صفحات ثقافية

الروائي الأميركي جوناثان فرانزين يرفض تبخيس عمل الفكر لمصلحة الشعار التجاري

null
“الحرية” رواية رمزية تفضح الخبث والبارانويا والتلاعب الماكيافيلي
تحمل رواية جوناثان فرانزين الأحدث، “الحريّة”، عبء ترقّبها المتحرّق. ليس ما تقدّم كلاما مكرورا وقليل الشأن وعابرا. ذلك ان الانتظار المحموم يولّد أوهاما أدبية يقصر اي كتاب عن تلبيتها في نصه بلا ريب، أياً يكن الاسلوب المتفرّد والاعجاز الغامر والموهبة الطافقة.
عندما تصدّرت صورة فرانزين مجلة “تايم” الأميركية في آب المنصرم، وصف الفعل المباغت والمربك بـ”غير البديهي” وربما انبثق التذبذب الجليّ، من شكّ في المنطق الذي دفع بالمجلّة القادرة على التكريس، الى انتخابه دون سواه. هل تم جلبه الى المقدمة كأبرز روائي في جيله لسهولة المقابلة بين كتابه الأسبق “تصويبات” و”العاري والميت” و”جاذبية قوس القزح” و”محبوبة” وغيرها من العناوين الأدبية المرجعيّة في المكتبة الانغلوسكسونية؟ أو لأن رواية “تصويبات” تحديدا استطاعت ان تأتيه بدمغة الكتاب الاكثر مبيعا بعدما لاقت النجاح التجاريّ المذهل وباعت ما يناهز ثلاثة ملايين نسخة في العالم، لتجعله يدخل حظيرة ستيفن كينغ وسكوت أوف تورو؟
قيل في فرانزين انه كاتب شعبي “أحادي البعد” يأتمر بدستور السوق، بينما حرّم عليه الظهور الى جانب اوبرا وينفري في 2001 ضمن ناديها للكتاب الأثير، بعدما رفض فرانزين ان تزنّر روايته “تصويبات” بشريط “اختارته اوبرا وينفري” الترويجي الكفيل نفخ المبيعات بنحو خمسمئة ألف نسخة كمعدل، في حين رضخت كاتبة من طراز توني موريسون الحائزة جائزة نوبل طائعة لمستلزمات نجمة الموجات الهرتزيّة. غير ان وينفري لم تمررّ موقف فرانزين المتمرد بسهولة، وانما قابلت ترفّعه عن وضع شارة رأيها القيمي بسحب المكان المخصص له على كنبة برنامجها المشاهَد بوفرة. مكث الروائي في المنزل اذاً، بيد ان الرواية لم تصلها اي سهام مقاطعة ولم تتعفن في رفوف المكتبات، وانما على نقيض ذلك، جلب الحظر نعوتاً من مثل “النخبوي والمميّز عنصريا” التي ألصقت بالكاتب، ناهيك بنبذ أفقي، غير ان ذلك لم يحجب عنه جائزة “ناشونال بوك أوارد”. وفيما توفّر تلك الحادثة دلالات جمّة الى تفاخر فرانزين بلا شك، غير انها تؤكد تصالحه مع نفسه، هو الذي يؤكد ان مؤلّفا بالمطلق – بوصفه عمل الفكر – لا يسعه “ان يصير ملكَ شعار” تجاري.
شهدت “تصويبات” على اكتشاف جوناثان فرانزين لصوته المرن، وكبحت نزوعه صوب التبشير الاجتماعي. غير ان الرواية أتت بتهجين لافت بين غرائز الكاتب الهجائية ونظرته الكارهة للإنسان وبين ميل فطري الى المجيء بأشخاص ثلاثيي البعد يصيرون أكثر تشعبا أحيانا أيضا. بدا كأنه يصعّد في أحيان فحوى تجارب نماذجه الرمزيّة، على الرغم من اعطائها جميع الأصناف المقيتة، من قبيل الخبث والتكبّر والبارانويا والتلاعب الماكيافيلي. في الصفحات الاستهلالية لروايته الأحدث “الحرية” (دار “فرار شتراوس اند جيرو”)، تتراءى هذه الدينامية أشدّ حضورا فيما نتعرف الى اعضاء أسرة بيرغلاند، وهؤلاء باقة من الرسوم المثيرة لضحك بشع ينصرفون الى مضايقة جيرانهم في حي سانت بول. يشتهر والتر بيرغلاند بـ”دماثته”، بيد انه زوج هشّ ووالد سلبي على نحو عدائي، يتاجر بمثله البيئية العليا في مقابل إبرام عقد عمل لا يعوَّض مع احدى شركات الفحم ذات الأهداف المريبة. تُظهر زوجته باتي هي الأخرى لطافة اجتماعية زائفة، لتكشف عن حنق دفين ونفاق حاد بعدذاك. تلك سيدة قادرة على الثورة المدوية الموجهة ضد والتر، وعلى فقء اطارات سيارة جارها المخصصة للثلوج من دون سبب واضح. نصل الى إدراك الوثاق الجامع بين والتر اللاهث لإرضاء الآخرين والجندي الصالح ايضا وصاحب الغضب المكبوت، وبين الرياضية المتألّقة باتي التي صارت ربّة أسرة تلقي بنفسها في فقاعات الكحول والتهكّم بغية تقزيم شعورها بالعجز والتيه. أما في وسطهما، فابن متعجرف يدعى جوّي، قابع في التعاسة الى حد مغادرة المنزل الأسري ليستقرّ في منزل صديقته المحاذي له. تتقدّم الرواية ويتورّط فرانزين في الغوص في ذهن مبتكراته التخييليّة ليجعلها من الآدميين الصرف وليس ممن يسعنا تبويبهم ضمن فئتي “القساة” اي الذين يعوزهم الخفر والطموحين المتوحّشين او ضمن فئة “المرهفين” المثيرين للشفقة والزاحفين والمتحسّرين المشوّشين القادرين على التبدّل وعلى التسامي ايضا.
والحال، ان “الحرية” من طراز “تصويبات”، ذلك انها هي الأخرى تمحّصٌ دانٍ جدا بل ومجهري في أسرة من الغرب الأوسط الأميركي. لم تستطع الضجة التي أحدثتها رواية “تصويبات” عند صدورها ان تحجب الأساسي، أي الكتاب. حلّل النص بشكل سخي عائلة تنتمي الى الطبقة الوسطى الأميركية من باب الإنتظارات والخيبات، وإن لم يرتق الى طراز أعمال فيليب روث الباحثة في الشأن عينه. نعثر فيها على اولاد إينيد وألفرد البورجوازيين الصغيرين ابان ابتعادهما عن بؤرة الأصول، ابتعاداً لن يمكنهما من بلوغ آمال والديهما. تبدّد دنيز، وهي صاحبة مطعم يجاري العصر، وشقيقها الأكاديمي الهائم والسيناريست البائس تشيب، احتمال نجاح مسيرتهما المهنية بنتيجة حكايات عاطفية كئيبة ومغامرات بلا افق. لا يوفّق الاثنان سوى في الاخفاق في الارتباط، كما في تلقّف كآبتهما. لا يجيء فرانزين ببورتريه حنون للأبناء، وانما يزيد عليه أمّاً تهجس بزقزقات الآخرين ووالداً صار فريسة داء الباركنسون. لكن على الرغم من تلك الطرق الفرعية القاتمة التي يرتادها الكاتب بتصميم، لا تخسر الرواية طموح الترفيه.
يخيّل الينا ان فرانزين الثائر على مقاييس روائية متخاذلة، عثر على الاعتدال بل وعلى وصفة ناجعة تفيد من الأدبي ولا تعادي الترفيهي والجماهيري. في العام 1996، اطلق تصريحا ارعن على صفحات مجلة “هاربرز” في سياق بحث مرير وشخصي الى النخاع سمّاه “احتمال حلم: في عصر الصور، مبرر لكتابة الروايات”. تملّى واقع الكتب في المجتمع المعاصر في اعقاب عناوين عدة لم تلق صدى لدى القراء، لواقع انها “شديدة الخفّة بالنسبة الى البعض او شديدة القتامة بالنسبة الى البعض الآخر”. يشخّص فرانزين بعدذاك موت الرواية الهائلة الملتزمة اجتماعيا بعدما اجهز عليها في رأيه روائيو ما بعد الحداثة الجدد من أمثال توماس بينتشون ووليم غايديس ودون ديليلو، لأنهم رُصدوا لخواء المعنى بسبب التحاقهم بالنسق التلفزيوني. بات القراء المعاصرون في رأيه يشحذون التسلية وليس الخبر ويطالبون بقصص ملوّنة مستحوذة فيما يزدرون العقيدة، ليملأه هذا الإدراك بؤسا.
بيد ان فرانزين لم يحلّل الوضع فحسب. ألمح الى قدرته على حلّ المعضلة. ذهب صوب رواية عتيقة لبولا فوكس بإسم “الشخوص اليائسة” كان مرّ بها ورفدته بالأمل. قادته الحكاية المنقّبة في زواج ثنائي من بروكلين، الى زقاق أفضى به إلى ضوء. حملت الرواية شيئا من الحميمي والحسّاس، وإن تذبذب هذا القدر في أفق فسيح. سعى فرانزين الى محاكاة فوكس التي واظبت على متابعة المشاغل الثقافيّة وعلى تعميم الكتابة في خصوص أمور دانية منها، بل ومرتبطة باهتماماتها. كان وعد فوكس الضمني بمدّ الجسور بين الشخصي والإجتماعي، مقترباً ناسب فرانزين، على ان يظهره لاحقا كما تعهّد في نص شخصي وملتزم ومغو في آن واحد. نمّ ذاك الطموح عن جسارة يومذاك، في حال كاتب غامض وشاب يحصي في رصيده روايتين فحسب، كاتب قدّمته نبرته المستفزّة والسلطويّة ازاء اعضاء بارزين في الهرم التخييلي في الولايات المتحدة الأميركية من مثل بينتشون وديليلو، حالة مغايرة في الشأن الأدبي سيظهر لاحقا انها تتكتم على الكثير.
الحق يذكر ان باكورة فرانزين، “المدينة السابعة والعشرون”، اقترضت من امثال بينتشون وديليلو بغية نسج لقطة قاتمة ومضيئة على السواء لسانت لويس المقبلة. أما في رواية مطلع الألفية الثانية، “تصويبات”، فخطّ تصميمه على اتمام رواية اميركية تأتي سليلة “بادينبروكس”، أول غيث الألماني توماس مان الروائي. اما الهدف فاستدعاء أميركا الراهنة، من طريق اقتناص ملحمة بروح العصر، تفكّك التاريخ الأسري وتجلب لنا بورتريها واسع المنظار لتلك البلاد، فيما تستعد لاختبار التدهور الاقتصادي. في الماضي، مال جوناثان فرانزين الى فرض رؤية متشائمة وميكانيكية لعالم شخوصه، مهددا بجعلهم مجرد بيادق كتابية، مجرد اسقاطات فرويدية وداروينية. هذه المرّة، في “الحريّة”، ومن طريق ابتكار افراد يحترفون اختيار أقدارهم، انجز فرانزين روايته الأعمق، حيث سيرة لافتة لأسرة غير مهيّأة، وكليشيه عنيد لعصرنا.
على طراز السواد الأعظم من الكتّاب، يبدو فرايزين كتلة من التناقضات. ذوقه الأدبي محنّك نظريا، فيما يبوح بعجزه عن فهم امكان ان يستمتع احدهم بمطالعة صموئيل بيكيت. يظنّ التخييل “نمطا من المعارضة الإجتماعية”، غير ان ايقاعه الكتابي اجتماعي ساطع ومتهكم ومتسامح ايضا. تم الاحتفاء الصاخب به، بحجة انجازه باكورة الروايات الجدارية في القرن الحادي والعشرين، في حين تستنبط هيئة “تصويبات” من حيث دلالتها على واقعية واعية، اسلوب ديكينز وجورج ايليوت. لا يمكن سوى الاقرار بأن نص فرانزين سخيّ وفسيح، غير ان نظامه التأليفي الصارم يفرض عليه املاءات جمة، حرم من الاولاد ومن العطل وفرض عليه ان يخصّص اعواما عدة لإنجاز كل عنوان تأليفي. صرف سبعة اعوام لاتمام “تصويبات” وتسعة لوضع نقطة النهاية لـ”الحرية”. ثمة مفارقة أخرى في وسعنا الحديث عنها. إبّان كتابة “تصويبات” دفع بفرانزين في وسط نوبات كتابية، ان يكون على تماس مع التطورات التقنية، فشحذ عينيه واذنيه لاستيعاب خطاب ميكانيكي معاصر وتظهيراته الحركيّة، سائلا عن كيفية تبديله العالم. غير ان ذلك لم يثنه عن الاحتفاظ ببذور شك تلامس اليقين في امكان ان يكتب احدهم ممن يسعهم التواصل بالشبكة العنكوبتية، تخييلا بمستوى لائق.
رغبة جوناثان فرانزين في بلوغ قاعدة قراء عريضة، جليّة لمن يتتبعه. يريد أن يصير إسما في مجموعة كتّاب بالمطلق، طالعهم والده وابناء جيله من دون وميض ارتياب. غير ان الروائي يسأل في قرارة إدراكه عن السبيل الى مقاومة مفيدة في مجتمع حيث يضطر الكاتب الى ان يكون أكثر مما هو عليه، بغية ان يلبي حاجات قارئ صار أشد بخلا، في زمن أمست العملة الخضراء “ذراع القيمة الثقافية”. يردّ الأميركي من طريق الكتابة، وهي ذراعه الأقوى. توازي المقاومة الانكباب على التأليف ربما، بهدف امرار جزء من تركيب الواقع، بهدف استيقاف القارئ، ذاك القارئ المتوسط وغير الانتقائي، اي فرانزين عينه على الأرجح.
مقتطف: الـــــحـــــرّيـــــة
لم يُعر السكان في تلك الأنحاء أهمية للأخبار المتعلقة بوالتر بيرغلاند، ذلك انه غادر الى واشنطن برفقة باتي قبل عامين، وصار الاثنان لا يعنيان شيئا لقاطني منطقة سانت بول. في كل حال، لم يُظهر سكان رامسي هيل الاريستوقراطيين وفاء كبيرا لمدينتهم، ذلك انهم دأبوا يقرأون صحيفة “نيويورك تايمس” على سبيل المثال.
ورد في مقال طويل غير ودّي نشر في “نيويورك تايمس” ان والتر ضيّع فرصه المهنية هناك، في عاصمة الأمة. لم يكن سهلاً على جيرانه القدامى ان يوفّقوا بين ما قيل عنه في الصحيفة حيث وردت اوصاف تراه “متعجرفا ومسيطرا ومريبا اخلاقيا”، وبين صورة الرجل السخيّ والباسم وصاحب الوجه الطافق باللون الذي عرفوه في الماضي يستقلّ دراجته الهوائية الى أعلى “سوميت افينيو” في عزّ شباط المثلج. بدا مباغتا بالنسبة اليهم ان يتورّط والتر، الرجل الذي تراءى اكثر رفقا بالطبيعة من منظمة “غرينبيس” والمتحدّر من الريف، لتواطئه مع العاملين في استخراج الفحم في مؤامرة مقيتة تستهدف مواطنيه. غير انه وفي اي حال لطالما بدا ان ثمة اموراً مثيرة للحفيظة تتعلق بآل بيرغلاند.
كان والتر وباتي من فئة الرياديين الشباب في رامسي هيل. كانا باكورة اصحاب الشهادات الجامعية يقتنيان منزلا في شارع باريير مذ ساءت الأوضاع في أحياء سانت بول القديمة، قبل ثلاثة عقود. دفعا اليسير مقابل منزلهما ذي الطراز الهندسي الذي يعود الى الحقبة الفيكتورية ثم فعلا شبه المستحيل على مرّ عشر سنين لترميمه. احدهم ممن يتمتعون بتصميم لافت بلا شك، عمد مرةً الى اضرام النار في مرأبهما وتعمد الاصطدام مرتين بسيارتهما كذلك، بيد انهما أعادا تجميل المرأب كأن شيئا لم يكن.
اعتاد راكبو الدراجات الهوائية ذوي البشرة المسمرة ان يسلكوا الطريق نزولا عبر الزقاق المحاذي لمنزل الثنائي لاحتساء شراب شليتز وشواء النقانق او لزيادة سرعة محرّك السيارات في ساعات الفجر الاولى، الى حين خرجت باتي من البيت في احد الايام مرتديةً الثياب الرياضية، لتحذّر الشباب من تكرار افعالهم. لم تكن باتي لتخيفهم، على الرغم من انها كانت رياضية مكتملة خلال ارتيادها الثانوية ثم الجامعة، ولم تكن تعرف الخشية. مذ أقامت في الحي لفتت الأنظار من دون رغبة منها. كانت فارعة الطول وشابة على نحو مستفزّ، ترفع شعرها كذيل الحصان وتدفع عربة الاطفال وتدوس على قناني الجعة المكسورة والثلج العجوز، فيما تدلّت من العربة على مرّ النهار اكياس التبضع. بدت منهمكة بالتحضيرات اليومية المتعلقة بطفلها، فيما شغلت فترة الظهيرة بالاستماع الى الاذاعة الرسمية وتبديل الحفاضات. مثّلت باتي على اكمل وجه نموذجا سيعمم على جميع قاطني الشارع.
في الأعوام الاولى كان لا يزال في وسع المرء قيادة سيارة من طراز “فولفو 240” من دون الإحساس بالحرج. كانت المهمة الجماعية السائدة في رامسي هيل تقضي بأن تتم اعادة تعلّم بعض المواهب الحياتية التي هجرها الأهالي عندما قدموا الى الضواحي بهدف التخلص منها تحديدا. كانت تشمل اثارة اهتمام رجال الشرطة المحليين ليقوموا بعملهم على أفضل وجه وتعلم تقنيات حماية الدراجات الهوائية من سارقين محفّزين جدا، ناهيك بتحديد وضع المدارس الرسمية والتمكن من الاقرار بأنه أسوأ من محاولة اصلاحه حتى. كان هناك استفهامات أكثر عصرية من قبيل: هل حفاضات القماش جيدة فعلا؟ هل لا يزال ممكنا الحصول على الحليب في قنان زجاجية؟ هل يتخطى فتيان الكشافة الاعراف القائمة؟ اين يمكن اعادة تدوير البطاريات؟ ماذا تجيب سيدة ليست من العرق الابيض بأنك تدمّر الحي حيث تقطن؟ ما هو مستوى تطوّر فيلتر مياه المطبخ المطلوب؟ هل من المستحسن تقديم وجبات طعام من باب الشفقة او الاكتفاء بعدم القيام بشيء؟ هل ثمة مجال لتربية الاولاد الواثقين والسعداء واللامعين في موازاة العمل بدوام كامل؟ هل يمكن طحن حبّات البن عشية استخدامها او يجب انجاز ذلك في الصباح المبكر؟ هل خبر أي شخص من قاطني سانت بول تجربة ايجابية في ما يتعلق ببناء السقوف؟ ماذا في شأن القدرات الميكانيكية لسيارة من نوع “فولفو”؟ هل واجهت مشكلة على مستوى كابل المكابح في سيارتك من طراز “240”؟ بماذا يفيد زر في لوحة جهاز القياس في السيارة يحمل اشارة غامضة ويجعل الأسوجيين سعداء، في حين يبدو غير معلق بشيء؟
كانت باتي بيرغلاند مصدر إلهام في شتى المسائل بل حاملة شامسة لغبار طلع اجتماعي ثقافي، او لنقل نحلة مرحّبة. كانت احدى الامهات غير العاملات القليلات في رامسي هيل، وذاع صيتها لإحجامها عن مديح نفسها والحديث بالسوء عن الآخرين. كانت تقول انها تتوقع ان “تقطع” احدى النوافذ رأسها في احد الايام، تلك التي عملت على ابدال اطاراتها الحديدية المنزلقة. اما اولادها فسيموتون على الارجح من داء التريكينوسيس بنتيجة التهامهم لحم الخنزير الذي بالغت في طهوه. كانت تتساءل ما اذا كان “إدمانها” رائحة مزيل الطلاء على صلة بإقلاعها عن مطالعة الكتب. لم يرق لبعض الاشخاص أسلوب باتي في انتقاد النفس، رأوا فيه نوعا من ازدراء الذات، لكأنها من طريق تعظيم هنّاتها البسيطة تحاول على نحو واضح مهادنة مشاعر ربّات المنازل الاقل تميزا. غير ان معظم الناس وجدوا تواضعها صادقا او مسليا في الاقل. كان في اي حال، من الصعب مقاومة سيدة أحبّها اولادك الى هذا الحد، لم تكن تذكر اعياد ميلادهم فحسب وانما عيد ميلادِك ايضا. كانت تظهر عند عتبة باب المنزل الخلفي تحمل صحنا من الحلويات او بطاقة معايدة او بعض الزهور قطفتها من الوادي ووضعتها في إناء طلبت منك الاّ تأخذ عناء إعادته.
أدرك الجميع ان باتي نشأت في الشرق في أحد احياء مدينة نيويورك، وكانت من بين باكورة نساء تنال منحة كاملة النفقات لممارسة رياضة كرة السلّة في مينيسوتا حيث توصّلت في عامها الجامعي الثاني الى الالتحاق بفريق أميركي من الدرجة الثانية، وفق ما تظهره لوحة ثبتت على احد جدران مكتب والتر.
كان ثمة امر غريب في خصوص باتي بنتيجة توجيهها العائلي بلا ريب، جعلت صلاتها بجذورها ملتبسة بعض الشيء. مرّت مواسم كاملة من دون ان تغادر المرأة سانت بول، ولم يكن واضحا ما اذا كانت قد استقبلت اي زائر قادم من الشرق، او والديها حتى. في حال سألها احدهم على نحو مباشر أين والداها، اجابت انهما قاما بأمور جمة لمصلحة أشخاص كثر، وان والدها مارس المحاماة في وايت بلاينز، اما والدتها فاشتغلت في السياسة، اجل كانت عضوا في احد المجالس النسائية في ولاية نيويورك. أومأت برأسها لتقول “اجل هذا ما يفعلانه”، وكأنه تم استنفاد الموضوع.
كان من الصعب ان نحاول اقناع باتي بأن أحدهم تصرف على نحو سيئ. عندما قيل لها مثلا ان سيث وميري باولسن اقاما حفلا تنكريا كبيرا لمناسبة “هالويين” كرمى توأمهما، دعوَا اليه جميع اولاد الحي في استثناء كوني موناغهان، اكتفت باتي بالقول ان “الامر لغريب فعلا”. عندما التقت آل باولسن في الشارع، شرحا لها السبب وانهما حاولا على مر موسم الصيف ان يجعلا والدة كوني موناغهان واسمها كارول، تكفّ عن رمي اعقاب السجائر من نافذة غرفة النوم في حوض سباحة التوأم. لم يكن من باتي سوى ان توافقهما الرأي قائلة “انه امر غريب فعلا”، فيما هزّت رأسها لتضيف “غير ان الخطأ لا يقع على كوني”. بيد ان الثنائي باولسن رفضا الاكتفاء بكلمة “غريب”. رغبا في ان تستخدم باتي عبارة “مضطربة عقليا” وان تلجأ الى اخرى اضافية من مثل “عدائيّة سلبية” او ربما “سيئة” حتى. ارادا ان تساعدهما باتي على انتقاء احد تلك النعوت وان تلتحق بهما ليستخدماها في الحديث عن كارول موناغهان، غير ان باتي أظهرت عجزا عن تخطي تعبير “غريب”، في حين رفض الثنائي باولسن في المقابل اضافة كوني الى لائحة مدعويهما. غضبت باتي كثيرا بسبب هذا الإجحاف فاصطحبت أولادها اضافة الى الفتاة كوني واحدى صديقات المدرسة الى مزرعة يقطين كما الى نزهة في ظهيرة اقامة الحفلة، فيما اعتبرت متكلمة بصوت عال ان لؤم آل باولسن ازاء فتاة في السابعة كان امرا “غريبا جدا”.
كانت كارول موناغهان الام الوحيدة في شارع باريير من مجايلات باتي. قدمت الى رامسي هيل في اطار ما يشبه برنامجاً للتبادل، وشغلت في الماضي منصب امينة سر احدى الشخصيات البارزة في هينيبين كاونتي، قام بإبعادها عن المقاطعة بعدما صارت حاملاً منه. في حال كانت والدة طفلِك غير الشرعي من بين الموظفات في مكتبك، لم يكن إبقاؤها بقربك في تلك الاثناء وفي مدن كثيرة، يعدّ خطوة ادارية جيدة. باتت كارول بنتيجة ذلك موظفة في مكتب منح الاجازات في المقر البلدي، في حين تم توظيف بديل منها في المنصب نفسه في الجهة المقابلة للنهر، وكان شخصا تربطه علاقات مميزة بشبكة معارف واسعة في سانت بول.
ادرج على ما يبدو بدل ايجار المنزل القائم في باريير ستريت في محاذاة بيت آل بيرغلاند، ضمن البدلات بحسب عقد العمل، وهذا ما يبرر موافقة كارول على الإقامة في مكان يعتبر حيّا فقيرا مكتظا بالسكان. مرة في الأسبوع خلال موسم الصيف عند غروب الشمس، قدم شاب يرتدي زيّ عمال دائرة باركس على متن سيارته الرباعيّة الدفع ليجزّ العشب في فناء منزلها، فيما جرف الفتى عينه الثلج عند الرصيف قبالة المنزل في فصل الشتاء.
ترجمة وتقديم رلى راشد
( عن الانكليزية)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى