طوابير الندّابين، وثرثرة العيون
عندما ينزل صاحب قلم مرموق ترابه عن ظهره ويذهب إلى ديار ربّه ليرى على أيّ وجع سيبري قلمه، هناك تغصّ الجرائد بالكتابات عنه، وترغي المحابر وتزبد، وتتحوّل الصفحات الثقافيّة وغيرها منابر رثاء تشكو زحمة الندّابين. عظيم أن يواكَب الفقيد الغالي في رحيله بكلام موشوم بالصدق يثبت أنه عظيم، وأن الزمان يتقدّم بخلاء الجاحظ ولن يجود بمثله مع كلّ طلعة شمس. لكنّ ما يجري عندنا مهزلة، ولا أحد يستطيع فضح هذه المهزلة إلا الفقيد نفسه، وماذا نفعل إذا كان الذين يديرون ظهورهم لهذه الدنيا لا “يدنّون” أنفسهم ويعودون، ولو لنهار وليلة.
عند فقداننا عظيما، يتحوّل كلّ حملة الأقلام عندنا أصدقاء له. ويكتبون مخترعين زمانا ومكانا وأحداثا وشخصيّات… ومن يمكنه أن يقول لأحدهم: “أنت لم تزر بيروت إلا مرّة لتشتري بدلة عرسك، فمتى شربت القهوة مع نزار قبّاني في أحد مقاهيها؟ وفي أيّ صحيفة نشر رأيه في كتابك وقد أثبتّه على الغلاف بالخطّ العريض”؟! أو يقول لغيره: “متى سهرت ومحمود درويش في بعلبكّ وأنت لم تزر قلعتها إلا بالصور وبصوت فيروز”؟! أو يقول لثالث: “كيف توطّدت صداقتك مع جبران تويني وأنت منذ يومين فقط استطعت التمييز بين ديك جارتكم وديك “النهار”؟!…
لا شكّ أن معرفة العظماء والمميّزين الشخصيّة هي من أحداث الحياة الجميلة، غير أن العظماء، وتحديدا عظماء الكلمة وسائر الفنون، لا أسهل من بناء الصداقات معهم، وذلك من خلال إدمان بضاعتهم الفاخرة. بهذا المعنى كم هم أصدقاء المتنبّي كثيرون، وأنا واحد منهم، وإن لم نتلاقَ كلاّ على حصانه ونتبادل الدعوة إلى وليمة القصيدة.
ولافت جداً إشراك الرثّائين أنفسهم بالعظمة التي لا يتصف بها الفقيد وحيدا، ليبدوا وكأنّهم حرّاس هياكل الجمال بعده ونواطير قلاع السيادة والعزّ. هكذا يبشّر الرثّاء بنفسه عظيماً بديلاً ويمدّ السجّاد الأحمر لقامته الاستثنائيّة.
من المؤسف أن تشوّه حرمة الموت بسيول الحبر الكاذب على صفحات الجرائد، وكم هو رائع أن يسوّر الإنسان رحيل من يحبّ ويقدّر بكلام يسيل معه بعضٌ من القلب وبدمع يسيل معه بعض من العين. فقلّما نقرأ، عند رحيل عظيم، كلمات تصوغ الموت بألق يليق بقمر استقال من فضّته وهو لا يزال شهيّ الإستدارة والتربّع على عرش ألف ليل وليل.
يموت العظيم عندنا وننسى أنه يستحقّ كلاماً عظيما. والكلام العظيم في حضرة الموت هو المتوّج بالصدق أوّلا، وهو المغسول بعرق القلب والقلم، والآخذ وقته ليرتدي حصّته من الجمال، ويستحقّ أن يحتفظ به قارئ يعرف طعم فمه، لئلا يموت قبل أن تمضي أيّام العزاء.
ويجب ألا ننسى أننا موسميّون في الكتابة. والكتابة الموسميّة أظنّها الأردأ، لأن المناسبة “دايتُها” ومعظم كلام المناسبات يخضع لولادات قيصريّة. بينما الكتابة الأشهى هي التي يقطفها القلب من رحم الريشة معتمرةً النزق واللهب الأنيق. فلماذا نقف شحّاذين على باب اللغة في المناسبة والذكرى ولا نصطاد بكرامة معانينا ومفرداتنا ساعة نشتاق إلى عظيم، وساعة يعصف بنا وجهه الذي لا يعاد؟
لا أنفي أن لصدمة الموت ورهبة المناسبة قدرة حقيقيّة تحرّض خواطر الأقلام على البوح، غير أن طوابير الندّابين عند أبواب الجرائد تُفسد نبل الحزن، وتجعل اللغة كرماً على درب لأصحاب الأيدي القصيرة والأقلام القصيرة فيستسهلون ويقطفون من الغصون التي تلامس الأرض في شجرة اللغة في حين أنّ عظماءنا الذين نفقدهم يسقطون من أعلى شجرة الحياة، ولا يليق بهم إلا القطاف من الأعلى.
أيها المثرثرون حيث الصمت أبلغ الشعراء، إن مقالا عظيما واحدا يكفي لإنصاف عظيم رحل، وإن عيناً واحدة تبكي يطرب لها الحزن ويفرح أكثر من قبيلة عيون تتباكى.
فصمتاً وقليلاً من البكاء أيّها السادة، لأنّ بعض الدمع قصائد، وبعضه ثرثرة عيون.
قزحيا ساسين
النهار