القاهـرة في الليـل
بركات أفندي بركات
إعداد أثير محمد علي
يبتدئ حديثي معك عن القاهرة في الليل من منتصف الساعة السابعة مساءً إلى منتصف الساعة الرابعة صباحاُ. لأنك إذا كنت من ذوي الأعمال – مستخدماً أو مخدوماً – أو من ذوي اليسار – وارثاً أو من أرباب المعاشات – ففي مثل هذا الموعد تكون حياتك الليلية في القاهرة.
غير أني أستثني من القاعدة العامة أولئك الذين يقضي عليهم نظام القاهرة الليلي بأن يبدأوا عملهم ساعة تنهيه وينهونه ساعة تكرههم الطبيعة على الانتهاء وهؤلاء سيكون له طرف من الحديث لا تعجلني به وتعال نستعرض الموضوع من نواحيه الكاملة مع مراعاة اللازم من الترتيب والنظام.
قد تعجب مثلي وتستغرب إذا أكدت لك أني لا أجد للحياة الأدبية منتدى أحدثك عنه ضمن الكتلة التي يتناولها القلم وهذا نقص كبير جداً لا يمكنني تعيين المسؤول عنه بل أشرك الحكومة مع رجال الأدب والمال في هذا القصور.
وهل يمكنك أن تجد مكاناً أو جهة يختلف إليها الناشئ فيطالع الصحف اليومية أو الكتب الأدبية في الليل عند ترك العمل؟
لعل فكرك يتجه إلى المكتبة الملكية. ولكنك لو عرفت أنها بعيدة عن وسط المدينة وأن مواعيدها لا تتفق مع أوقات المجموع الحرة سلمت بنقدي هذا.
وإذا قلت لي أن الجامعة المصرية تخصص بعض الليالي لإلقاء المحاضرات سألتك أين مركز هذه الجامعة وكيف الوصول إليها، وهل المحاضرات تكفي وحدها لسد الفراغ؟!
حبذا لو أن القاهرة تمثلت ببيروت وأوجدت “غرف قراءة” تتناسب مع الجهات التي يقصدها الجمهور، إذن لبدأنا الحديث بالثناء عليها إذ تكون قد أمالت الكثيرين عن ارتياد المقاهي ودور الرقص والملاهي وغير ذلك من الأمكنة التي يدفن المرء فيها وقته وماله. وعلى كره مني أحدثك عن هذه الأماكن قبل غيرها.
لست أغالي إذ أكدت لك أن الواحد منا عندما يذهب إلى عمله في الصباح يتجه فكره إلى المكان الذي يحب ارتياده في الليل وأن اشتغاله وانهماكه بالعمل لا يلهيانه عن موعد الليل لأن تلك هي سنة الحياة في القاهرة.
فلكل كتلة من الصحب والأتراب “ركنة” في مقهى لا يكاد يأزف موعد ترك العمل حتى تراهم يسيرون تباعاً إليها. وإذا ما تخلف واحد عن موعده يتسائل الجميع عن سبب غيابه ولا يرتاح بالهم حتى يعرفوا مقره أو إذا اجتمعوا بالتخمين والتقدير على ذاك المقر.
فلنترك هذه الهيئات المتناسبة تتسامر وتدبر خطة قضاء السهرة وتعال نسر معاً في بعض “العطفات” والشوارع غير المطروقة كثيراً قي الليل فترى هنا شاباً يتبع فتاة ويحاول لفت نظرها والتعرف إليها تارة بابتسامة وطوراً بالقاء كلمة. حيناً بالسير إلى جانبها وآناً بسبقها والتلفت إليها مبللاً نفسه بحركة عطف منها… تسرع خطاها فيسرع خطاه وتبطئ السير فتتثاقل قدماه غير قانط ولا يائس حتى إذا ما وصلت منزلها أرسل إليها نظرة لو صدق علم “المغناطيس” كانت كافية لجذب هذه الصبية إليه صاغرة طائعة…
وهل تظنه يقفل عائداً بعد الخيبة؟؟ كلا! بل يظل واقفاً أمام المنزل ظناً منه أنها قد تطل عليه من شباك أو شرفة. وبعد وقت غير قليل تتحقق الخيبة فيعود بخفي حنين ويبحث في “منحنيات” أخرى عن ضالة ثانية.
ومن هؤلاء الشبان من يثابر على هذا العمل في كل ليلة فينتظر خروج احدى العاملات ويتابعها كظلها لا يوماً أو أسبوعاً بل شهوراً إلى أن يفوز بما بنشد أو تتحقق له الخيبة الكاملة فيتحول إلى فتاة أخرى ويلعب ذات الدور وبذات الهمة والنشاط. وإذا ما قدر له وفاز فاسمعه كيف يروي الخبر أمام أترابه وعيناه تبرقان من فرح الفوز والظفر. ولعمري لو أن هذا الفتى ثابر على عمل منتج أو شغل نافع مثابرته على اللحاق بالفتاة لكان أول الفالحين بل أكبر الناجحين…
ولكن لا تلمه وحده إذا ما حدثتك نفسك بلومه، فالفتاة وما تطوي نفسها أكبرمشجع على هذه الفصول التي قد تبدو معيبة، ولكن نزق الشباب يبررها فإذا بها تلوح كأنها من أسباب السعادة.
هل قصدت مرقصاً من المراقص؟… حدق بنظرات تلك الفتاة التي ترسلها إلى ذاك الفتى الجميل الطلعة. واقرأ ما بنفسها فتجد أن جماله وملبسه وحركاته اللطيفة، كل ذلك قد أثر بها فتنتظر الساعة التي يطلبها فيها للمخاصرة بلهفة.
ومتى اشتبكت الأيدي وتلامست الأجسام على أنغام الموسيقى فكثيراً ما تكون هي البادئة بفتح “المفاوضات” و”ابرام المعاهدات”.
كل ذلك يجري ووالدة الفتاة التي تنتظر انتهاء الرقص لتصحبها إلى البيت ترمق رجل ابنتها بشيء من الاعجاب والاعتزاز…
هذا ما يكون في اليومين الأولين وأما بعد ذلك فتستغني الصبية عن زمالة والدتها ويقوم “صاحبنا” بالمأمورية متطوعاً. فتتأخر عن موعد عودتها قليلاً في بادئ الأمر معللة ذلك بالخوف من أن يلفح الهواء جسمها الساخن من حركات الرقص إلى أن يمتد زمن التأخير من نصف ساعة إلى ساعة ثم ساعتين. وبعدها يكون معها مفتاح البيت فلا تزعج أحداً بفتح الباب…
خبر كهذا يتسرب من الشاب إلى خلانه فيحاول كل أن يفعل ذات الفعل ليكون له ما لصديقه. وإذا شئت التأكد من السبب فقل هي الفتاة…
إلى الآن لم أحدثك عن بعض المراقص التي تزورها العقيلات اللائي كان النظام المذهبي يحتم عليهن الحجاب الكامل.
ولعلك تعذرني إذا أمسكت القلم عن كتابة خط السير من الحلمية والمنيرة والزمالك وقسم من قصر الدوباره إلى شارع الشيخ حمزه وسليمان باشا والتوفيقية. ثم من هذه الجهة إلى الجزيرة والجيزة وطريق السويس. فقف بنا الآن عند هذا الحد ولنعد إلى الجماعات حيث تركناهم ملتأمي الشمل في المقاهي يتأهبون لتنفيذ ما قرروا بصدد قضاء الليل…
وقبل أن تتجه أنظارك إلى شارع عماد الدين حيث تكثر دور السينما والتمثيل تعال فسر قليلاً مع “إخوان السرور” الذين لا تطيب نفوسهم ولا تلذ لهم السهرة إلا إذا تسلحت رؤوسهم بسحر الكأس وزهو الصهباء.
وأما “البوظة” فكثير ما تكون بين شارع كلوت بك وجهة الجامع الأحمر وندماء هذا النوع الأخير هم من أصحاب “الكيف” الذي “يبسط” كثيراً بما تتحمله ميزانية الشارب التي قلما تزيد عن القروش العشرة ولا فرق عنده بعد ذلك أعاد إلى كوخه أم قضى الليل ضيفاً على البوليس أو في ركنه من عطفة مظلمة لا تطالها قدم الخفير.
قلت لك أن لكل من “إخوان السرور” ميلاً إلى نوع من الخمر. ولك أن تزيد أن لكل منهم نظرية خاصة في نوع “المزة”. فتجد لكل حانة قصادها ولكل خمارة روادها. وإذا ما جمعتك الصدف ببعض من هؤلاء الإخوان فاسمع كيف يفضل الواحد منهم حانة “يني” على خمارة “مانولي” وحسنات “خريستو” ولطف “كوستي” على قلة ذوق “بنايوتي” وثقالة “خرالمبو”.
ومتى جاء أول “دور” تجد للحال أن باعة الجمبري والبيض والسميد والطعمية إلخ قد ضربوا نطاقاً حول الندماء. ولكن الذي يلفت الأنظار بنوع خاص أولئك الذين يتأبطون بعض زجاجات العطور أو يحملون الفراخ وأقفصة السمان إلخ إلخ. يساومون على بيعها بطرق البخت “عشر نمر بقرشين وثلاثة بشلن”. ولبعض من هؤلاء الباعة نفسية غريبة حبذا لو أن رئيس التحرير حللها تحليلاً وفياً فتغني مؤونة التطويل الذي قد بجعلك تمل قراءتي إن لم تكن قد سئمت…
ماشهم إن شئت “دوراً دوراً” فترى ملحاً شتى ولكنك لن ترى نديماً أراد الاستغناء عن خدمة “الجرسون” فرمى – وهو في آخر الحانة – كأسه الفارغ إلى الساقي أو “البنك” كما هو المتعارف طالباً ان يملأه ويعيده!… إني شهدت ذلك…
طال بنا الحديث وقد يطول إذا ماشينا كل فئة بعد انفضاضها ولكنك لا تجهل دور التمثيل والسينما وجهات أخرى قد تفهمها من اسمها المستتر وجوباً – كما يقول النحويون من تلامذة سيبويه والزمخشري – فهذه أماكن تقصدها الجماعات وقليلون هم الذين يعودون إلى منازلهم قبل منتصف الساعة الواحدة.
بقي علي أن أحدثك بايجاز كلي عن جماعة “إصلاح الكون” وهو اسم قد أطلق على زمرة لا يزيد عددها عن العشرة ولا ينقص عن الثلاثة. يتعرفها الإنسان من طريقة جلوس أفرادها على الكراسي وإلتفاف دائرتهم وانزوائهم وموضوعات أحاديثهم.
لهم مركزان اثنان: الأول لقضاء الشطر النهاري “ماتينه” بلغة أهل المسارح والثاني للشطر الليلي “سواريه”. وإني لأمسك اليراع عن زيادة البيان خوفاً من أن يحملوا كلمتي على غير محملها وما قصدي بها إلا مداعبة تخلو من أي نقد أو سخرية.
فمتى أحببت العودة إلى منزلك عند منتصف الساعة الثانية صباحاً وجدتهم بركنتهم فيبادونك السلام العاطر ويدعونك لتناول القهوة رغماً من أن المقهى يكون قد “شطب”.
ولا تنس إذا كنت في قهوة الشيشة أو عند “سولت” بين الساعة 10 مساءً والساعة 2 صباحاً أن تتنبه إلى حادث معين: ذلك إذا رأيت الخادم يكثر من الذهاب والإياب بين “البنك” وجهة معلومة من المقهى وبيده “كوز” ماء ساخن أو “ولعة” فاتبعه ولو بنظرك فتجد أن هذه الحركة للدكتور محجوب ثابت بك(1) ولو أنصفوا لأسموه الدكتور “محبوب”.
من أندر النوادر أن يكون الدكتور محجوب وحيدأ في جهة من الجهات. ولو جلس إليه شخص واحد – وهذا قلما يكون – ترى الصحافة والبرلمان والعمال والسودان والشعر والجامعة العربية وكل مستملح ظريف…
ولا تظن أن الأمر مجرد مداعبة أو تسلية – من جهته طبعاً – بل هناك عقيدة أوعقائد تتجلى بالبراهين.
هل تعتقد أن انصراف “الزباين” من القهوة ودنو ساعة “التشطيب” يجعلان الدكتور يترك الشيشة أو الشاي؟؟. كلا!، بل المؤكد أنه يكون آخر من ينصرف. وهذا قد يطيب لصالح أفندي البهنساوي أو “بهنس” – كما يسمسه الدكتور محجوب – فذلكة جريدة الأهرام.
قد تأخذ علي تخصيص الدكتور محجوب بجملة ظاهرة مع تحاشي ذكر أي إيضاح عن غيره. ولكنك لا تجهل أن شخصية محجوب قد تستدعي ما لا تستدعيه أية شخصية أخرى ولا سيما إذا كان الحديث عن القاهرة في الليل.
لنقف لحظة عند هذا الحد ولنلق نظرة إجمالية على الأماكن التي يدور عليها محور الكلام وأصحابها وكيف يبدأون عملهم حينما أنت تنهيه.
لا أظن أن في العالم مدينة أو بلاداً تكثر فيها الشعوب وتتعدد اللغات كما هي الحال في مصر. وقد لا أخطئ إذا ما قلت لك أن جميع دول الأرض تقيم في الدولة المصرية بكل أنظمتها وقوانينها ومحاكمها إلخ إلخ. وإن المصري بالنسبة لهؤلاء الأقوام غريب فعلاً ولو أنه في بلاده.
هذا عجيب حقاً ولكن هي الامتيازات الأجنبية ياسيدي التي تبيح مثل هذه الجناية على الشرق وهو الميراث المؤلم الذي نرثه عن تركيا القديمة وبئس الميراث.
تجد في باريس ونيويورك وغيرهما من عواصم الممالك الايطالي والانجليزي واليوناني والألماني ووو وغيرهم ولكنك لا تجد فيهم كلهم إلا الافرنسي أو الأميركي وقانون البلاد يسري على كل فرد من أفراد الجاليات الأجنبية وهذا ما تجد عكسه في مصر.
استند على هذه اللمحة لأبين لك أن أكثرية المقاهي ودور اللهو – وخصوصاً ما كان منها معداً لليل – هي دول قائمة بذاتها. لها لغتها وتقاليدها و”مناعتها” ويكفي أن يكون صاحب المحل يونانياً مثلاً حتى يكون له من اسمه القلاع والحصون والطوابي. فلا تقوى الحكومة مهما اشتد ساعدها وكثر جندها أن تقتحم خط الدفاع. وأن كلمة “خماية ياخبيبي” لأقوى في مصر عند أصحابها من معاقل فردون وحصون لييج حتى الدردنيل وجبل طارق.
لا أنكر عليهم إتقان عملهم وترغيب المترددين على محالهم بما يتناسب مع ذوقهم كما أنك لن تعجب متى عرفت القوة التي يستندون عليها كيف لا يحجمون عن ترويج ما يحرمه القانون الوطني واستباحة ما تراه منكراً ومذموماً.
طال بنا الحديث ولكن قبل انتهائي معك أرى أن ألفت نظرك إلى الشوارع عند منتصف الساعة الرابعة صباحاً.
فمتى رأيت قوماً يسيرون جماعات أو فرادى إما بخطى متثاقلة أو بعيون شاخصة فلك أن تتأكد أنهم قد أفرغوا ما في جيوبهم من مال إما في الميسر أو في أماكن أخرى. وعندئذ لك أن تقول بلسان حالهم “راحت السكرة وجاءت الفكرة” ولكن عليك أن تستثني بعض محرري الصحف الصباحية الذين يكونون قد أفرغوا ما بعقولهم لكي تستطيع في صباح اليوم التالي – بيمنا تكون ذاهباً إلى عملك – أن تقرأ الأهرام والسياسة ولو لم تكن من “زبائن القاهرة في الليل”.
(مجلة مصر الحديثة المصورة، ع 3، 25 ديسمبر 1927)
هامش
(1) الدكتور محجوب ثابت 1884-1945
كاتب وخطيب طبيب مصري.
أيد سعد زغلول وكان من خطباء ثورة الـ 19.
ناصر قضية السوادن السياسية و ودعا إلى تنظيم الحركة العمالية المصرية سنة 1920.
وكان من أعضاء مجلس النواب وعين أستاذاً للطب الشرعي في الجامعة.