حق الاكراد في تقرير المصير ليس أمّ المخاطر
صبحي حديدي’
الكثير من الأسئلة المشروعة، التي تستبطن سلسلة مخاوف يسهل تفهّم منابعها؛ إلى جانب الكثير من التهويل، الذي ينطوي على سجال مغلوط غالباً، وتباكٍ زائف على وحدة التراب الوطني؛ أثارتها تصريحات مسعود البرزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، أثناء افتتاح مؤتمر ‘الحزب الديمقراطي الكردستاني’، بخصوص حقّ أكراد العراق في تقرير المصير. ورغم أنّ الرجل أعاد التشديد على ما كان قد نطق به، هو وسواه من قادة الكرد، مراراً وتكراراً خلال سنوات وعقود؛ فإنّ التصريحات تلك بدت وكأنها جديدة مستجدة، وتطوراً نوعياً في مواقف الفصائل الكردية بصدد وحدة العراق، والمشاريع الفدرالية، ومسألة الإنفصال تحديداً.
ثمة، مع ذلك، اعتبارات راهنة تبرّر هذه الحال الشعورية، بينها أجواء الاحتقان التي اكتنفت وتكتنف تشكيل الحكومة الجديدة بعد تسعة أشهر من مخاض أليم شبه عقيم، وآفاق اشتغال أو تعطّل أوالياتها التحالفية، والمنظورات ـ المجهولة الغامضة، بقدر ما هي معلنة مكشوفة ـ لأجندات إعادة انتشار قوّات الاحتلال الأمريكية. ليس مستبعداً، فضلاً عن هذا، أن يكون ‘مناخ’ الانفصال، الذي يخلقه الاستفتاء القادم حول تقرير مصير جنوب السودان، قد حرّك الهواجس في النفوس، إذْ لم نعدم من يحدّثنا عن قرب ‘ضياع’ السودان بعد العراق، وعن اتفاقيات سايكس ـ بيكو التي آتت أنضج أكلها هذه الأيام تحديداً، بعد 94 سنة على إبرامها!
والحال أنّ إقليم كردستان يعيش للتوّ، ومنذ سنوات، صيغة متقدمة تماماً من الاستقلال الذاتي، إذا وضع المرء جانباً ما يتمتع به الكرد من امتيازات سياسية وحكومية على الصعيد المركزي (رئاسة الجمهورية، وزارة الخارجية، نيابة البرلمان، رئاسة أركان الجيش…). وأغلب الظنّ، استطراداً، أنّ البرزاني أراد استباق ترتيبات المستقبل، فسعى إلى تثبيت مبدأ ناظم وحقّ مشروع، حين تأتي ساعة المحاصصة في المزيد من النواظم العليا والحقوق الدائمة. والأرجح أنه يدرك، مثل السواد الأعظم من الساسة الكرد العراقيين، أنّ إقامة دولة كردية مستقلة ليس في صالح الأكراد على المدى الراهن، أو القريب المنظور، بالرغم من أنّ هذا المطلب يظلّ مشروعاً تماماً بالمعنى التاريخي، بادىء ذي بدء، وبالمعاني الثقافية والاجتماعية والديمغرافية والجغرافية بعدئذ.
بيد أنّ إشكالية المسألة الكردية، في المنطقة عموماً، وفي شمال العراق بصفة خاصة، لا تنبثق من رغبة الأكراد في ممارسة حقّ تقرير المصير، ولا تتمحور حول طموحهم في مزيد من الاستقلال الذاتي، أو حتى التطلّع إلى إقامة دولة مستقلة، بل تشكل واحداً من الملفات الأساسية لمعضلات الاحتلال الأمريكي للعراق، وللمأزق الشامل الذي بلغه، وفيه يَغرق ويُغرق العراق بأسره. ولقد برهنت سنوات الاحتلال، مثلما يبرهن الحاضر كلّ يوم، أنّ المسألة الكردية في طليعة المعضلات الأكثر تعقيداً وديمومة، وذلك لأسباب جيو ـ سياسية متعددة.
أوّل الأسباب أنّ الكرد ليسوا مستعدين للتنازل عن المكاسب التي أنجزوها في ‘كردستان المصغّرة’ هذه، والأرجح أنهم سوف يقاتلون بشراسة ليس دفاعاً عنها فحسب، بل لحيازة المزيد. ولعلّهم، هذه المرّة، لن يقبلوا خيانات أخرى معاصرة، بعد الخيانة الأولى الشهيرة التي وقعت في شباط (فبراير) 1991، حين دعاهم جورج بوش الأب إلى التمرّد على سلطة صدّام حسين، ثمّ تخلى عنهم. وقد يجوز لهم استعادة الحكمة الشهيرة: ‘إذا خدعتَني مرّة، فالعيب عليك. أمّا إذا خدعتني مرّتين، فالعيب عليّ’. وفي الواقع يدرك الأكراد أنّ تاريخهم الحديث هو سلسلة من خيانات الغرب لمطامحهم المشروعة في تقرير المصير وتأسيس دولتهم القومية.
ففي عام 1918 نصّت مبادىء الرئيس الأمريكي وودرو ولسون على حقّ تقرير المصير لكلّ الأقليات غير التركية في ظلّ الدولة العثمانية، وفي عام 1920 نصّت اتفاقية سيفر على إقامة دولة كردية، لكن اتفاقية لوزان للعام 1923 ألغت بنود اتفاقية سيفر وتمّ توزيع المناطق التي يعيش فيها الأكراد على تركيا وإيران والعراق وسورية والإتحاد السوفييتي. وفي عام 1924 اعترفت بريطانيا بحقّ الأكراد في تأسيس دولة مستقلة، دون أن تتخذ أية خطوة عملية في هذا السبيل. وفي عام 1975، وبعد أن توصل العراق إلى تفاهم مع إيران بموجب اتفاقية الجزائر، تخلّت إيران والولايات المتحدة (بناء على نصيحة مباشرة من وزير الخارجية آنذاك، هنري كيسنجر) عن دعم الأكراد. وفي عام 1988 سكتت الولايات المتحدة وبريطانيا عن قصف بلدة حلبجة الكردية بالغازات السامة، بذريعة أنّ المصالح الحيوية الأمريكية تقتضي الحفاظ على استقرار النظام العراقي.
السبب الثاني الذي يجعل الأكراد معضلة حقيقية في التخطيط العسكري الأمريكي هو حقيقة أنّ أحلام الأكراد في حقّ تقرير المصير وإنشاء دولة مستقلّة هي بمثابة كوابيس كارثية بالنسبة إلى تركيا، الدولة الحليفة للولايات المتحدة، والجارة الأطلسية المعنية تماماً بما يجري في شمال العراق على وجه التحديد. لكنّ واشنطن لا تستطيع في واقع الأمر تغيير الكثير من معطيات هذا الملفّ، لأنّ الأتراك لن يتخلوا عن الحقّ في توغّل قوّاتهم داخل العمق العراقي ـ الكردي (بذرائع عديدة، على رأسها محاربة ‘حزب العمال الكردستاني’، والحيلولة دون تدفق أمواج الهجرة إلى الأراضي التركية)؛ في حين أنّ الميليشيات المقاتلة الكردية سوف ترفض هذا التوغل التركي، وستعتبره احتلالاً عسكرياً مباشراً، وسوف تقاتل بشراسة لصدّه وإيقافه. وأياً كان موقف حكومة إقليم كردستان من هذا الاستحقاق التركي المفتوح، الذي لا تملك واشنطن سلطة إدارته أو نزع فتيل اشتعاله، فإنه سوف يسفر عن خلق جبهة قتال داخلية وخارجية على حدّ سواء، بين الأكراد والقوات التركية من جهة؛ وبين الميليشيات والسلطة المركزية من جهة ثانية.
السبب الثالث تختصره كلمة واحدة: كركوك. فهذه المدينة تعتبر ‘أورشليم الأكراد’، لأنهم استوطنوها منذ آلاف السنين، ولأنّها احتوت على الكثير من فصول تاريخهم القديم والوسيط والحديث، ولأنها العاصمة الحتمية لأية دولة كردية مستقلة قادمة. والحقّ أنّ الأكراد لا يطمعون في احتلال كركوك، الواقعة اليوم تحت السيطرة المركزية العراقية، لأسباب تاريخية ـ ثقافية فحسب، بل لأسباب اقتصادية أيضاً، وأساساً ربما. ذلك لأنّ منطقة كركرك هي أقدم وأغزر مواقع استخراج النفط العراقي، ويعلم الجميع اليوم أنّ احتياطيها يبلغ 10 مليارات برميل على الأقل. وليس مستبعداً، بالتالي، أن ينخرط الأكراد أنفسهم في اقتتال داخلي من أجل السيطرة على المدينة وثرواتها النفطية الهائلة، إذْ من المعروف أنّ الوئام الحالي بين الحزبين الرئيسيين، ‘الحزب الديمقراطي الكردستاني’ و’الإتحاد الوطني الكردستاني’، يخفي خلافات حادّة وجوهرية دفعتهما في الماضي إلى مواجهات مسلحة دامية أسفرت عن الكثير من الخسائر البشرية والخراب المادي.
غير أنّ ملفّ كركوك لا ينتهي هنا في الواقع، لأنّ تركيا لا تقلّ عن الأكراد طمعاً في ثروات المنطقة، وهي تعتبرها أبرز الخطوط الحمر التي لا تسمح للأكراد بتجاوزها. والأتراك لهم ذرائعهم التاريخية والثقافية التي تجعلهم يبررون أطماعهم في المنطقة، لأنّ كركوك تضمّ أكثر من 350 ألف تركماني، وأنقرة تتحدّث عن مليون، يعودون في أصولهم إلى الأرومة التركية ذاتها، بل ويعتبرون كركوك عاصمتهم التاريخية أيضاً! وفي كلّ حال، إذا كانت تركيا لا توافق أبداً على مبدأ قيام دولة كردية مستقلة في شمال العراق، فإنها بالتأكيد لن تسمح للكيان الكردي الحالي بحيازة أرض تحتوي على ثروات خرافية، تجعل من الأكراد قوّة اقتصادية عظمى على صعيد إقليمي.
وفي ما يخصّ المسألة الكردية وسواها، لا تبدأ أوحال مستنقع احتلال العراق من حيث يبدأ الشطر العسكري في برنامج الغزو الأمريكي، أو من اكتمال الحجة الأمريكية في تغليب الحرب على الدبلوماسية، بل من حيث تنتهي أعمال هذَين الشطرين تحديداً، حين يتوجب على الغازي مواجهة الحقائق الأخرى الصعبة، والعسيرة، والأشدّ إثقالاً للكاهل من حقائق القتال؛ وحين تصبح معالجتها واحدة تلو الأخرى برنامجاً يومياً للغرق في رمال متحركة، بعد الوحول! ونعرف ـ من تجارب الحروب كافّة، وحروب الولايات المتحدة خصوصاً وتحديداً ـ أنّ كسب الحرب لا يعني البتة كسب السلام: السلام بمعناه الأعرض المركّب، الذي يتجاوز وقف إطلاق النار وانتهاء الأعمال العسكرية، والذي لا يعني ما هو أقلّ من استثمار نتائج الحرب لصالح القوّة الظافرة، في المستويات الجيو ـ سياسية والإقتصادية في البدء، ثمّ في المستويات الأخرى التالية، المباشرة وغير المباشرة.
و’السلام’ العراقي، الذي تسعى إليه الولايات المتحدة، متعدد الأوجه نظرياً، ولكنّه عملياً يخصّ الملفات الثلاثة التالية: النفط العراقي، الإستيطان العسكري، التحويلات السياسة التي اصطُلح على تسميتها بـ ‘تغيير النظام’. ففي مسعى السيطرة على النفط العراقي، الإحتياطيّ الأوّل في العالم كما تقول أحدث التقديرات، لا تكتفي واشنطن بهدف واحد يتمثل في تأمين حاجاتها إلى الطاقة فحسب، بل تريد إكمال طوق السيطرة غير المباشرة على نفط السعودية والكويت، والإمساك تالياً بورقة ضغط اقتصادية ـ سياسية كونية حاسمة يطلق عليها جوستن بودر تسمية ‘الفيتو النفطي’. وفي الترجمة العملية لأبجدية هذه السيطرة، يصبح في وسع الولايات المتحدة أن تضغط على اقتصاديات دول منافسة (مثل أوروبا واليابان)، أو مرشحة للمنافسة مستقبلاً (مثل الصين وروسيا والهند). وفي ملفّ الاستيطان العسكري، تدرك الولايات المتحدة أنها بحاجة إلى التواجد العسكري، الدائم والكثيف والمستقرّ، في منطقة الشرق الأوسط؛ لكنها تدرك، من جانب آخر، أنّ استمرار تواجدها الكثيف في السعودية والكويت تحوّل إلى عبء سياسي على آل سعود وآل الصباح، وبات بمثابة حاضنة خصبة لتفريخ مشاعر العداء للولايات المتحدة، واستيلاد المزيد من نماذج أسامة بن لادن، وتعريض أمن النظامين الحاكمين لمخاطر مباشرة. وهكذا فإنّ قرار غزو العراق واحتلاله يعني، أيضاً، الاستيطان فيه عسكرياً إلى أمد طويل وربما أبدي (في حسابات واشنطن على الأقلّ)، وتخفيف العبء عن دول الخليج، وحراسة الدولة العبرية عن بُعد، وإحكام القبضة على المنطقة بأسرها عملياً.
ويبقى الملفّ السياسي، وفي بعض حيثياته العجيبة المتناقضة ما حلم به رجالات الرئيس السابق جورج بوش الابن (من أصحاب ‘مشروع قرن أمريكي جديد’، وأمثال بول ولفوفيتز وريشارد بيرل خصوصاً) حول تحويل العراق إلى دولة ـ أمثولة ، حاملة للقِيَم الأمريكية (في طبعتها الرجعية أو النيو ـ محافظة)، وناقلة لـ ‘فيروس الديمقراطية’ إلى أربع رياح الشرق الأوسط. ولقد تكفلت سنوات الاحتلال بدفع هذه الاستيهامات إلى مزبلة التاريخ، ليس لأنّ أصحابه فقدوا الإيمان به (عن حسن نيّة، أو سوء طوية)، بل لأنّ الأولوية القصوى في أشغال إدارة أوباما صارت إنقاذ ماء الوجه، والتنقيب عمّا حذّر من غيابه وزير الخارجية الأسبق كولن باول: ستراتيجية المخرج، أو… منفذ النجاة!
هنا أمّ المخاطر على العراق، وليس في تأكيد مسعود البرزاني على البديهي المشروع؛ وهنا، في غمرة تخبّط ساسة العراق بين الولاءات المذهبية والمكاسب الصغيرة واسترضاء الاحتلال، ينبغي ترقّب المخاوف الأدهى.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –