وللتحرش معان أخرى
سوزان ابراهيم
ما إن يسمع أحدنا لفظة تحرش, حتى يذهب خياله باتجاه المرأة, فهل خطر لأحدنا أن للتحرش وجهات أخرى كالعمارة مثلاً؟!
في كثير من أحيائنا السكنية, ألا تتحرش أبنية المساجد بأبنية الكنائس أو بالعكس؟
لماذا يصرّ مسلمون في حي ذي أغلبية مسيحية على إشادة مسجد ضخم بمئذنة تناطح السحاب ولن يدخله سوى عدد قليل؟! لماذا تحاط الكنائس بعدد من المساجد في بعض الأماكن فكأنما هي طوق ؟ هل نحن في سباق لبناء المساجد أكثر من الكنائس, رغم أن الفوز بالسباق محسوم النتائج مسبقاً لصالح المسلمين!؟
قرأت مرة أن أبناء إحدى القرى في محافظة الجيزة المصرية حاولوا مراراً بناء كنيسة على قطعة من الأرض, وكانوا كلما استيقظوا صباحاً سمعوا صوتاً يرفع الأذان منها ويحولها إلى مسجد بعد ذلك, وبقي الأمر على هذا الحال تسعاً وثلاثين مرةً, وفي المرة الأخيرة تمكنوا من إقامة الكنيسة فهل تعرفون ما أسموها؟ … كنيسة الأربعين مسجداً!!
من حيث ندري أو من حيث لا ندري, تنقسم أحياؤنا إلى تجمعات طائفية بامتياز: فهذا حي ذو أغلبية مسلمة سنية, وهذا ذو أغلبية مسيحية, وذاك ذو أغلبية علوية,, أو درزية, أو …. وبخاصة تلك الأحياء العشوائية التي تحيط بالمدن, ممن هاجروا من المدن البعيدة أو من الأرياف بحثاً عن مورد عيش كريم, فسقطوا في فخ اللاوعي الذي أفرز في نهاية المطاف أحياء طائفية صامتة!…….
أعتقد أن بإمكان العمارة الحديثة أو التجمعات السكنية, أو الضواحي الجديدة أن تحدّ من مسيرة التمييز الطائفي بين أبناء المجتمع الواحد, فمثل هذه التجمعات تخلق تنوعاً بشرياً على مختلف الأصعدة وأهمها على صعيد الدين, وأجد من المنطقي جداً عدم إشادة الأبنية الدينية في مثل هذه التجمعات, تشجيعاً للحياة المدنية بكل معانيها الجميلة, ومن يُرد الصلاة, فليذهب إلى أماكن تواجدها, وليعتبرها رحلة حج صغرى!
من البديهي القول إن الثقافة العربية تعيش أزمة حقيقية وهي في الغالب أزمة خطيرة تهدد بنفينا خارج التاريخ, وبانقراضنا حضارياً, والحل الحقيقي لمن يريد السعي للخروج منها هو في الخروج من دائرة الماضي والانفتاح على الآخر, والآخر هنا قريب جداً إنه جارك, فقبل أن تنفتح على الآخر البعيد المختلف كثيراً عنك’ حاول الانفتاح على من حولك أولاً علّك تروض أناك المتعصبة المتطرفة الأنانية! إن الانفتاح على الآخر شرط جوهري في كل ثقافة كما قال كلود ليفي شتراوس.
لقد أنجزت الطوائف في بلادنا إغلاق دوائرها, وتحصن أفراد كل منها داخلها معتبراً الآخر على خطأ, وأنه هو وحده الصواب المطلق الذي يقود إلى الجنة. إن وجود شعور بالضعف عند بعض الأقليات لن يولد إلا الخوف من الآخر الكثير والقوي والمدعوم بسلطة سياسية, والشعور بالخوف لن يترافق إلا بمزيد من الانغلاق والحذر, إن لم نقل أكثر.
على الدولة أن تتدخل لتفتح كل مغلق, وتخلق نوافذ في كل مصمت, عليها أن تشق طرقاً واسعة في التجمعات الشعبية المحافظة المتكورة على نفسها, لتدخل الحياة المدنية إليها وتخرجها من دائرة التعصب المكتوم. يمكنكم أن تجدوا أمثلة كثيرة صادقة تدعم ما رحت إليه في مدينة دمشق وغيرها من مدن سورية, هل رأيتم مدخل دمشق الجديد الشمالي, هل رأيتم خروج الناس من الحي المحاذي, وهو حي محافظ بقوة, إلى الساحات الخضراء التي أفرزها المشروع, لقد خرجت النساء والرجال والأطفال من صوامعهم, وما هذا إلا مثال بسيط على ما يمكن للعمارة أن تفعله سلباً أو إيجاباً.ط
موقع ألف