افتتاحية موقع الرأي: السقوط المدوّي للاستبداد
لم يكن يخطر ببال محمد البوعزيزي أن عود الثقاب الذي أشعل به جسده الطاهر ، أشعل في الوقت نفسه شمعة الحرية في بلده . وان ما احترق بتأثير تلك الشعلة المقدسة ليس جسم مواطن وروحه فقط ، إنما هيكل الاستبداد ودولة البوليس في تونس أيضاً . رحم الله البوعزيزي ، فقد دخل التاريخ من أبوابه العريضة والناصعة ، وفتح أمام بلاده – وربما المنطقة – تاريخاً جديداً ، طال انتظاره ، وسيكون له ما بعده .
ثلاثة أسابيع لا غير ، ظل النظام القمعي ينازع أمام قبضات الشباب التونسي المرفوعة في وجه الظلم والنهب والتهميش . وفي الأسبوع الرابع رمى أسلحته وهيبته وبجاحته ، وحاول أن يلبس جلد الأفعى . غير أن الزلزال الغاضب الذي فجر الأرض تحت قدميه ، كان أمتن من القابلية للارتداد ، وأقوى من أي قدرة للالتفاف عليه . فمضى إلى النصر بكل تصميم .
شرارة ” سيدي بوزيد ” لم تكن تحتاج إلى لهيب غامر ، لتنتقل عبر البلاد التونسية من البحر إلى الصحراء . فوهج الحرية المتقدة والكرامة المنتفضة والجوع الكافر طار بين صفوف الشعب ، الذي عانى من عقود الاستبداد والاضطهاد الطويلة ، صارخاً في وجه الديكتاتور للرحيل .
إن مجريات الانتفاضة التونسية المنتصرة وجهت رسائل كثيرة لجهات عدة ، مع باكورة هذا العام الجديد . وهي تزخر بالدروس لمن يريد أن يرى سمة العصر الحقيقية ، ولا يعاند التاريخ . ويكتشف سبلاً جديدة للعيش ، لا ينغصها حال القامع والمقموع ، المتخم والجائع ، المستحوذ على كل شيء والمهمش . وأثبتت أن الظلم لا يعمِّر ، وإن عمَّر لا يدوم . وأن الاستقرار الحقيقي في البلاد يكون مع الحريات أو لا يكون .
نعم . . حكت تونس . وقالت كلمتها بلسان عربي قويم : إن التغيير الوطني الديمقراطي السلمي بيد الشعب ولمصلحته ممكن ومطلوب . وأن بناء الأوطان مسؤولية الشعوب أولاً وأخيراً . فالحركة فجَّرها الخريجون العاطلون عن العمل ( البطّالون ) ، وانضمت إليها منذ الساعات الأولى نخبة المحامين والمثقفين ورجال القانون ونشطاء حقوق الإنسان . وسارعت النقابات ممثلة بـ ” الاتحاد العام للشغل ” لدعم هذا التحرك وأخذ مواقعها فيه . وهكذا فعلت بقية فئات الشعب من منظمات المجتمع المدني والقوى السياسية والاجتماعية في مختلف مناطق البلاد . واستنفرت طاقات التونسيين في كل بقاع العالم . وكان حديث السلطة المنهارة عن ” الأصابع الخارجية المحركة ” و ” بعض الملثمين والمغرضين ” اسطوانة مشروخة ودعاية ممجوجة وخرقة بالية لكثرة ما استعملتها السلطات المعادية لشعوبها في محاولة يائسة لسترة العورة .
من المؤكد أن وضعاً جديداً يخلقه الانتصار التونسي في قلب البلاد ، ليشفيها من أمراض الاستبداد وعلله المزمنة ، ومن عواقبه وتداعياته المحتملة . وكذلك من بعض مظاهر التطرف والفوضى التي ترافق عادة التغييرات الدراماتيكية الكبرى كالحدث التونسي . وأن روحاً جديدة يبثها في اوصال المنطقة ، تلفح وجوه العرب الحاكمين والمحكومين في جميع دولهم بإعلان واضح عن الحاجة الوطنية للتغيير ، ودلالة أوضح على الطريق إليه .
وها هي تونس تستعيد خضرتها النضرة من نضارة شبابها ، وتطرد وجه الاستبداد الأصفر وأيدي القمع الملطخة بدم الأبرياء وطغمة الفساد التي نهبت المال العام وقوت الناس .
هنيئاً لمن يشاهد ولادة عصر جديد . .
وطوبى لمن يصنعونه . .
” صحيح الشعوب بنت كلب ولئيمة / وممكن تزيل العروش بثواني (أحمد فؤاد نجم )”
15 / 1 / 2011 هيئة التحرير