عاصم الباشا نحات الهموم العائد إلى الأندلس
* دمشق- عمر الأسعد
كلمة واحدة تغيرت عند نشر قصيدة له دفعته لنشاطه التشكيلي
– ما ينحته يعبر عن واقعنا ولو كان الفرح أكبر لظهر في عمله
– أخذ عن أبيه العناد والعصامية وورث عن أمه «الحضور الغائب»
«كُتب لي أنو أولد على عربةٍ متحركة لم تتوقف حتى الآن، لذلك لاأزال متعطشاً». يردد النحات والكاتب السوري عاصم الباشا 1948، هذه العبارة مرات عدة أثناء الحديث معه، ويضيف: «من لا يتمرد على ما هو قائم، ولد حياً، ويعيش ميتاً». ربما تلخص الجملتان جزءاً كبيراً من حياته، هو المولود في مدينة بيونس أيرس من أب سوري وأم أرجنتينية، هذه الولادة قدمت له أفقاً أوسع، فأخذ العناد والعصامية عن والده المهاجر الذي تعلم القراءة في الكتاتيب بالمقلوب، لأنه لا يملك كتاباً، فكان يقرأ من كتب زملائه عندما يجلس قبالتهم، واستمرت هذه المقدرة لديه حتى بعد إتقانه القراءة باللغتين العربية والإسبانية، أما عن أمه فورث ما يسميه «الحضور الغائب، حتى وأنا في المنزل مع عائلتي أكون حاضراً وغائباً في عملي وما لدي من أفكار».
التحق الباشا في السابعة من عمره بأكاديمية (بويدو)، التي رفضته بدايةً لصغر سنه، وهي المخصصة للكبار فقط، لكن بعد إخضاعه للامتحان لمس أحد أساتذتها موهبة الفتى، فأسرع في قبوله.
عند بلوغه الحادية عشرة، عاد الوالد بالعائلة إلى يبرود (80 كلم شمال دمشق)، هنا تعرف الباشا إلى اللغةِ العربية، التي سيكتب فيها أولى قصائده، وهو في الرابعة عشرة، ثم يمتنع عن كتابة الشعر لأن كلمة واحدة تغيرت عند نشر القصيدة في جريدة (الثقافة)، كما شهدت تلك المرحلة بداية نشاطه التشكيلي، فبدأ بالرسم الزيتي، ثم كان من مؤسسي جمعية أصدقاء الفن في دمشق، وسجل محاولةً روائيةً في السابعة عشرة يقول عنها: «لحسن الحظ أنها أتلفت، فلم تكن تشبهني».
شكل سبتمبر عام 1970، مفترقاً مهماً في حياته، إذ حصل على منحة حكومية للدراسة في معهد سوريكوف للفنون التشكيلية في موسكو، هناك كان طالب واحد فقط من أصل 21 طالبا أجنبيا يستطيع الدخول إلى المعهد، وبعد امتحانين اجتازهما بنجاح، استطاع حجز مقعده: «أوفدت لدراسة التصوير في البداية، لكن أستاذين من الأساتذة الذين أشرفوا على الامتحان نصحوني بدراسة النحت».
اجتاز السنة الأولى بنجاح، لكن سنته الثانية أدخلته في أزمة كبيرة، فلم يستطع مجاراة زملائه القادمين من مدارس فنية مختصة، وهو الذي لم يعرف النحت إلا على بعض الصخور الكلسية في قريته الصغيرة، فدخل غرفته وبكى، واعتزل شهراً من الزمن، إلى أن أعاده أساتذته إلى الكلية، بعد إقناعه أن في نحته روحا تفتقدها منحوتات الآخرين من الطلاب، شهر البكاء هذا لم يمر دون عمل، إذ أنجز فيه روايته الأولى «وبعض من أيامٍ أخر» التي صدرت عام 9841، وفيها سيرةٌ لحياة والده المهاجر وإخفاقاته، التي لمس فيها شبهاً للإخفاقات التي كان يمر بها، ويضيف ضاحكاً: «عاد والدي من أجل الحفاظ على اثنين الدين والوطن، لكن للأسف عندما عاد لم يجد الاثنين معاً».
عام 1977 عاد إلى دمشق، بعد رحلةٍ استطاع فيها التعرف بشكل مباشر إلى مسار الحركة التشكيلية والثقافية في أوروبا، من خلال سفره الدائم بين باريس وموسكو في تلك المرحلة، لكن قبل العودة كان قرار استبعاده عن العاصمة واقعاً، فانتقل لتدريس مادة الرسم في مدينة الحسكة، أقصى الشمال الشرقي لسوريا، بدل أن يلتحق بكلية الفنون الجميلة في دمشق، فقضى هناك سنةً من الزمن ليعود بعدها إلى دمشق، ويقيم فيها معرضين عام 1979، ثم يسافر إلى فرنسا ليحصل على شهادة الدكتوراه التي تخلى عن الحصول عليها، فسافر إلى إسبانيا ثم ليعود إلى سوريا عام 1983.
يعتبر الباشا الفترة التي تلت عودته مرحلة الصداقة والخصوبة، ففيها التقت مجموعة من الشعراء والفنانين والمسرحين والكتاب على ما يصفه «بالحلم»، الذي حمله كل واحد من أفراد المجموعة وترجمته أعمالهم من قصائد بندر عبد الحميد ونزيه أبو عفش ورياض الصالح الحسين، ومسرحيات فواز الساجر وسعد الله ونوس، ولوحات يوسف عبد لكي، وخطوط منير الشعراني، وترجمات صالح علماني عن الأدب اللاتيني الذي شاركه الباشا في كتابين هما «ديوان لرفاييل ألبرتي، ومجموعة من رسائل فان كوخ بعنوان عزيزي ثيو».
لم يستطع النحات المولود على عربة، البقاء ثابتاً مكانه، هكذا قرر عام 1987، أن يسافر ليستقر في إسبانيا حتى اليوم، لكن قبل الرحيل، لا بد من «الوداع»، وهو العنوان الذي اتخذه لمعرضه الأخير في دمشق قبل سفره، المعرض الذي كرسه كواحد من أهم الأسماء في النحت، ويذكر أن المسرحي الراحل سعد الله ونوس وصفه: «هذا ليس معرضاً، هذا حدث». كما يذكر كيف خسر ستة كيلو غرامات من وزنه أثناء الإعداد له، وبعد انتهاء المعرض خرج بربحٍ بسيط وهو (ستة آلاف ليرة سورية أي ما يعادل 120 دولاراً)، يومها ذهب إلى صديقه سعد الله ونوس وقال ممازحاً: «يا سعد سأسافر وأنا سعيد لأني صرت أعرف قيمتي هنا». مشيراً إلى الرقم ستة الذي خسره من وزنه وربحه من المعرض!.
تمتاز أعمال عاصم الباشا باختلال الملامح الآدمية فيها، وهو يرى أن هذا مبرراً لأن: «ما أنحته يعبر عن واقعنا، ولو كان الفرح أكبر لظهر في عملي»، هكذا تأتي مجموعة (خصوبة) ومجموعة (الأقنعة) التي قدمها، كما يعتمد في أعماله على معالجةِ خاماتٍ عدة فهو قدم مجموعة (أشجار فولاذية) كاملةً من المعدن، كما قدم مجموعة (النوافذ المكسورة) التي عبر عن رفضه للعنف من خلالها، لكن يبقى الإنسان كموضوع من أكثر ما شغل أعماله، التي يلاحظ متتبعها قدرتها على إبراز الهوية الحضارية لأبناء المنطقة الممتدة بين وادي النيل وبلاد الرافدين، فتظهر فيها ملامح آرامية ومصرية فرعونية قديمة: «في المنحوتات القديمة لهذه المنطقة اكتشفت قيمةً فنيةً عظيمة، بالذات على صعيد الحركة الداخلية للكتلة وهو ما لا تجده عند باقي الثقافات».
الحركة الداخلية هذه يراها الباشا: «استجابة لشخصية أهالي المنطقة العاطفيين والوجدانيين، والذين تنقصهم البراغماتية والعملية ولا يستخدمون عقولهم بقدر ما يستخدمون عواطفهم، على عكس الإنسان الغربي الذي امتاز بالقدرة على إخراج الحركة من الداخل إلى الخارج، ما ترك لديه فقراً وجدانياً داخلياً».
ولكن ما الحل أمام وجهي المشكلة هذه؟، يجيب ضاحكاً بشيء من المجاز الحالم: «أنا أحلم بالحل، لكني أراه أحياناً بحركة للقشرة الأرضية، تخرج بعدها من رحم المتوسط جزيرة بين أوروبا وشرق المتوسط، ينمو فيها إنسان لا يفقد غناه الداخلي لكنه يفكر أيضاً».
ربما يعود اختياره إسبانيا لتكون مقره الدائم إلى شيء من هذا الحلم، فطالما اختلط فيها التراث العربي بالحضارة الأوروبية، وفيها أيضاً لن يعاني من إشكالية اللغة التي أورثه إياها نصفه الأرجنتيني من ناحية أمه، هكذا استقر في مشغله الغرناطي كناسكٍ، معتزلاً الفوضى والزحام ليختلي مع العمل، هذه العزلة في الستين من العمر: «تجعل الطفل الذي بداخلي أكثر إصغاءً، فأنقلب باحثاً عن حسٍ بفطرة طفولية».
إلى جانب عمله النحتي صدر لعاصم الباشا مجموعتان قصصيتان (رسالة في الأسى 1988) و(باكراً بعد صلاة العشاء 1994)، إضافة إلى مجموعة من الخواطر سماها (يوميات المشغل) قدم فيها تجربةً فريدة عن عمله وحياته النحتية، وحازت على جائزة ابن بطوطة لليوميات، وصدرت بعنوان (الشامي الأخير في غرناطة).
يقر الباشا أن هذه النصوص لم تكن معدة للنشر، وعندما نشرها رأى بعض الأصدقاء أن يحذف شيئاً منها، لكن ما الذي حذف؟ «حذفت بعضاً من رؤيتي للواقع العربي». وكيف ترى الواقع الذي حذفته من كتاباتك؟، «يذكرني بدول الطوائف التي أضاعت الأندلس».
هذا الواقع، وماذا عن المستقبل؟، يضحك ساخراً: «أنا شخصياً لا أستطيع أن أرى المستقبل جميلاً، ربما أترك هذا للآخرين أو لجيلٍ قادم».