بحسيتا ..حكاية بيوت المتعة في حلب
المحامي علاء السيد
ما ذُكرت بحسيتا أمام حلبي ، إلا و ابتسم.
أثار هذا الأمر فضولي. و بما أن جيلنا لم يعرفها، و الجيل السابق الذي أدركها يتجنب الحديث عنها، و كلما سألت كبار السن عنها ينفون – في البداية و بشدة – معرفتهم المباشرة بها، ثم – تدريجياً – يتبسطون و يسترسلون في الحديث عنها، و يشيرون بحذر أنهم ربما زاروها مرة أو مرتين للإطلاع على ما فيها فقط، ثم و بصوت منخفض- مع تحذيري من نقل ما يحكونه على لسانهم – يروون مغامراتهم فيها. و بما أنها تعد جزءا من تاريخ بلدنا، و التاريخ تاريخ، سواء كان سلبياً او ايجابياً، و لم أجد في أي مرجع دراسة وافية لتاريخ هذا المكان، الذي قل من امتنع عن زيارته في ذلك الزمان، حسبما تبين لي، و لأهمية المؤشرات الأخلاقية و الاجتماعية التي يكشفها تاريخه، و التي أترك تقديرها للقراء، قمت بجمع المعلومات عنه من شفاه من عاصروه، و ها أنا أقدمها لكم في مقالتي هذه :
في عام 1901 م قرر والي حلب العثماني رائف باشا افتتاح دار دعارة مرخصة في حلب، أسوة بباقي مدن السلطنة العثمانية، كما ذكر الطباخ في كتابه إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء، و كان الهدف منها حصر و تنظيم عمل المومسات في هذا المجال منعا من تواجدهن في مختلف الأحياء و فرض رقابة صحية عليهن، و انقسم الناس حينها بين مؤيد لفكرة حصر الدعارة في أماكن محدودة ، و معارض بشدة للترخيص الرسمي لها ..
يقول الطباخ في كتابه الصادر في العشرينيات من القرن الماضي: (بعد ان كانت المومسات قلائل أصبح عددهن يناهز خمسمائة، و أصبح زائرو هذه الأماكن مئات من الناس بل ألوفا، و تهافت الشباب على هذه المواخير لسهولة الوصول إليها و فشا فيهم داء الزهري و التعقيبة) .
لكن ترخيص الدعارة في أماكن محددة محصورة لم يمنع انتشار هذه الظاهرة بشكل سري، و المرأة التي كانت تمارس الدعارة بدون رخصة خارج البيوت الرسمية المخصصة لها، كانت تعاقب بالحبس، فإذا ضبطت مرة ثانية او ثالثة تجبرها السلطات المختصة على الإقامة الإجبارية في دور الدعارة المرخصة.
و تقرر على إقامة بيوت الدعارة المرخصة في حلب – التي أطلق عليها اسم المحل العمومي – في حي بحسيتا، التابع لحارة القلة، قرب ساعة باب الفرج الحالية.
كان أغلب سكان حارة القلة و بحسيتا قبل افتتاح المحل العمومي من العائلات اليهودية، و قد حدد مؤرخ حلب كامل الغزي في كتابه نهر الذهب عدد سكانها اليهود بحوالي أربعة ألاف شخص في العشرينيات، و اشهرهم آل جدّاع، آل نحمات، آل ساسون، وآل دويك، الذين انتقل الأغنياء منهم للإقامة في محلة الجميلية تجنبا للإقامة قرب بيوت الدعارة.
أما معنى اسم بحسيتا فقد أورد الغزي عدة آراء حول معنى الاسم، و رجّح أخيرا ان بحسيتا مركبة من كلمتين: أولاهما بيت والتي تختصر في السوريانية بحرفي ( با ) فقط مثل أسماء المناطق السوريانية الأخرى ( بانقوسا و تعني بيت الناقوس، باريشا و تعني بيت الريس و غيرها ) والثانية حسيوتا ومعناها الغفران أو الطهارة، و بذلك يكون معناها بيت الطهارة و المغفرة.
ويقول الغزي : (الظاهر إنه كان فيها زمن الكلدانيين مكان مقدس، يقصده الناس للاعتراف بخطاياهم )
أما خير الدين الاسدي صاحب موسوعة حلب المقارنة فقد رجح رأياً آخر أورده الغزي فيما أورده من آراء، و هو الرأي الذي يقول أن الاسم محرف من باح سيتا، وان شخص اسمه سيتا باح بسر ما، و افترض الاسدي ان سيته هذا رجل صالح و لهذا السبب هناك جامع قديم جدا في المنطقة اسمه جامع سيته .
و هناك رأي يقول ان سيتة هو اسم منطقة من اصل سورياني، و ان جامع سيته المذكور كانت له باحة أمامه، و بدمج باحة مع اسم سيته كانت بحسيتا.
و أنا أرجح رأي الغزي على الآراء الأخرى فمن الواضح ان اسم سيته هو اسم قديم آرامي سرياني، و لا يعقل ان يسبق بكلمة عربية هي كلمة باح ( بمعنى أفشى ) أو بكلمة باحة ( بمعنى ساحة ).
شارع بحسيتا هو شارع مستقيم بطول ثلاثمائة متر تقريباً، على جانبيه كانت توجد الدكاكين و اغلبها بقاليات، و منها دكان يبيع المشروبات الروحية، و في منتصف الشارع جهة اليمين يوجد مدخل صغير يؤدي الى زقاق المحل العمومي.
و سابقا كان في الزقاق الذي أقيم فيه المحل العمومي قبل ترخيصه، مضافة للعموم، و يطلق العامة على بيوت الضيافة اسم المنزول، و هي من كلمة ( نزل ) الفصحى، فيقال مثلا : (حللت أهلا و نزلت سهلا )، و عادة كان الأثرياء و الباشاوات و الآغوات ينشئون مكانا مخصصا لإقامة الأغراب و ضيافتهم مجانا، هو المنزول، و يسمى في الأرياف ( الاوضة ) .
و بعدما تحول هذا الزقاق الى مكان للدعارة، صار اسم المنزول لدى الحلبيين مرتبطا ببيوت الدعارة ، بينما يستخدم أبناء بقية المحافظات هذا الاسم للإشارة الى المضافات. كما يستعمل الحلبيون كلمة كارخانة للدلالة على بيوت الدعارة، و هي كلمة تركية تعني( مكان العمل)، فالكار هو العمل او المهنة و الخانة هي المكان.
كان المحل العمومي الذي تم ترخيصه للدعارة ، مؤلف من مدخل ضيق يحمل رقم 142 في لوحة معلقة على جداره، و لذلك اشتهر هذا الرقم كرمز للمنزول.
و تنفذ من المدخل الى زقاق ضيق، على طرفيه مجموعة من الدور العربية، لكل دار حوش و عدة غرف موزعة في أطرافه، لبعضها غرف علوية ( مربع ).
و في نهاية الزقاق منفذ آخر له باب مغلق لا يفتح إلا في أحوال خاصة كاستقبال الجنود الفرنسيين و المليس ( و هي كلمة مشتقة من ميليشيا ) او لدخول الأطباء و موظفي الصحة .
قرب المحل العمومي كانت توجد حمام عامة تحمل اسم حمام الهنا، و قد خصصت أوقات محددة فيها لفتيات الكرخانة، و قد هدمت الآن .
و قرب المنزول مشفى خصصته الدولة لفحص الفتيات و لمعالجة الأمراض التناسلية .
في الأربعاء من كل أسبوع، تخرج الفتيات من الباب الخلفي للزقاق المخصص لهذا الأمر، ليقمن بزيارة الطبابة الشرعية – التي كانت قريبة من المنزول – لإجراء الفحص الدوري، و في حال تبين إصابة أي منهن بمرض ما ، تعزل و تحجر حتى تتماثل للشفاء في المستوصف القريب من المنزول. و توجد فيه غرف تشبه الزنزانات، كما تحجر الفتيات فيه طوال فترتهن النسائية الشهرية، لمنعهن من العمل خلالها.
كانت الفتيات تلجأن لكيّ الرحم منعاً من حصول الحمل، و الى الإجهاض في حال تم حدوثه ، فقد كانت تربية الأطفال ممنوعة داخل المحل العمومي.
في مدخل المحل العمومي غرفة صغيرة تتواجد فيها دائماً مفرزة مؤلفة من عنصرين من رجال الشرطة، لمنع دخول الأحداث و للتفتيش عن الاسلحة منعاً من استعمالها من قبل أقرباء الفتيات اللذين يرغبون بقتلهن لغسل عارهم.
للشرطي في المنزول أهمية عظمى، فهو يمنع إدخال الأسلحة والسكاكين والمشروبات ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة.
و يصدف أحيانا أن يعين شرطي متساهل، فيتقاضى مبلغ بحدود الربع ليرة سورية – ارتفعت لاحقا الى ليرة واحدة – لغض النظر عن الشبان القاصرين الذين دون السن القانونية و الراغبين في دخول المنزول .
أمام مدخل المنزول مباشرة يوجد مسرح ضخم لتقديم العروض الفنية، مؤلف من ثلاث طوابق، على واجهته الحجرية كتابة قديمة هي قهوة السلام، و قد اشتهر آخر أيام عمل المنزول باسم ( مسرح غازي )، و كانت الفتيات اللواتي يملكن مواهب فنية يقدمن عروضا فيه، و يسمين حينها الخوجات و مفردها خوجة، و لا يشترط بالخوجة ان تمتهن الدعارة .
في المنزول تقيم عشرات الفتيات البالغات من مختلف الأعمار و الجنسيات، و كلهن غريبات من خارج المدينة ، فلا تضع السلطة فتاة من ذات المدينة في منزول المدينة، لأنها تتعرض للقتل فورا من قبل أفراد عائلتها.
السبب الأكبر الذي كان يدفع الفتيات للدعارة، و من ثم الإقامة الجبرية في المحل العمومي بعد القبض عليهن، هو الفقر و الظروف الاجتماعية و الأسرية السيئة، و أغلب المومسات لسن جميلات.
كانت المشروبات الروحية ممنوعة بشكل رسمي تجنبا للمشاكل التي يثيرها السكارى، و لكن بعض الزجاجات كانت تتسرب للداخل، كما تقدم المطاعم المحيطة بالمحل العمومي أنواع اللحوم المشوية الى داخل المحل.
لا يجوز أبدا إخراج الفتيات من المحل العمومي الى منازل المدينة. و يحق للفتاة يوم إجازة أسبوعي هو يوم الاثنين فكانت الفتيات- في فترة بعد الظهر – ترتدين لباسا محتشما، و يركبن الحنتور مع رجال مفضلين لديهن لحضور السينما.
و في حال كبرن في السن ينقلن الى منزل قريب يسمى المنزول العتيق، حيث يمضين ما تبقى من حياتهن في عوز و فاقة بالغين.
كان أغلب رواد المحل العمومي من الشباب العازبين و المراهقين و من العساكر و الوافدين الغرباء عن المدينة.
كان للعساكر يوم خاص هو الخميس مساءاً، من الساعة السابعة حتى التاسعة مساءاً، و تم تغييره لاحقاً الى يوم الجمعة، و لهم تخفيض خاص في السعر يصل حتى النصف، و يأتون برفقة عريف و يصطفون بالدور برتل عسكري، قد يصل الدور الى العشرات، و تستبدل يومها مفرزة الشرطة التي تحرس مدخل المنزول بعناصر من الشرطة العسكرية.
في الأربعينات كانت هناك ثلاث تسعيرات متعارف عليها، و هي ليرتين، و ثلاث ليرات، و خمس ليرات، تبعا لعمر الفتاة و مستوى جمالها، و قد زادت هذه التسعيرة لتصل الى إحدى عشر ليرة في أواخر أيام المحل العمومي.
يمضي الشاب مع الفتاة فترة قصيرة لقاء هذا المبلغ لا تزيد عن ربع ساعة، في حال رغب بتمديدها لمدة ساعة كان عليه ان يطلب فنجان قهوة و يدفع ثمنا له ليرة كاملة، أما إذا رغب بتمضية ليلة كاملة فيدفع تسعيرة مرتفعة و يسمى هذا الأمر الأنكاجيه ( و هي كلمة من اصل لاتيني يستعملها الفرنسيون و الإنكليز و تفيد التعليق و الانشغال).
بعد وصول الكهرباء للمنطقة، وضُع في أرض حوش كل دار آلة كهربائية تسمى ( بيك آب ) لإذاعة تسجيلات الاسطوانات ، فيضع الرجل ربع ليرة سورية فيها، و ينتقي الاسطوانة التي تحمل الأغنية التي يفضلها، لتدار آليا.
ومن اشهر الفتيات اللواتي أقمن فيه في العشرينيات الفنانة ( بديعة ) اللبنانية الأصل، و التي حملت لاحقا لقبٌ مشتق من حي المصابن القريب من بحسيتا، هي الفنانة الشهيرة ( بديعة مصابني )، و كانت تقوم بالرقص و الغناء في المسرح المقابل للمحل العمومي، ثم رحلت الى لبنان ثم مصر حيث أقامت كازينو شهير جداً و هو كازينو بديعة مصابني، و قد صدر فيلم مصري شهير بطولة نادية لطفي حول حياتها، و في آخر حياتها عادت بديعة مصابني الى شتورة في لبنان، حيث فتحت مخزناً صغيراً بالقرب من مزرعة عائدة لها، تبيع فيه الألبان على الطريق العام باتجاه الحدود السورية.
تدير بيت الدعارة في المحل العمومي القوادة التي تسمى بالعامية البترونة ( و هو مشتق من الكلمة الفرنسية باترون التي يطلقها الفرنسيون باحترام على السيد او السيدة التي تتولى إدارة مكان ما) ، و تقوم القوادة باستئجار الدار ، و تشرف على تأمين مفروشات و متطلبات مكان عمل و مبيت الفتيات ، لقاء الجزء الأكبر من الأجور ، و يقع على الفتاة مصاريف أكلها و كسائها ، و تقبض الباترونة المال مباشرة من الرجال و لا تقبضه الفتاة ، و غالبا ما تمضي الفتاة حياتها و هي مدينة لهذه القوادة التي تستنزف مالها بشتى الوسائل و السبل ..
أشهر القوادات في ذلك الزمان هي حميدة ، و التي تابت في آخر حياتها ، و قررت التبرع بكامل أموالها لعمل الخير ، في عمل نبيل قل من يقومون به ،رجالا و نساءا ممن امضوا حياتهم في جني المال الحرام ، و توجهت الى أحد رجال الدين ، و طلبت منه ان يقبل تبرعها بعدما رفض البقية قبوله ، و فعلا بُني منزل من أموالها خصص للتائبات الراغبات في تمضية بقية حياتهن فيه ،و يقمن فيه ببعض الأعمال اليدوية لكسب العيش الشريف .
خارج المحل العمومي في البناء الذي أزيل و أقيمت مكانه المكتبة الوطنية ، كان منزل سيرانوش الشهيرة و هي يونانية الأصل ، و لديها مجموعة من الفتيات ، و كان لها الكثير من المشاكل و الدعاوي في المحاكم .
كما يتعاون مع القوادة في خدمة الدار رجل يسمى بالعامية – عذرا من القارىء – ( العرصة ) ، و كلمة عرصة هذه لها تصحيف و معان مختلفة ، فحاليا يقال لقطعة الأرض غير المبنية (عرَصة ) بفتح الراء ، و قد اعتاد العرب ان يبدلوا حرف الصاد بحرف السين ، فكلمة ( سراطا ) مثلا تأتي أيضا ( صراطا ) ، و نقول أيضا سنارة و صنارة .
و تأتي كلمة عرّص عند العرب مطابقة لكلمة عرسّ ، و تعني انه نزل أرضا او مقاما للاستراحة ، و منها العريس و العروس اللذين يأخذان مكانا خاصا ليلة العرس للاستراحة فيه .
و بذلك تكون مهمة ( العرصة ) في المنزول تأمين مستلزمات مكان الاستراحة ، و مهمته أيضا القيام بمهمة صلة الوصل بين القوادة و السلطة ، و في حال قدم أي زبون شكوى بحق الدار يتحمل العرصة المسؤولية التي تصل للحبس .
من المتعارف عليه دخول الرجال مجانا ، للفرجة فقط على الفتيات في ارض الديار ، و يسمى هؤلاء ( حييكة ) و تسألهم الباترونة في صيغة تحريضية هل انتم ( حييكة أم ….. )
أحيانا تقع الفتاة في هوى رجل فتستقبله مجاناً ، و غالباً بعد منتصف الليل ، و ينبغي على الفتاة التعويض على القوادة من مالها الخاص .
الرجل الذي تقع الفتاة في هواه و يقع في هواها ، تقيم له حفلا يسمى البالو ( و يبدو أن الاسم مشتق من كلمة ball التي تستعمل في الانكليزية و تعني حفلة راقصة مختلطة ) ، تدعو إليه صديقاتها من المومسات و يدعو هو بعض أصدقائه – إذا شاء – و تصبح محرمة على أصدقائه كما يصبح هو محرما على صديقاتها .
و يتحول الى متردد دائم عليها و يقوم بحمايتها و مبادلتها الهوى ، و تقوم هي بالإنفاق عليه إذا شاء ، و أطلق الحلبيون على هذا الرجل لقب السيفونجي ، و قد كان محتقراً جدا في المجتمع، و لقبه مشتق من الكلمة الفرنسية ( سيفون ) و التي يطلقها الحلبيون على مجرى تصريف المياه الوسخة .
و قد يتورط أحد شباب العائلات المعروفة بقصة حب مع فتاة من المحل العمومي فيطرده أهله و يمنعوا عته المال ، فيتحول الى سيفونجي .
روى لي قاضي متقاعد حقق في قصة كاترينا اليونانية عندما كان نائبا عاما ، التي قام أحد الأشرار بقطع يدها ، لنزع مصاغها الذهبي منها بعدما لم يستطع إخراجه من يدها ، ففقدت وعيها و نزفت ، حتى وصل دمها للطابق الأرضي فحُملت للمشفى ، و في بادرة إنسانية أغلقت الفتيات المحل العمومي و توجهن جميعا للتبرع بالدم لكاترينا.
و في خطوة نادرة و غريبة ، تأثر بها بشدة القاضي الذي روى لي الحادثة ، تبين و جود الشعور الديني عند هؤلاء الفتيات ، اقترحت إحداهن إقامة مولد نبوي شريف على نية شفائها ، و فعلا جلبت حميدة ، عدة قراء من العميان الذين يتواجدون في ساحة الجامع الأموي لإقامة المولد ، و تحجبت جميع الفتيات ، المسيحيات منهن و المسلمات ، و أقمن مولدا على هذه النية ، و لكن كاترينا فقدت الحياة من شدة النزيف.
و كانت بعض الفتيات يصمن في شهر رمضان و يصلين و يتوقفن عن العمل حتى أول أيام العيد .
يحكي الحلبيون عن كثير من الرجال أحبوا فتيات من داخل المحل العمومي ، و تبنّ على أيديهم و تزوجوا منهن فأخْرَجَوهم من دار البغاء ، بشرط ان يقدموا تعهداً للسلطة و على مسؤوليتهم بعدم عودة زوجاتهن للدعارة ، متحدين بذلك كل أعراف المجتمع ، و يروى عن هؤلاء الزوجات أنهن تبن توبة نصوح و كن خير أمهات لأولادهن ، و كانت كل الفتيات في المحل العمومي يتمنين هذا المصير .
كما روى لي أحد المحامين المتقاعدين قصة غريبة عن فتاة كانت تُعرف بأنها تخاف من حلف اليمين – سواء يمين صادق أو يمين كاذب – فهي لا تحلف يمين أبدا ، و قد عُرف هذا الأمر عنها ، فقام رجل محتال جشع بإقامة دعوى عليها زاعما أنها استدانت منه مبلغ مائة ليرة سورية ، و عندما أنكرت الفتاة أمام القاضي دعاها المحتال الى حلف اليمين بأنها لم تستدن ، فرفضت وفقا لمبدئها ، و قام القاضي بإلزامها بدفع المبلغ .
و بعد فترة كرر هذا الرجل الأمر ، و دعاها مرة أخرى لحلف اليمين ، فنصحها البعض بشرح حقيقة الأمر للقاضي ، الذي تأكد من الأمر ، و ألزم المحتال بإعادة المبلغ القديم و هدده بالحبس ان كرر ذلك .
و روى لي قاض متقاعد آخر دعوى عرضت عليه ، قام فيها أحد الشبان بالاتفاق مع امرأة من المنزول على التوبة و الزواج منها بعد أن تشتري بيتا من مالها الخاص ليكون بيت الزوجية ،و اصطدمت المرأة برفض أصحاب البيوت بيعها أي شقة كانت لأنها معروفة منهم ، فاضطرت الى إرسال هذا الرجل لشراء الدار و تسجيل ملكيتها باسمه ، و بعدما فرشتها و جهزتها من مالها الخاص فوجئت به يغير أقفال المنزل ، و يتزوج فيه من غيرها .
فما كان منها إلا ان راجعت القضاء للحصول على حقها ، فوقف أغلب الناس في صف هذا الرجل و رفضوا مساعدتها في استعادة حقها .
حتى وصلت الدعوى الى محكمة قاض معروف ، اشتهر زمنها بالنزاهة و الشرف ، فأجبر الشاب بعدما تأكد من صدق روايتها على إعادة المنزل لها ، و قد توسط الكثيرون لدى هذا القاضي لمصلحة الشاب ، باعتبارها مومساً و مالها مالا حراماً ، مباركين فعل سلب الشاب لحقوقها ، و يذكر الكثيرون دخولها المحكمة ، و تقبيلها الأرض بين يدي ذلك القاضي ، رافعة يديها بالدعاء له ، و هي غير مصدقة إنصافه لها .
كان أهالي البغايا أحيانا يقتلن البغي عندما يعلمون فجأة بمكانها و بعملها هذا ، بعدما تكون قد هربت من بلدها لأسباب مختلفة ، و وصل بها الأمر الى المحل العمومي ، و أحيانا كانت تقوم بهذا العمل بعلم أهلها و تمدهم بالمال من شدة فقرهم ، و قد يقوم احد أفراد عائلتها بقتلها إذا ما توقفت عن إمدادهم بالمال .
حدثني قاض متقاعد ثالث عن دعوى عرضت عليه ، قصتها أن فتاة كانت تعمل هناك ، و كان أخوها يقوم بزيارتها للحصول على مصروفه منها ، و بعد مضي عشر سنوات تقدمت الفتاة في السن و قل روادها و بالتالي قل واردها المادي ، فلم تعد تعطي أخاها نقودا ، فقام بقتلها انتقاما منها ، و قد دافع المحامي الذي توكل عن الأخ بأن القتل كان بدافع شريف ، و قد حكمت محكمة الجنايات بإسقاط العقوبة عته بأكثرية مستشارين بمواجهة المستشار الثالث و هو القاضي المذكور ، الذي رفض اعتبار الجرم انتقاما للشرف ، و طلب تشديد العقوبة على الأخ لأنه أمضى عشر سنوات يستغل شقيقته ، و لم يستيقظ شرفه إلا بعد ان أوقفت الأموال عنه ، و أيدت محكمة النقض رأي المستشارين و حكمت بأن القتل لدافع شريف ، و عللت أن دافع الشرف قد يفاجىء الإنسان في أي وقت و لو جاء متأخرا .
في أواخر أيام المحل العمومي اشتهرت قصة الفتاة عتاب ، التي كان أخوها الأول يعمل معها في المنزول ، و قام أخوها الثاني الذي كان في السجن – لجريمة ارتكبها – فور إطلاق سراحه ، بذبحها ، و العودة ثانية للسجن .
في عام 1958 ، أيام الوحدة بين مصر وسورية ، أصدر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر القانون رقم 10 للقطرين السوري و المصري ، قضى هذا القانون بإلغاء البغاء وإغلاق كل دور الدعارة .
و عاقب القانون في حينه كل مدير للمحل العمومي يستمر بالعمل ، بالحبس لمدة تصل حتى أربع سنوات ، و قد نص القانون أن على وزير الشؤون الاجتماعية والعمل إيداع البغايا المرخص لهن من تاريخ العمل بهذا القانون بمؤسسة خاصة ، وللمدة التي يراها مناسبة لتأهيلهن لحياة كريمة وتدريبهن على الكسب الشريف .
من غرائب القانون المذكور ، الذي ألغى ترخيص بيوت الدعارة -علما انه القانون الساري حتى يومنا هذا – ان الرجل لا يعاقب بأي عقوبة في حال ضبط مع فتاة دفع لممارسة الدعارة معها ، بل تعاقب الفتاة فقط .
أما عقوبة من يسهل الدعارة و هي القوادة أو القواد الحبس حتى ثلاث سنوات ، ويحكم بإغلاق المحل ومصادرة الأمتعة والأثاث الموجود به ، و في حال قام هؤلاء بإكراه و إجبار الفتاة على الدعارة او استقدموا المومسات من خارج القطر ، يكون الحبس حتى خمس سنوات .
و في حال استخدم القوادون فتاة قاصراً عمرها دون السادسة عشر ،تشدد عقوبتهم و تصل حتى الحبس لسبع سنوات.
و في حال كان من يسهلون دعارتها أبوها أو شقيقها او زوجها ،سواءاً كانت قاصراً أو غير قاصر ، تشدد عقوبتهم كذلك ، و تصل حتى الحبس سبع سنوات .
أما مالك أو مؤجر بيت الدعارة ، الذي سلمه لقواد يديره و هو عالم بنشاط البيت ، فيعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر و حتى ثلاثة سنوات .
أما الفتاة التي تمارس الدعارة و تعتاد عليها و يتم ضبطها عدة مرات ، فتعاقب بالحبس من ثلاثة اشهر و حتى ثلاث سنوات ، و تتهج أغلب المحاكم حاليا بتطبيق الحد الأدنى للعقوبة و هو ثلاثة أشهر .
لم ينفذ هذا القانون عند صدوره إلا لجهة توقف السلطة عن إيداع الفتيات اللواتي يقبض عليهن بجرم الدعارة في المحل العمومي .
خلال سنوات.. تم ترحيل الفتيات اللواتي لم يكن يحملن الجنسية السورية ، و بذلك تناقص عدد الفتيات تدريجيا ، و كبرت المتواجدات في المحل العمومي في السن .
و لغاية عام 1974 كان عددهن قد أصبح قليلا ، و أصغر النساء سنا قد تجاوزت الأربعين .
أخيراً … بعد أربعة و سبعين عاما ، قررت بلدية حلب هدم منطقة المحل العمومي ، في إطار مشروع تحسين منطقة باب الفرج.
و فعلا هُدم المنزول ، و ما زال مكانه خراباً حتى هذا التاريخ ، و تفرقت المومسات إلى أماكن مختلفة في المدينة ، منهن من تابت ، و منهن من استمرت في ممارسة الدعارة السرية .
و انتقلت بعضُ منهن الى مدن بعيدة لتجنب الاقتراب من أهلهن ، مثل مدينة دير الزور ، و مدينة القامشلي التي سمي المحل العمومي فيها باسم (البيت الأبيض) .
أخيرا …و في نهاية هذه الدراسة أقول : سمعت تعليقا طريفا كرره الكثيرون أمامي عند جمعي لمعلومات هذه الدراسة ، و لا أدري فيما إذا كانوا محقين به : ( من زمان كان الوضع أفضل ..فقد كانت الدعارة محصورة في المحل العمومي في حي بحسيتا ، أما الآن فقد صارت قرب بيوتنا ، في العديد من الأحياء ، و في المنازل الخاصة و المزارع المقامة في الضواحي).