هو الفن وليس مكنسة كهربائية
يوسف عبدلكي *
لم يكن ينقص الحياة التشكيلية في سورية إلا هذا! فبالإضافة الى هجمة المال الجاهل، وانسحاب المؤسسات من دورها المعهود، ودخول التمويل الأجنبي، والصعوبات التي يلاقيها جيل التشكيليين الشبان، تأتينا بين الحين والآخر مواد صحافية تتضمن أسطراً تنوس بين الجهل والهذيان، فلا يبقى لنا إلا أن نهلل ونستبشر بمستقبلنا السعيد!
نشرت «الحياة» مشكورة تحقيقاً طويلاً (في ٢٦/ ١٢/ ٢٠١٠) في صفحة «منوعات» بقلم صحافية من دمشق يبدو أنها ترصد مفاصل وآراء عن التشكيل السوري للعام الفائت، ولفت النظر – بالإضافة الى اضطراب المادة من الناحية الحرفية – احتواؤها على مغالطات غير مقبولة، ومعلومات خاطئة، وكذلك اعطاؤها حيزاً واسعاً لتصريحات هجينة لرسام استعراضي، متجاهلة فنانين مهمين من مختلف الأجيال ممن كانت لهم بصمة في الفترة نفسها بحيث بدت المادة كلها كأنها ديكور لتلميع صورة هذا الرسام، غير أن استغراب المرء يتبدد عندما يصله كلام كثير عن أن كاتبة التحقيق تعمل ملحقة صحافية لدى الرسام نفسه!
كان يمكن تجاهل الأمر برمته، إذ طالما تعوّد المرء على أمور كهذه من بعض الصحافيين الطارئين على المهنة، غير أن إيراد اسمي في أكثر من موقع جعلني أكتب هذا الرد مضطراً.
يهاجم الرسام محاضرة الباحث إيف كونزاليس كيخانو عن الفن في سورية والتي ألقاها في المركز الثقافي الفرنسي في دمشق قائلاً: «هذه محاضرة صفراء، وليس لها علاقة بالاستقصاء انما بالدعاية والمزاج الشخصي بين المركز والفنان يوسف عبدلكي». أود الإشارة إلى أنه لا توجد علاقة شخصية بيني وبين الباحث، والذي لم يسبق أن رأيته قبل المحاضرة إلا مرة واحدة عرضاً في أحد المعارض، وبالإضافة إلى أن علاقتي بالمركز الثقافي الفرنسي لا تتعدى علاقة أي زائر، كما لا يخطر ببال صاحب التصريح أن المركز لا يمكن أن يتدخل في آراء أي محاضر، وأن المركز والمحاضر سليلا أصول ديموقراطية تعيب على نفسها ممارسات تآمرية متخلفة كهذه.
وعليه فالكلام برمته مبني على خيالات وأوهام مريضة، الخيالات والأوهام نفسها التي كانت ستجعل من المحاضرة محاضرة «وردية» لو أن الباحث تناول شخص الرسام، وأفاض في تقريظ عمله!
في موقع آخر يهاجم الرسام فرنسا! فرنسا عصر الانوار وفولتير ومونتسكيو والثورة الفرنسية ودانتون وميرابو، فرنسا أحد أكبر مختبرات الحداثة في العالم، وإحدى أهم الديموقراطيات الغربية، فرنسا النضال السياسي والعمالي، فرنسا التي على أرضها عرفت اغلب حركات التجديد فنياً منذ قرون؛ من الكلاسيكية المحدثة إلى الرومنطيقية والواقعية والانطباعية والوحشية والدادائية والسريالية، إلى مدرسة باريس واتجاه الكوبرا والاوب آرت. فرنسا بوسان وشاردان ودافيد وانغز وغرو ودولاكروا ودوغا ودوميه ومييه وغوغان ومانيه ورونوار ومونيه ولوتريك وماتيس وروو وبراك وتانغي وليجيه وسولاج وبازان ودوبريه، فرنسا التي على أرضها تفتحت عبقريات فنانين من غير الفرنسيين أمثال فان غوغ وميرو وبيكاسو وشاغال ودالي وسوتين ومودلياني وجياكوميتي. فرنسا التي تعتبر اليوم من أهم مراكز التفاعل للحركات التشكيلية المعاصر في العالم، من اتجاه الواقعية الفوتوغرافية إلى البوب آرت إلى الفنون المفاهيمية والفن الفظ، إلى تيارات التجهيز والفيديو آرت إلى فن الأرض… كل هذه الـ «فرنسا» يريد الرسام أن يرميها إلى مصح عقلي! ويقول حرفياً: «فرنسا العجوز عليها الآن فنياً أن تسكت وتذهب إلى أقرب مشفى للأمراض النفسية» ثم يكمل هذه الفجاجة بجملة أكثر بذاءةً: «والعلاج على حسابي». لا يحتاج المرء الى كثير من التفكير ليعرف من الذي يحتاج إلى مصح نفسي. غير أنه يستغرب كيف سمحت الصحافية لنفسها ايراد عبارة كهذه حتى لو لفظها الرسام حرفياً، فالصحف ليست مرتعاً للجهل والهذيان والعنصرية.
وبالعودة إلى سجل الرسام يعرف المرء أن الأمر كله لا يعدو كونه محاولة صبيانية «لقتل الأب»، إذ إن فضل المركز الثقافي الفرنسي على هذا الرسام أساسي، والكل يعرف أنه ربما كان الرسام السوري الوحيد الذي كان صنيعة المركز، فهو الذي اطلقه، وكان أول من عرض له، وهو الذي روّج له، لذا لا نستغرب عندما يقول: «لم يضف المركز إلى تجربتي شيئاً». وفي الأمثال نقول: «يكاد المُريب أن يقول خذوني».
يدعو الرسام إلى دعم الفنانين الشباب لئلا يرتهنوا للمال، وهذا أمر حسن، لكنه بعد سطر يشكك بهم! ثم بعد سطر آخر يحط من شأنهم وشأن الفنانين عموماً بقوله: «الفن في سورية اليوم هو موضة كالمطربين، الكثير منه ولا شيء». بغض النظر عن كون الجملة الأخيرة لا تمت الى اللغة العربية بصلة، فإن من يطلق تصريحات كهذه يوحي بأنه متنسك في محراب الفن، منقطع عن الدنيا! وليس واحداً من أكثر الرسامين استقتالاً على الاستعراض وعلى الدعاية لنفسه، بما فيها الوسائل الأكثر فجاجة وهجنةً، ولا يزال المرء يتذكر اعلاناته في الصحف عن نفسه (وليس فنه) كما تعلن أي شركة عن مستحضر ما. كما لا تزال مجموعة الاعلانات الكبيرة الطرقية تمتع سكان العاصمة والعابرين على طريق بيروت – دمشق بصورته مرتدياً طقمه الأبيض المضحك! وهنا نذكر بأن المطربين بل حتى الراقصات عندما ينشر وكلاء أعمالهم اعلانات ضخمة كهذه لهم فذلك للاعلان عن حفلة فنية أو راقصة؛ أما أخونا فإعلاناته هكذا! للاستعراض… من دون اعلان عن أي معرض أو نشاط تشكيلي! فهل هو الوهم بأن الدعاية تصنع فناً؟! وتخترع فنانين؟! أم هي محاولة مازوشية للاستمتاع بسخرية العابرين؟! الله أعلم! فله في خلقه شؤون.
أما في خصوص ما ذكر الرسام في تقويمه السلبي لعملي فأعتبره رأياً محشوراً في سياق مادةٍ ليست مخصصة للتقويمات الفنية، (مثلما هذه الأسطر لا تتطرق الى التقويم الفني) غير أنني قبل ذلك وبعده أحترمه لأنه رأي يعبر عن تذوقه الشخصي، وبالتالي لا يعنيني الرد عليه.
ويرد في تحقيق رنا زيد أن أحد أصحاب الصالات يقول: «الخلاف مع عبدلكي هو خلاف بين جيلين وليس بين شخصين». صحيح، ليس خلافاً بين شخصين، ولكنه أيضاً ليس خلافاً بين جيلين. إنه خلاف بين عقليتين تجاه الفن؛ الأولى تعتبر الفن قيمة ثقافية وروحيّة تمتد في وجدان الناس، وهو شهادة ذاتية عميقة في محيط مضطرب تحتدم فيه الصراعات النفسية والاجتماعية والفكرية والمعاشية، والعقلية الثانية تعتبر الفن وسيلة لجمع المال مثله مثل أي سلعة مبتذلة. وليس أدل على تلك العقلية إلا جملة لصاحب الصالة نفسه عندما يُكمل بعد أسطر: «لدينا عشرون فناناً بينهم خمسة عشر سورياً يأخذون قالباً أشبه بماركة (ماركة!) أو علامة (روتانا)». لا تعليق. اللهم اسألك العفو، فالحديث عن فن ليس عن مكنسة كهربائية.
تذكر الصحافية أنني فرنسي الجنسية! أحب أن أوضح مجدداً أنه ليس لدي إلا جنسية واحدة هي جنسيتي السورية، وأنني لم أطلب ولم امتلك في أي يوم أي جنسية أخرى. وعلى رغم أن الأمر – لو حصل – ليس جريمة ولا يعيب أحداً، حيث تجبر الظروف الاقتصادية المتردّية، وفساد الانظمة السياسية العربية وعسفها ملايين المواطنين العرب على الهجرة وطلب جنسيات الدول الغربية، وعلى رغم وضوح ذلك لكل ذي عين، فلا يزال البعض يحب استخدام اوراقٍ «وطنيةٍ» هزيلةٍ لأغراض أكثر هزالةً.
نقطة أخيرة: لم أقل ان الجيل الجديد من الفنانين في «أزمة»، بل قلت ان هذا الجيل أمامه «تحديات» لم يتعرض لها جيلنا ولا الجيل السابق علينا، وهي في شكل أساسي السوق وقيمه المالية، والتمويل الأجنبي للكثير من المشاريع الفنية، وضيق مساحات العرض أمامه.
على كل حال، ومهما ساءت الأحوال نحمد المولى القدير الذي سخر لنا من بعضنا من يضفي البهجة على حياتنا الرمادية، فأوحى لرسامين بالعمل والكلام الكوميدي المستهجن الذي يعظ الناس بفضائل العفة وهو لا يملك شيئاً منها، فيدخلون بذلك على قلوبنا قليلاً من السلوى، حتى وإن بدوا في ذلك كمهرجين يرقصون في مقبرة.
دمشق ٧ / ١ / ٢٠١١
* فنان تشكيلي سوري مقيم في فرنسا