاعر شاب”، يقتطف المترجم منها مقطعاً ثمّ يقول: “آمنَ هوَ بأنّ العزلة هي قدَر الفنان، شرطه الوحيد الممكن، أثناء الممارسة الفنيّة على الأقلّ” (ج1، ص11). وفي مقطع آخر اقتطفه المترجم من الرّسالة: “لا أحد يقدر أن يأتيك بالنّصح أو المساعدة، لا أحد. وليس ثمة سوى درب واحد. توغّلْ في ذاتك، وابحثْ عن الحاجة التي تدفعك إلى الكتابة. أنظرْ ما إذا كانت هذه الحاجة تدفع بجذورها في أعماق قلبك. اعترفْ لنفسك: هل ستموت إذا ما مُنعت عنك الكتابة؟ وهذا خصوصاً: اسألْ نفسك في السّاعة الأكثر سكوناً من ليلك: “أأنا مجبر على الكتابة حقاً؟” غصْ في ذاتك بحثاً عن الإجابة الأعمق” (ج1، ص 11-12).
هذه الرسائل هي العشر كتبها ريلكه إلى فرانتس إكزافير كابّوس، وكان، مثل ريلكه الشابّ، طالباً في المدرسة العسكرية ويحلم بكتابة الشعر.
[تماهي الفعل الإبداعيّ مع صاحبه
في حديثه عن “الموديلات” أو النّماذج، متّخذاً من الفنانين الكبار، كرودان وسيزان، أمثلة، يرينا ريلكه، كما كتب المترجم، “كيف ينخرط الواحد منهم في عمله فلا يعود يشكّل سوى عمله نفسه وما يتطلّبه منه من إيماءات وشاكلة وجود. في دراسته “أوغست رودان” يرينا ريلكه في آن واحد كيف صار الروائي بلزاك أثرَه السرديّ، وكيف صار رودان، للحظة طويلة من حياته، تمثاله الذي به “صَوّرَ” بلزاك (ج1، ص 12).
[ريلكه الروائيّ
لريلكه رواية واحدة عنوانها “دفاتر مالته لوريدس بريغه”، المكرّسة، وفق المقدّمة دوماً، لاستعادة طفولة ريلكه ولرصد سنوات عزلته الباريسية. ثمة صفحة في الرّواية يصفها المترجم بالصفحة الشهيرة، يقول فيها ريلكه: “إن أبياتاً من الشعر كتبناها في عهد الشباب ليست بالشيء الكثير. ينبغي أن ننتظر ونراكم طيلة حياة، حياة طويلة إن أمكن، ثمّ أخيراً، بعد سنوات كثار، قد نعرف أن نكتب أبياتنا العشرة الجيّدة. فالأشعار ليست، كما يحسب البعض مشاعر. مبكّراً تكون لدينا مشاعر. بل هي تجارب” (ص 15).
ربّما كان على المهتمّين بالرواية لدى ريلكه، الامتنان لمقدّمة كاظم جهاد، فهي تكاد تكون المرجعية العربية الوحيدة لعالم ريلكه الروائيّ، أو لنقلْ، في عصر المعلوماتية والأنترنت، إنّ ما حصل معي كان هذا. فبكتابة اسم الرواية بالعربية في شريط غوغل، لا نعثر إلاّ على المواد التي كُتبت عن ترجمة جهاد، مع أنّ المصادر باللغة الفرنسية ثرية ومتنوعة عن الرواية، وأشهرها “موسوعة الويكيبديا” التي تخلو في الكثير من موادّها، وعن رواية ريلكه بالذات، من اللغة العربية. نستطيع أن نعثر، عبر مفتاح يجده القارئ بالعربية ـ في حالتي مثلاً ـ على اسم الرواية. نذهب بعدها في التنقيب عنها في لغات أخرى، الفرنسية مثلاً، لنجد أنّ الرواية منشورة في فرنسا منذ عشرينات القرن المنصرم، وأنّها صدرت في منشورات “لو سويْ” منذ عقود في طبعة جيب متوافرة في الأسواق، ممّا يشجع طبعاً على اقتنائها وقراءتها، إلاّ أنها غير مترجمة إلى العربية!
ثمة تنويه نجده مهمّاً، أنّ ريلكه كتب أيضاً المسرح، والقصّة، وله دراستان في نحت رودان.
[الفضاء الجوانيّ للعالم أو حداثيّة ريلكه
يعتقد جهاد بأنّ ريلكه، وحسب عُرف مؤرخي الحداثة، يمثّل الحلقة الموصلة بين هولدرلين وبودلير ومالارميه من جهة، وشعراء أقرب عهداً كرنيه شار وباول تسيلان من جهة أخرى، وذلك بفضل ما يسميه ريلكه “الفضاء الجوانيّ للعالم”، والذي يرى المترجم أنّه صيغة تلخّص برنامج ريلكه كلّه. وهذه الصيغة قائمة على موقف أساسيّ لدى ريلكه من العلاقة بين الشّاعر والأشياء التي اختبرَها هوَ. بمعنى أن المهمّ هو الفضاء الجوانيّ للعالم، “لا العالم بما هو فضاء جوانيّ، بل العالم بعد إحالتنا نحن إيّاه فضاء جوّانياً” (ج1، ص 16). كتب ريلكه: “نحن نحلات اللاّمرئيّ. بكامل اللّهف نجني عسل المرئيّ لنسكبه في قفائر اللامرئيّ الذهبيّة الكبيرة” (ج1، ص 17).
كما أنّ مقدمة غيرالد شتيغ تؤكد أيضاً على “جوانية” شعر ريلكه، وذلك في معرض تحليله للمراثي، الأثر الأكثر طرحاً للأسئلة، والأكثر إمتاعاً ربّما، إذ ينقل في الصفحة 93 من الجزء الأوّل ما قاله أودو ك. ميزون: “كانت رغبة ريلكه الدائمة هي أن يحوّل جوانيّة الإنسان إلى بُعد شاسع”.
[بين ريلكه وكاظم جهاد
المقدّمة التي وضعها جهاد تشي بحبّ وبإعجاب بريلكه، السؤال الذي يفرض نفسه عليّ كقارئة: أيمكننا أن نترجم كُتّاباً لا نحبّهم؟ والسؤال الذي راح يداهمني بقوة هو التالي: ما الرابط الشخصيّ بين جهاد وريلكه؟
كاظم جهاد لا يتوانى عن كشف تضامنه مع ريلكه، هذا الميل الذي يشي بالإعجاب بريلكه إذن. فمثلاً نراه يقف إلى جانب ريكه، مخالفاً بذلك هايدغر الذي “يقلّل من أهميّة ريلكه لصالح سلفه هولدرين” (ص 25). أمّا في الصفحة السادسة والعشرين، فيعتبر جهاد أنّ هايدغر “ينحو باللائمة على ريلكه من دون حقّ”.
وفي الصفحة العاشرة من الجزء الأوّل، يقول المترجم: “إنّ أسئلة شعر ريلكه، بباعث من تشعّب معالجاته وسعة تجريباته وخطورة تخميناته، تكاد تكون أسئلة الشعر كلّه”.
[الجديد في هذه الترجمة
سبق أن تمّت ترجمة ريلكه إلى العربية، إذ قام فؤاد رفقة بترجمة “مراثي دوينو”، ولكن الترجمة الحالية، هي الترجمة الأولى للأعمال الشعريّة الكاملة، أي جميع قصائد ريلكه بالألمانيّة، المنشورة في حياة الشّاعر. تبقى الأشعار المنشورة بعد وفاة الشّاعر، ويعد المترجم في مقدّمته بترجمتها في جزء لاحق. وكما يقول المترجم، فهي “تشكل لوحدها ديواناً كاملاً” (ج 1، ص 5).
الجديد هنا إذن، أنّ جميع القصائد الفرنسية إضافة إلى المقدّمة السخيّة المؤلّفة من 21 صفحة، وكذلك مقدّمات غيرالد شتيغ لمجموعات ريلكه وحواشيه لها في النشرة الصادرة في سلسلة “لا بلاياد” عن منشورات غاليمار. هذه الصفحات تشكّل مرجعية مهمّة عن ريلكه. ناهيك عمّا تمّ ذكره في بداية هذه القراءة، حول الحساسية الشعرية واللغوية، في ترجمة يتناولها شاعر ومترجم، بمهنيّة عالية، وبحساسية وذائقة مختلفتين، تضيفان إلى عالم ريلكه بعضاً من عوالم وبصمات كاظم جهاد الشعرية.
باريس
المستقبل