صفحات ثقافية

الشكل الروائي المفتوح، أم الفكر الروائيّ؟

null
خليل النعيمي
الشكل خدعة
الأدب ليس خدعة. أو هو، على الأقل، ليس خدعة شكلية. وحتى لو كان كذلك، فهذه الخدعة لن تمر، إذا لم تكن توحي بمنهج خدعتها، وطريقتها لتبليغنا ما تريد أن توصلَه إلينا. بمعنى آخر، إذا لم تُفْصِحْ عن تصوُّر خاص للعالم، وللكيفية الإنسانية التي تنتج الأدب، وضرورته. معنى ذلك، أننا سننتهي، أخيراً، إلى ‘الفكر’ الذي تحتويه هذه الخدعة، وتقوم عليه، والتي لم تعد خدعة تماماً.
الشكل الروائي الذي لا يحوي فكراً جديداً (هذا إذا وُجد)، مثل غطاء من حرير يُوضَع على هيكل ميت. لا يُحْيي الهيكل، ولا يَحْميه من التَفَتُّت، وإنْ زَيَّنَه إلى حين. والبحث عن ‘شكل’ مثل هذا سهل وجذاب. والوقوع فيه في متناول الجميع. لكنه، منذ أن يَتَغَلْغَل في بُنْية الكتابة الروائية، يجعلها خالية من الإحساس بالوجود، أو يُفَرِّغها من محتواها، حتى وإن أصَرَّ كاتبُه على تبنّيه والإعتزاز به. لأن ‘حسن النيّة’ لا قيمة له في الإبداع.
لغة الأشياء
لغة الأشياء هي التي تمنح الكلماتِ أبعادَها الميتولوجية. والأشياء ليستْ بلا معنى، ولا فكر لها، كما يمكن لنا أن نظنّ. فهي ليستْ شكلاً فقط. ويمكن لها أن تكون مصدرَ معرفة، وفنّا، أيضاً. والكاتب الذي يُنْهِك نفْسَه في البحث عن ‘أسطورة إسمها الشكل’، لن يغمط يغفل عن الكائنات حقها،ي فقط، وإنما يغفل عن الأشياء، قبل كل شيء. وهو، في هذه الحال، لن يساهم في عملية إبداع الحياة التي لا تقوم على الإستيهام، وإنما على المعرفة. على معرفة عميقة تتطلّب جهداً كبيراً، والتي سيكون لها، منذ أن يتمخّض النص عنها، دور أساسيّ في الوجود، كما في الكتابة.
الشكل لا ينتج فناً. وليس صحيحاً أنه يَخْـلُق فضاءه الخاص. بمعنى أنه يمكن أن يكون، هو، نفْسُه، معيارَ نفْسِه. لأنه بحاجة دائمة إلى ‘فكر’، أو ‘فكرة’، أو ‘جوهر’ يستند إليه، وعليه. ولكن لِمَ الخوف الذي يكاد أن يكون، اليوم، شعوراً معمماً، في الفضاء الثقافي العربي: الخوف من الإعتراف بأن الإبداع فكر، وموقف، أولا، وله، بعد ذلك، أن يرتدي الشكل الذي يلائمه. ونحن نعرف أن ‘الموقف الإبداعي’، مهما كان متطرفاً، ليس حركةً استفزازية عارضة. وإنما هو ‘شأن اجتماعيّ’، ولو تَحَمَّس له فرد واحد، فقط.
الحقيقة ليستْ شكلاً
نحن نكتب لنتغيّر. لنتغيّر جذرياً، لا شكلياً. ولنا أن تَبَنّي، أو نواجه، أي منظور، أو فكر، أو نزعة، أو ‘وضع’ مهما كلفنا الأمر. وليس علينا أن ننسحب من ‘المواجهة’ بحجة أن ‘موقفاً’مثل هذا ليس من شأن الأدب، أو لأسباب أخرى كثيرة.
نحن نعرف أن الأسبابَ، مهما كانت حصيفة، تبقى ذرائع لا أكثر ولا أقل. وهي لا تخدع أحداً، ولا تُقْنِع. وفوق ذلك، فإنها لن تغيِّر ‘طبيعةَ الشيء’ لأنها غيرُ فاعلة. وليس لها بُعْد فني مُحَرِّض، وإنما دور إجتماعيّ مستقِـرّ، وغيرُ مُجْدٍ. إنْ لمْ يكن خطيراً.
ونعرف أيضاً، أننا عندما ندير ظهورَنا لمعطيات وجودِنا الأساسية، لا يمكن للأدب الذي ننتجه إلا أن يكون ‘شكليا’. وهو سيكون فوق ذلك في خدمة الطغاة. ولا مبرر تاريخياً لأدب مثل هذا، مهما اتسم بالفنية، ووجد الكثيرَ من القراء.
الرواية فن الكذب
الرواية فن الكذب. والكذب ليس شكلاً، كما يمكن لنا أن نعتقد لأول وهلة، وإنما هو ‘فكر’. إنه خلق وتصوّر آخر للذات وللوجود، حتى ولو لم نُصدِّقْه. وهو في حالته الروائية، يكاد يكون أحياناً ثورياً، وحقيقياً، أكثر من ‘حقيقة المجتمع’ الذي نستجدي إعجابه، ولا نحظى به.
والمجتمعات المتزمتة، مثل مجتمعاتنا العربية، بحاجة إلى حقيقة أخرى مزعجة تناقض حقيقتها. وتلغيها إذا استطاعت. والروائي الذي هو ‘ضمير المجتمع’، جدير بذلك. لكنذلك’ ليس من مهمات الشكل الروائي، وإنما من مقتضيات الفكر، وتأثيراته. الفكر الذي يتَجَسَّد في النص الروائي، ويَتَحَوَّل إلى تصوُّر آخر للعالم وللحياة.
مواجهةُ الأخلاقِ العربية المستكينة بنقائضها، إذن، والقيمِ المتخلفة والرجعية بما تستحق من إنكار ورفض حتى ولو كانت فائقة َالثروة، والشكلِ الحكائي المبتذل بفلسفة جديدة منفتحة وجذرية، ومواجهةُ القمعِ المنتِج للإحباط العربي المعمم، الآن، ذلك هو المطلوب من الرواية العربية. وليس اللُّهاث خلف ‘أشكال حكائية’ لا دَوْر تاريخيّاً لها.
الرواية لا شكل لها.
وعظمتها، كلها، تنبع من الأفكار التي تحتويها، لا من الشكل الذي ترتديه. وفي النهاية نحن نخلق أشكالاً لأفكارنا وليس العكس. لكن الغرب الذي يعيش، اليوم، حالةَ جفافٍ تام، تقريباً، من الأفكار الإنسانية الكبرى، لأسباب كثيرة، كُتّابُه هم الذين بدؤوا يلجؤون إلى ‘حياتهم الفقيرة’ بالمشاعر والأحاسيس والمعاناة ليجعلوها موضوعاً لكتاباتهم اليابسة. وهم الذين ابتدعوا ‘لعبة الشكل’، هذه، وما تَلاها.
والمؤسف أن العرب الذين يعانون، حتى الآن، أقسى المآسي الإنسانية، فهم الشعب الوحيد على سطح الكوكب الأرضي الذي لا زال مستعْمَراً في جزء منه، وبطريقة ‘استعمارات’ القرن السادس عشر الهمجية بكل حماقتها وعنفها واختزالها للإنسان، مع أن هذا النوع من الاستعمار قد اختفى من على سطح الكرة الأرضية منذ عقود وعقود، أقول، من المؤسف أن العرب نتيجة لاستلابهم العميق بالفكر الأوروبي الذي أصبح بائساً وارتدادياً، انحازوا بشكل آليّ، أو غير مبدع، إلى فعل ما يفعله ‘الآخرون’ ممّنْ لا زالوا يعتقدون، خطأ، بتفوقهم وإبداعهم .
القطيعة
الروائي عندما يكتب، يسأل. وهو عندما يسأل يكون قد درس، وتعمّق، وقَبِل ، ورفَض، ما لا يتوافق مع مزاجه وآرائه الشخصية. وسؤالُه، في هذه الحال، ليس ‘سؤالَ الحَيْرة’، وإنما هو ‘سؤالُ الإدراك’. إنه ‘سؤال الفكر’ الجديد الذي يخلقه النص، أثناء خلقنا له. فالكاتب ‘عَبْر إنشاء النص الروائي’ يكتشف الخَلَل المرعب في حياته، وفي مجتمعه، ويعي عيوبهما، أو هذا هو المأمول من الكتابة. ومنذ أن يعي ذلك، تصبح القطيعة مع ‘الحياة القديمة’ لا مفر منها. قطيعة مع نسقها المعرفي الذي سيبدو له، عندئذ، متخلفاً وقميئاً. ولا يعود يجدر بالروائي تبنّيه، ولا بقرائه، أيضاً.
العمل الروائي معرفة وحرية
العمل الروائي، من هذا المنظور، لا يتعلّق بالشكل، إذن، وإنما بالفكر الذي يتضمّنه، أو يُحيل إليه. والفكر الذي نعنيه ليس استجلاباً للمفاهيم المألوفة أو’الملْقاة على قارعة الطريق’، لأن هذه ليست فكراً، أو هي لم تعد كذلك، حتى ولو قالها ‘الجرجاني’. إنها ‘اجترار للعلف’، لعَلَفنا الذي ‘كان فكراً’، ذات يوم، وسئمناه.
الفكر الروائي، كما نراه، ديناميكي، مناهض للمسلمات، ولعقلها الجامد. متحرك كالحياة اليومية. وهو عكس الفكر الجامعي، أو المنهجي، أو الديني، لا قيود عليه، ويستلهم شغفَ الكاتب، ويطابق أهواءه، حتى ولو كانت لا تسُرُّ السامعين، أو القارئين. ومن الأفضل أن تكون كذلك.
القارعة
نحن لا نتحدث، هنا، عن ‘كتابة ملتزِمة’، وإن كان ذلك متضمَّناً بشكل طبيعي في الكلام. لأن تَسْليخَ اللغة غيرُ ممكن. وهنا تكمن عظمتها. إننا نتحدث عن ‘كتابة مفكِّرَة’، أو ‘مفَكَّر فيها’، مهما كانت أحكام القيمة التي ستعترض على هذا المفهوم جديرة ً بالإعتبار، وتستحقُّ الحوار.
والرواية، في النهاية، ليست هي حكايات أهلنا وجيراننا ولا حكاياتُنا نحن، وبالخصوص وفق التصوّر الأولي للحياة، ووعيه البسيط. أو ما يمكن أن نسميه: ‘وعي الدجاج’. إنها ‘القارعة’. أو هي’التصوّر النقدي’ للذات وللعالم منطلِقاً من ‘تاريخنا الشخصيّ’ الذي ابتدَعْناه، وحاملاً سِمات ‘وعينا الجديد’ الذي اكتسَبْناه بجهدنا الفكري الخلاق، يوماً بعد يوم، ونحن نكبر ونفترق ونسافر ونغامر ونعمل ونعاني، لا ذاك الذي تمَثَّـلْناه عن أهلنا، صغاراً، وعشناه في مرابعنا، وبين أصدقائنا، عندما كنا نلعب ببراءة مع الحياة. ولا هو’الآخر’ الذي تزَيِّن لنا ‘السلطات الثقافية’ العربية اتِّباعه، وتُغْرينا لنتَبَنّاه.
‘الرواية العربية الواحدة’
‘الرواية العربية الواحدة’ التي تسود فضاء الإبداع العربي، حالياً، هي خير دليل على الطريق المسدودة التي تنتهجها هذه الرواية التي صارت تركض وراء الشكل، دون أن تشغل نفسها، إلا نادراً، بتحدي ‘كاسِحات الإبداع’ العربي الحر، أو المفترض فيه أن يكون كذلك، مثل القمع والمنع والمحظورات اللامتناهية العدد والفكر الديني في شكله المتزمت وسيطرة السلطة العربية على الثقافة…و
غيرها من العوائق والمغريات (كالجوائز، والمحفِّزات ـ المُخَمِّدات، بالأحرى ـ المادية الأخرى، الإدارية، أو الوظيفية، أو الاستيعابية بأية طريقة تَمَّتْ).
ولا ننسى أن هذه (العوائق والمغريات) هي التي ستقود الرواية العربية إلى حتفها. أو، على الأقل، ستحاول أن تجعل مصيرها مثل مصير أخيها الأكبر، الشعر: الخروج من دائرة التاريخ، وتَتْفيه دورها الذي يمكن أن يكون فاعلاً جداً، إلاّ إذا عرفَت هذه الرواية كيف تُنَمّي أدواتها، وتُقاوم الإغراء.
الكتابة العرجاء
والآن، يخطر لي أن أسألكم باعتباركم تحبون الأسئلة، وتدعون إليها، يخطر لي أن أسألكم: بأي ‘عِتاد لُغَويّ’ تسأل ثقافتُنا، أو روايتُنا العربية، نفسها والعالم؟
أنتم لا تجهلون، أننا نعتمد في أدبنا على لغة تحاول أن تطير بجناح وحيد (وليس ذلك رمزاً وإنما حقيقة). هي لغة أدبية محض، أو ‘مؤدَّبة’. أقصد: ‘لغة ذات بعد واحد’ هو البُعْد الأدبي. وتلك كارثة إبداعية في حد ذاتها. أين لغة العلم، والطب، والفلك، والفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والجبر، والهندسة، والتشريح، والغرائز (الفسيولوجيا) وغيرها من ‘اللغات’؟
ولا تجهلون، أيضاً، أن الرواية العربية هي الوحيدة في العالم التي لا يُتْقِن كاتبوها، سوى في حالات نادرة جداً، إلا ‘جهة’ واحدة من لغتهم، هي جهة الأدب، أو الصحافة اليومية. وسبب ذلك، أن العلوم بكل أنواعها تُدَرَّس في الجامعات العربية بلغة أجنبية كالإنكليزية أو الفرنسية، والإستثناء العربي الوحيد هو سورية التي تم تعريب كل العلوم فيها، وفي جميع مراحل التعليم، من الثانوي إلى الجامعي. وهو كنز لغوي لا يقدر بثمن.
هكذا نرى أن الكتابة الروائية العربية، اليوم، تمشي على قَدَم واحدة، هي ‘القَدَم الأدبية’. إنها كتابة عرجاء. معزولة عن ‘الجهات اللغوية’ الأساسية الأُخرى. واليوم، صرنا نعرف أن اللغة لُغات عديدة. وأننا بحاجة إليها، كلها، لنحيا، ونبدع، ونعيش، وبالخصوص لنتطوّر.
السؤال الأخير
ويحضرني سؤال أخير، بعد أن قضيت عشرات السنين في باريس: كيف أن فرنسا التي بالكاد يتجاوز عدد سكانها ستين مليوناً تصرُّ، وتجتهد، وتصرف ملايين الدولارات، لتدريس كل العلوم بلغتها. وهي تركض وراء كل جديد لتنقله إلى اللغة الفرنسية التي يتكلم بها بين ستين إلى تسعين مليوناً في العالم، أو أكثر قليلاً. في حين أن العالم العربي الذي يتجاوز تعداده مئات الملايين، ويتكلم بلغته، خارج حدوده، ملايين كثيرة أخرى، ولغته لغة دين كونيّ، لا يدرّس في جامعاته، ومعاهده العليا، أي علم من العلوم الأساسية بلغته. مرة أخرى، باستثناء سورية . هذا الفصل بين الحياة واللغة، وبين العلم والأدب، في العالم العربي، هو الذي مهّد الطريق أمام ‘اللَّغْو’ لكي يسيطر على الحياة الثقافية العربية. وهو الذي هيّأ الفضاء العربي العام لتقَبُّل ‘ثقافة الصيغة’ الفارغة، هذه. وجعلها، وهي ‘ثقافة شكلية’ لا تتَّصف إلاّ بالسطحية والعَجالة والإبتذال، ثقافة سائدة.
وأخيراً، نحن ‘نأمل من الرواية، بما تحويه من فكر، أن تُفَجِّر ينابيع العقل المستنير في نفوسنا، لا أن تخضَّ مستنقع عواطفنا الشكلي الكريه الرائحة’.

(*) ــ نص المداخلة المقدمة لمؤتمر الرواية في القاهرة /كانون الاول/ ديسمبر 2010
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى