كاثــي كولفتــس: وجوه الأمومة في وجه الطغيان والموت
فواز طرابلسي
هذه المحفورة تختزن سيرة كاثي كلوفتس وفنها. يد تُحجب احدى العينين فيما العين الثانية مغمضة في انقباضة وجع أو لحبس دمعة. والفم مكموم خشية ان تتفلّت منه آه لا تنتهي. والآه مكتومة عن قصد حتى لا يتبدد الحزن أو تهون اللوعة.
كولفتس هي الأم الثكلى التي تكظم حزنها والألم. فقدت ابنها في الأسابيع الأولى من الحرب العالمية الأولى. فكانت مأساتها مأساتين. هي المعارضة للحرب عن مبدأ، تتمزّق بين رفضها الحرب وبين فجيعتها بموت ابنها فيها. لم تحاول منعه من التطوّع. احترم الأب والأم شعور الفتى الوطني ورغبته في الدفاع عن بلده. كان عليهما ان يوقعا موافقين على تطوعه، لأنه تحت السن. وقّعا. وإذ قضى الابن في الحرب، وهو لم يبلغ العشرين من العمر، ازداد غضب الأم على الحروب غضبا. «في حياتنا جرح لا يندمل» قالت.
لن يندمل ذلك الجرح مدى حياة كاثي كولفتس. لكنها فتحت جرحها الشخصي على جراح الآخرين. نحتت لابنها نصباً بسيطاً ومؤثراً: أب وأم راكعان عند قبر ولدهما. الأب مكتف اليدين كأنما ليعصر الألم. والأم تمد يداً نحو قبر غير مرئي. لتودع الغائب أو لتستحضره؟ هو مشهد تألفه أي عائلة فقدت عزيزاً مع انه لم يكن قد وجد طريقه بعد إلى النحت.
عن الحرب، صوّرت كولفتس الشبان المتطوعين للقتال اشبه بمن استولت عليهم الجذبة، هائمين على وجوههم لا يدرون كيف يتديرون. كأنهم لا يدركون انهم مساقون إلى الذبح. تلتبس الصورة أحياناً. في شحطات فحم قاسية، أمهات في حالة متأرججة بين تسليم أبنائهن للحرب وبين ثنيهن عن الذهاب إليها. وأحياناً تتضح الصورة: الأمهات يحمين أبناءهن من مفارز التجنيد. ذيلت كولفتس اللوحة بعبارة لغُوته كبير شعراء المانيا: «البذور المعدّة للزرع إياكم ان تطحنوها!». هنا زوجات ينتظرن الأزواج على رجاء العودة من الحرب. وهناك أرامل فقدن الأمل بعودة الأزواج يتشبثن بأيتامهن تعويضاً عما فقدن.
كاثي كولفتس فنانة درامية. تعبّر عن المشاعر الإنسانية من خلال تعابير الوجه وحركات الجسد. وللمزيد من الدرامية، تنتقل الفنانة إلى الحفر والنحت. تنحت «بييتا» مضادة. لا قداسة للأم هنا. ولا ألوهة للابن. تحضن الأم ابنها حضنا، تحميه، تتشبث به. في منحوتة أخرى، تقعي الأم، مثلما تقعي الأمهات حين يغسلن الثياب، أو حين يلدن، وتهصر ولديها إلى حضنها. تصير كرة من لحم وعظم وإحساس، تلفّ وتدفئ وتحمي. بل أكثر: كأنها في احتضانها ذاك تعكس فعل الولادة ساعية إلى استعادة الولدين إلى الرحم الأمومي.
[ [ [
ولدت كاثي شميدت في 8 تموز 1867 في كونسبرغ في بروسيا الشرقية (الآن كالننغراد في روسيا). أبوها كارل شميدت الاشتراكي الديموقراطي الراديكالي الذي درس القانون إلا انه آثر العمل كمعماري على مهنة المحاماة. وأمها ابنة قسيس لوثري طرد من الكنيسة الرسمية لآرائه الجذرية هو أيضاً فأسس كنيسة حرة ترفض سلطة دين الدولة اللوثري وتشدد على العقلانية والأخلاقية. تأثرت كاثي بالأب والجد، فجمعت مادية الوالد الاجتماعية بالمثالية الأخلاقية للجد.
اكتشف الوالد موهبة ابنته المبكرة في الرسم فشجعها على دراسته منذ الثانية عشرة. في السادسة عشرة كانت كاثي ترسم العمال والحرفيين الذين يزورون البيت الأبوي. ولما لم يعد من مدارس لتعليم الرسم للبنات في منطقتها، غادرت إلى برلين برفقة شقيقها. ومن برلين غادرت إلى ميونيخ لمواصلة دراستها لسنتين عادت بعدها إلى بلدتها وقد قررت التخلي عن التصوير الزيتي لصالح الرسم والحفر. تأثرت الفنانة الشابة بفنانين مغامرين في زمن شاع فيه استخدام تقنيات جديدة، طليعية وتجريبية، في الطبع بواسطة محفورات الحجر والخشب والمعادن. مالت كولفتس نحو تلك التقنيات من الناحية الجمالية لكنها اعتمدتها أيضاً لما تحمله من توجه جديد يضع الفن في متناول الشعب. هذا هو زمن فن الملصق والرسمة المطبوعة على عدة نسخ، تكسر وحدانية اللوحة الزيتية التقليدية. لم تكتف كولفتس بتلك التقنيات الجديدة، غادرت إلى باريس لدراسة النحت.
عام 1891 تزوجت كاثي بصديق لأخيها هو الطبيب كارل كولفتس. سكن العريسان حياً عمالياً من أحياء برلين حيث مارس كارل الطب الاجتماعي في مستوصف مجاني. شحذ الفقر وظروف عمل شغيلة برلين القاسية الوعي الاجتماعي للزوجة الشابة وسوف يطبع فكرها وفنها والسلوك. انكبت على رسم وتصوير شخصيات ومشاهد من الحياة العمالية. لم يكن في الأمر شغف وتعاطف وحسب. وجدت الفنانة في الحياة العمالية قبل أي شيء آخر جمالية لم تجدها في حياة الطبقات الأخرى، على ما قالت. رسمت بؤس الحياة العمالية لكنها صورت أيضاً ما فيها من كبرياء وتضامن ونكبات وشجاعة وهزائم وأمل.
باكورة انتاجها الفني مجموعة من الرسوم والمحفورات خلال الأعوام 1892 و1896 عن انتفاضة شهيرة لعمال النسيج الالمان في منطقة سيليسيا عام 1844. هي ستة أعمال عرضت بعنوان «الحائكون» في «معرض برلين الكبير» عام 1898. اختارت لجنة التحكيم أعمال كولفتس لنيل جائزة المعرض. تدخل القيصر ولهلم الثاني شخصياً ومنع منحها الميدالية الذهبية.
في خريف 1893 أنتجت كولفتس سلسلة جديدة من الأعمال بعنوان «الحرب الفلاحية» مستوحاة من ثورة فلاحية شهيرة اندلعت في جنوب المانيا في القرن السادس عشر، مطلع الثورة البروتستانتية. حينها حمل الفلاحون السلاح ضد الإقطاعيين والكنيسة، بقيادة الداعية طوماس منذر، وسيطروا على عدد من البلدات والمدن حيث انضمت إليهم طوائف الحرفيين. وما لبثت الانتفاضة ان سحقت بالحديد والدم والنار على ايدي جيوش الأمراء الإقطاعيين. إلا انها أدت إلى انشقاق في الحركة اللوثرية بعدما رفض مارتن لوثر تأييد الفلاحين وانحاز إلى الأمراء.
لم تستوحِ كولفتس البيئة العمالية والتراث النضالي الشعبي الالماني وحسب. عاصرت أيضاً الانتفاضات العمالية التي عصفت بأوروبا خلال السنوات 1917 ـ 1922. عايشت انتفاضة «عصبة سبارتاكوس» الشيوعية بقيادة كارل ليبنخت (وقد كان صديق العائلة) وروزا لوكسمبرغ عام 1918. أغرق الجيش الانتفاضة بالدم وتولى ضباط ملكيون اغتيال قائديها في برلين. أوحت الانتفاضة لكولفتس بسلسلة محفورات ورسوم تمثل جنازة تشييع ليبنخت: القائد الشهيد مسجى على محمل والعمال المحزونون الغاضبون يتوافدون لإلقاء النظرة الأخيرة عليه.
عام 1920 كرمت «جمهورية ڤايمار» كاثي كولفتس بتعيينها عضواً في أكاديمية الفنون الجميلة برتبة بروفسور ما أتاح لها التفرّغ للفن والحصول على دخل منتظم والعمل في استوديو وسيع ومجهز.
كولفتس فنانة ملتزمة بالاشتراكية، نسوية وداعية سلام. كانت على إلفة بالأدبيات الاشتراكية والنسوية منذ الشباب. تأثرت بنوع خاص بكتاب «المرأة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً» للمفكر الماركسي الالماني أوغست بيبل. لم تنضم إلى أي حزب. كان لسان حالها: «لست أعرف التحزّب. أعرف الأخوة فقط». وباسم تلك الأخوة، زارت الاتحاد السوفياتي بمناسبة الذكرى العاشرة للثورة البلشفية. وفي عام 1933، رسمت لوحة بعنوان «التضامن» تلبية لطلب فناني روسيا وخطّت عليها «اننا نحمي الاتحاد السوفياتي».
في العام 1933 ذاته، طردها النازيون من أكاديمية الفنون. وفي العام 1937 منعوها من عرض إنتاجها الفني وأخرجوا أعمالها من المتاحف وحرموا تداولها. زارها ضباط من الغستابو وهددوها وزوجها بمعسكرات الاعتقال. رفضت كاثي كولفتس مغادرة المانيا في أحلك أيام النازية خلافاً لعدد كبير من مثقفي المانيا، مع انها تلقت دعوات سخية للجوء إلى الولايات المتحدة. تعاقدت مع زوجها على الانتحار معاً ولا الاستسلام للاعتقال.
تهيمن صورة الموت الشبحية على نتاج كولفتس في سنواتها الأخيرة. رسمت أعمالها بالفحم وحفرت أخرى على الحجارة والخشب والمعدن. جسدت الموت تجسيداً. «امرأة تستقبل الموت»، «فتاة في حضن الموت»، «الموت يحصد مجموعة أطفال»، «الموت يتعارك مع امرأة»، «الموت على الطريق العام»، «الموت في الماء»، «نداء الموت»، «الموت صديقاً». صوّرت الموت ينتشل أماً من وليدها. وصورت ولداً يسرقه الموت من بين ذراعي أم. «الموت صديقاً»؟ نعم. في النهاية تبدو كأنها تصالحت مع الموت. هل استسلمت له أم هي روّضته ترويضاً؟
مهما يكن، سلبها الموت زوجها عام 1940 فواصلت حربها ضد الحرب العالمية الثانية بمفردها عن طريق ملصقات انتشرت في أرجاء أوروبا كلها. لم توفرها الحرب تلك المرة أيضاً. حرمتها أحد أحفادها. ودمّر القصف الجوي بيتها في برلين عام 1943 فخسرت عدداً من الأعمال الفنية والوثائق. غادرت إلى مقربة من درسدن، المدينة التي سوف تباد عن بكرة أبيها بواسطة الطيران الحربي الأميركي والبريطاني حتى لا تقوم للصناعة الالمانية قائمة بعد الحرب.
لا مفرّ من الحرب. كتبت في إحدى رسائلها: «ترافقني الحرب إلى النهاية». صدق ظنها. لاحقتها الحرب حتى القبر. توفيت كاثي كولفتس في 22 نيسان 1945، قبل أسبوعين من نهاية الحرب العالمية الثانية.
تركت كاثي كولفتس ما مجموعه 275 عملاً من رسوم وصور ومحفورات الخشب والحجر والمعدن. بين هذه الأعمال لا أقل من خمسين صورة شخصية لها. كتب عنها غيرهارت هوبتمان «خطوطها الصامتة تخترق النخاع العظمي مثل صرخة ألم». الألم هو موضوعها. والألم هو ذاتها. حتى ان كبير نحاتي المانيا بارلاخ استوحى وجه كاثي كولفتس الكاظم صرخة الألم لنحت وجه الملاك في تمثاله المعلق الشهير «الملاك السابح في الفضاء».
وكولفتس من الفنانين اليساريين الذين لم تحجم المانيا الموحدة عن تكريمهم. في برلين (الغربية سابقاً) متحف متواضع يضم مجموعة معبرة من أعمالها من محفورات مختلفة ومنحوتات وتماثيل. وقد سميت على اسمها لا أقل من أربعين مدرسة وإن يكن معظمها في المانيا الشرقية. وفي العام 1993 افتتح رسمياً في برلين نصب «ضحايا الحرب والطغيان» المبني على الطراز الروماني الكلاسيكي. وسط قاعة جرداء كبيرة تمثال كاثي كولفتس «الأم وابنها القتيل» يسبح في ضوء ناعم ينـهال عليه من طاقة دائرية في السقف.
السفير