في الذكرى السنوية الأولى لرحيل الأممي السوري سهيل راغب
الدكتور قصي غريب
كان سهيل راغب من أهم الشخصيات الماركسية اللينينية من الجيل الثاني في مدينة الحسكة السورية، وعلماً شامخاً من أعلامها، فهو في مقدمة من دعوا الى الماركسية اللينينية في المدينة بأسلوب منهجي ونكهة علمية، وقد جند حياته وكرسها من أجل نشرها والدفاع عنها، ومن هذا المنطلق فانه يعد كبير دعاتها وفارسها الأول، كما انه من المناضلين السوريين من أجل أن تسود العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية في البلاد، ولهذه الأهمية تدعو الضرورة والواجب في الذكرى السنوية الأولى لرحيله الى تبيان جوانب وملامح هذه الشخصية المتميزة، لأنها ذات قيمة لا يمكن أن يتجاهلها المثقفون والمهتمون بالشأن السياسي في مدينة الحسكة،- وعلى اختلاف توجهاتهم- فضلاً عن صلة هذا بتاريخ الحراك الفكري والسياسي في المدينة الذي هو جزء لا يتجزأ من تاريخ الحراك الفكري والسياسي في سورية.
ولد سهيل راغب في العام 1952 في مدينة الحسكة-حي غويران وهو أقدم أحياء المدينة الايثارية والهامشية والمهمشة الى حد صارخ ومفجع ومنذ استقلال سورية والى اليوم لأسرة عربية كريمة المحتد كادحة. فوالده راغب الحسني من المناضلين الشيوعيين الرواد في مدينة الحسكة ومنطقة الجزيرة، وقد كان عضو منطقية الجزيرة للحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي بقيادة رياض الترك، ونتيجة لهذا الانتماء تعرض للملاحقة والاعتقال والطرد من عمله الوظيفي في مديرية التربية والتعليم بالحسكة في العام 1958، مما اضطره لبيع جزء من مكتبته القيمة لتأمين لقمة العيش الكريمة لأسرته، وقد قام سهيل فيما بعد بشرائها من المكتبة التي بيعت لها.
ودرس الابتدائية في مدرستي فاطمة الزهراء وبور سعيد والاعدادية في اعدادية الثورة والثانوية في ثانوية أبي ذر الغفاري في مدينة الحسكة ثم انتسب الى جامعة دمشق كلية الحقوق ووصل الى المرحلة الرابعة، وكان متعدد المواهب فهو رسام اذ أن كل صور ماركس وانجلز ولينين وجيفارا وغسان كنفاني والمطرقة والمنجل شعار الشيوعيين المعلقة على جدران غرفته كانت من رسمه حتى اننا تعلمنا منه رسم صورة جيفارا بطريقة المربعات، وهو أيضاً خطاط فخطه الجميل كان على دفاترنا وكتبنا المدرسية ففي بداية كل عام كان يكتب لنا أسماءنا ومراحلنا الدراسية وأسماء مدارسنا وكان يخط على قمصان الفرق الشعبية اسم الفريق وأرقام اللاعبين ومنها فريقه الاهلي، وهو كاتب قصة قصيرة، فله اقصوصة منشورة في مجلة الهدف أو الحرية الفلسطينيتين، وأرجح انه نشرها في مجلة الهدف وقد كتبها باسم مستعار واعتقد كان الشيخ المنذر وفحوى تلك الاقصوصة يتمثل في البحث عن حياة أفضل، وكذلك هو قائد رياضي شعبي فقد كان رئيساً للفريق الأهلي لكرة القدم ففي نهاية الستينات وبداية السبعينات انتشرت في مدينة الحسكة وخاصة في منطقة غويران الفرق الكروية الشعبية وقد أخذت هذه الفرق صفة سياسية فكانت فرق مثل الترسانة والتحرير والأخوة ذات مسحة قومية على حين كان الفريق الأهلي ذو القمصان الحمر يطلق عليه فريق الشيوعيين، وكان أعضاء الفريق يتمتعون بأخلاق رياضية عالية اذ انهم لم يدخلوا أبداً في خصام وعراك مع لاعبي الفرق الاخر وعادة ما يحصل هذا بين الفرق الشعبية اثر كل مباراة وفي ظل المتغيرات السياسية التي حصلت في سورية استمرت هذه الفرق بتسميات اخر، فالتحرير انقلب الى الشباب والأخوة الى التقدم، وأشار علي سهيل بأن أطلق على فريق كرة القدم الذي قمنا بتأسيسه فيما بعد تسمية فريق الصداقة وربما كان بشكل غير مباشر يريد استمرار فريقه الأهلي، على الرغم من أن فريقنا الجديد كان بلا ملامح سياسية وهذه الفرق الشعبية كان أبرز لاعبيها قد انخرطوا في نادي الشباب العربي الذي ادمج فيما بعد بنادي الجزيرة الذي يلعب اليوم في دوري المحترفين في سورية….
وكان سهيل معلماً جليلاً لا يعوض لجيل كامل من شباب المدينة، فعلى الرغم من أنني عروبي النشأة والتوجه، الا أنني مثل غيري كنت أتردد باستمرار على المدرسة الماركسية اللينينية التي كان يديرها بكفاءة واقتدار، لانهل منها معرفة وثقافة، وقد خرجت هذه المدرسة الكثير من الماركسيين اللينينيين وغيرهم في مدينة الحسكة، ففي ظلال هذه المدرسة الأصيلة ارتشفت الكأس الاولى من ينابيع المعرفة والثقافة التي كانت بدايات تفتح الوعي الأول الذي شهد الخطوات الأولى الى الدخول في عالم الثقافة والسياسة، فمن الكتب الأولى التي قرأتها وأحببتها وأثرت في ديوان محمود درويش وقصيدة بطاقة هوية-وكم ألقيتها أمامه–وقصة حياة لينين، وتعرفت على شخصيات مهمة مثل: ماركس وانجلز ولينين وتروتسكي وستالين وماو وهوشي منه وخوجة وغاندي ونهرو وتيتو وسوكارنو وجيفارا وكاسترو وعبد الناصر وعرفات وحبش وقاسملو ولوكاش وغرامشي وجارودي ودوبريه والأوروشيوعية-كاريللو وبرلينغوير ومارشيه-ورياض الترك وخالد بكداش ويوسف سلمان–فهد–وفرج الله الحلو والكواكبي والحصري وزريق وتولستوي وديستوفسكي وغوركي وتشيخوف والمنفلوطي وقاسم أمين وطه حسين وسلامة موسى ومحمد عبد الحليم عبدالله ونجيب محفوظ ويوسف السباعي واحسان عبد القدوس وعبد الرحمن منيف وحنا مينة وسعدالله ونوس ومحمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم ومظفر النواب ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب وسعدي يوسف وأحمد فؤاد نجم وجكرخوين ومارسيل خليفة وسيد امام وشفان وعرفت–دون فهم كاف–مفاهيم مثل:الاشتراكية والرأسمالية والاقطاعية والبروليتارية والبروليتارية الرثة والبرجوازية والارستقراطية والبيان الشيوعي ورأس المال وفائض القيمة والأممية الأولى والأممية الثانية، وعرفت منه تاريخ ثورة اكتوبر بقيادة لينين وتاريخ الحزب الشيوعي السوري، وكيف انشق في بداية السبعينات الى كتلتين؛ كتلة يقودها خالد بكداش وقد وقف معها الاتحاد السوفيتي، واخرى يقودها رياض الترك–وكم حببني بهذه الشخصية–وكان سبب الخلاف على ما يسمى مشروع البرنامج السياسي للحزب الشيوعي السوري، وكذلك عرفت منه قيادات الحزب مثل:أحمد الفواز ويوسف نمر وبدر الطويل وعمر قشاش وموريس صليبي ويوسف فيصل وواصل فيصل وظهير عبد الصمد ودانيال نعمة وابراهيم بكري، وعرفني أيضاً على رابطة العمل الشيوعي–حزب العمل الشيوعي وقائدها فاتح جاموس، وآخر ما عرفني عليه قبل خروجي من الوطن كتاب النزعات المادية لحسين مروة ولذلك كان من أثر ذلك على تكويني الفكري والود والوفاء للمعلم سهيل راغب عندما بدأت أسس مكتبة شخصية بعيداً عن الديار، كان أول ما اقتنيت دواوين محمود درويش وقصة حياة لينين ومختارات من الأعمال الكاملة لماركس ولينين، ولكن الى الآن لم أفلح بالحصول على نسخة أصلية للنزعات المادية.
عمل سهيل في نهاية السبعينات موظفاً في مؤسسة الاسكان العسكري بدمشق، وفي هذه المرحلة عاش مع أنور العليوي –قومي- وصبحي حديدي –ماركسي- ثم انتقل فيما بعد الى مدينة الحسكة ليعمل بالمؤسسة نفسها حتى سرح منها أمنياً ولكن عاد الى عمله لينتقل الى المصرف الزراعي ليعمل مديراً لقسم المعلوماتية حتى وفاته في 3 كانون الأول 2009 وقد عرف عنه نظافة اليد في عمله الوظيفي وهذا أصبح في سورية استثناء وميزة وعلامة فارقة في هذا الزمن الصعب الذي انقلبت فيه المفاهيم والأمور والأوضاع والقيم رأساً على عقب، اذ”صار الفسوق نسباً والعفاف عجباً”فقد ورد في نعي القيادة المركزية لتجمع اليسار الماركسي في سورية–تيم-الذي كان سهيل عضواً مؤسساً له:”تميز سهيل بأخلاقه الحسنة وبنظافة الكف في عمله الوظيفي”وقال فيه صديقه فيصل العليوي:”نعم كنت مثالاً للعفة والنظافة نظافة اليد والروح والجسد…ورغم كل المغريات بالوظيفة-العمل بالمصرف الزراعي-أمنت وأقسمت ألا يأكل أولادك قرش حرام-تلك حالة طبيعية اليوم أصبحت من مزايا الرجل الصالح-…هل تذكر حين كنت تقول لي:أستغرب من هؤلاء المرتشين والمختلسين كيف يركض أحدهم بولده الى المشفى لو كواه عود كبريت وفي الوقت نفسه يطعمه النار كل يوم من مال الحرام…تلك المفارقة يا صديقي بين أنت وهم هي من جعلت تلك الحشود تقول رحمك الله أبا نوار يا أبيض من الثلج”وقال شقيقه سفيان راغب:”عرف عنه نظافة الكف والأخلاق الحميدة والمعاملة الحسنة كان همه الوحيد تحرر المجتمع من الفساد والفاسدين والعيش الهنيء”.
اعتنق سهيل الماركسية اللينينية منذ نعومة أظافره وانخرط في عالم السياسة منتسباً الى التنظيمات الشيوعية-وهو لما يزل يافعاً- فانتسب الى الحزب الشيوعي السوري في العام 1970. وبما أن بوصلة سهيل دقيقة فنتيجة للخلافات التي حصلت في الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي بعد المؤتمر الخامس في كانون الأول 1978 وقف الى جانب ما يسمى تنظيم اتحاد الشيوعيين ثم عاد مع أغلبية هذا التنظيم الى الحزب الشيوعي–المكتب السياسي، وكان له دور رئيس في اعادة بناء منظمتي الجزيرة وديرالزور وأصبح منذ العام 1989 وحتى العام 2005 سكرتيراً لمنظمة الجزيرة، ثم عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي للمدة 1993-2005 وممثلاً للحزب في فرع الجزيرة للتجمع الوطني الديمقراطي، وفي حزيران العام 2006 أصبح عضواً في لجنة التنسيق للحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي وظل عضواً بها حتى وفاته وفي 20 نيسان 2007 حضر جلسة التوقيع على الوثيقة التأسيسية لتجمع اليسار الماركسي في سورية-تيم-وكان ممثلاً للحزب في حوارات 2008-2009 الهادفة الى تشكيل التيار الوطني الديمقراطي-الخط الثالث، وعضواً في لجنة الحوار بين الحزب الشيوعي-المكتب السياسي وحزب العمل الشيوعي. وكان سهيل والكثير من رفاقه وفي مقدمتهم الأمين العام رياض الترك ومحمد سيد رصاص على خلاف مع قيادة الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي التي تسلمت القيادة اثر اعتقالات العام 1980 وقد اصطدم معها الأمين العام رياض الترك منذ خروجه من السجن في 30 ايار 1998 وحتى اعتقاله في أيلول 2001“بسسب توجهها للتخلي عن الماركسية كأيديولوجية وجعل الحزب حزباً برنامجياً يتحدد من خلال برنامجه وليس عبر توجهه الفكري-المعرفي السياسي الذي ينتج عن منهج معرفي رؤية وبرنامجاً سياسيين لمكان وزمان مخصوصين”وقد أبدى سهيل لرفيقه الرصاص مخاوفه من محاولة هؤلاء عقد مؤتمر للحزب في غياب الأمين العام رياض الترك من أجل تمرير ما يريدون وقد راهن الاثنان على الأمين العام لأنه الذي يؤم القوم وشعرا بالأمل عندما خرج من المعتقل في منتصف تشرين الثاني 2002 وقد استمر هذا الآمل شهوراً قبل أن يتلاشى بعد أن ظهر متوانياً ومستكيناً لهم فاستطاعت هذه القيادة المغامرة من التشويش عليه واقناعه بتبني وجهة نظرها بالتخلي عن الأيديولوجية الماركسية التي أفنى عمره تحت رايتها واتباع الأيديولوجية الليبرالية ورفع رايتها، ومما أسهم في ذلك الانقلاب الجذري له احتلال العراق ورحلته الى الغرب في خريف 2003 وفي هذه الرحلة قد فت في عضده ورزح بعد أن لفحته رياح الغرب الباردة فدارت رأسه ونكص على عقبيه، فاستبدل ماركس وانجلز بآدم وريكاردو ولينين ببرلسكوني وسوسولوف بفوكوياما وعاد الى الوطن منتشياً وهو يرتدي رداء فكرياً جديداً يتناقض مع ردائه الفكري السابق الذي دفع من أجله ثمناً باهضاً من حريته التي كانت تؤهله ليكون للمعارضة بيضة البلد معلناً أن الماركسية لم تعد ملائمة لملاقاة رياح التغيير التي ستهب على سورية، ولذلك يجب أن تكون هناك ايديولوجية اخرى .وهنا يكون قد”فعل فعل السادات وفر فرارالعبيد”فرفع شعار”الليبرالية هي الحل”تماشياً مع ما أعلنه المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ عن انتصار وسيادة الليبرالية كنظام سياسي واقتصادي على الصعيد العالمي، وعلى العالم أن يسلم بهذا النظام السياسي فتحت زعم التكيف مع رياح المتغيرات الدولية الجديدة والتجديد تبنوا الليبرالية أو ما أطلقوا عليه تسمية )البرنامجية(. على حين كان محور أدبياتهم في الماضي قائماً على التأكيد على الصراع السياسي والاقتصادي والايديولوجي الحاد بين الاشتراكية والرأسمالية وبين الطبقة العاملة والبرجوازية، وعلى انزال الضربات بالرأسمالية والاجهاز عليها. وكانوا لا يربطون قضية الاشتراكية الا بقضية التحرر من الاقطاعية والرأسمالية ومن الامبريالية والاستعمار الجديد ويناضلون من أجل اسقاط النظام الرأسمالي الامبريالي وبناء النظام الاشتراكي ولكنهم أصبحوا اليوم لسان حال الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية بامتياز. ومثلما كانوا متطرفين ومتحمسين للماركسية اللينينية كنظام سياسي واقتصادي لأنها البديل الوحيد عن النظام الديمقراطي الليبرالي أصبحوا اليوم متحمسين ويزعقون بملء حناجرهم بحيث ينقطع منهم النفس للديمقراطية الليبرالية البرجوازية كنظام سياسي واقتصادي، هذا السلوك المتناقض والمتذبذب أو عدم الاستقرار الايديولوجي كان لينين قد شخصه بأن مثل هؤلاء تعلموا وعن ظهر قلب حفظ الشعارات أكثر بكثير من التأمل فيها ويكررون كالببغاء كلمات حفظوها عن ظهر قلب من دون ان يفهموها لانهم مصابون بداء الافراط بالثورية الا أنهم غير قادرين على أن يبدو الثبات والصمود فمن السهل جداً أن يظهر المرء ثوريته عن طريق الشتائم وحدها في حين الاستمرار بالثورية والسير بها حتى النهاية سيكون صعباً ولذلك قال فيهم لينين:انهم“يمثلون انموذج الثوريين الأردياء الهزلاء”لانه تسيطر على عقولهم روح المغامرة والميول الانتهازية، ويتمتعون بضيق الأفق السياسي لأنهم غير مستقرين أيديولوجياً وغير منسجمين مع أنفسهم من حيث احترام المبادئ وتقدير الثوابت، فهؤلاء الذين أمطرونا بتبجح على مدى سنوات طويلة بمفاهيم التفسير الاقتصادي للتاريخ والحضارات والطبقات الاجتماعية والعمل وقيمته والاستغلال وخلق طبقة البروليتارية وفائض القيمة وتراكم المال وعهد دكتاتورية البروليتارية وذبول الدولة ثم زوالها وفجأة تخلوا عن النظرة الطبقية والموقف الأممي وأداروا ظهورهم للماركسية اللينينية ومبادئ الاممية البروليتارية بحجة حقيقة المتغيرات الدولية الجديدة وضرورة مواكبة العصر والحداثة والعولمة والواقعية السياسية والبراجماتية والعملية، ولكن في المعايير القيمية الانسانية وحتى في السياسة لا يمكن أن يسمى الوصولي والانتهازي سياسياً، فالسياسة بغير ايمان دجل وعدمية، لأن أهم ما يقاس به الفرد والأسرة والمدرسة والتنظيم والمجتمع والدولة والمدنية والحضارة والدين هو مقدار ما يتضمن كل منها من قيم خلقية وهذه القيم هي الأساس الرئيس للحياة البشرية، فالسياسة لا تعني أبداً التخلي عن الأخلاق والمبادئ، لأن أبرز ما يميز العلم السياسي انه علم تقييمي معياري فغايته هي التهيئة للمواطنة الصالحة لخدمة المصلحة العامة، ويمثل السلوك الذرائعي في الثقافة السورية-التي تستند الى القيم العربية الاسلامية-الروح الانتهازية المرفوضة اجتماعياً أما في الثقافة الماركسية اللينينية فتمثل الميول الانتهازية والتحريفية اليمينية لأنه انزلاق الى مواقع البرجوازية الصغيرة وتخل عن الموقف الطبقي وتكريس ظاهرة الليبرالية، ولذلك فان واقعيتهم السياسية وذرائعيتهم أو تكيفهم هي ضرب من الانتهازية الفجة التي تصل الى حد الابتذال والرثاثة في السياسة بل انها خروج واستقالة من السياسة.
لقد لجأ هؤلاء بوجل وسحر الى استحضار أرواح الماضي لتخدم مقاصدهم-كما يذهب ماركس-فمحاولة اعادة تجربة الأوروشيوعية الى الحياة في سورية والتي قامت في اسبانيا بقيادة كاريللو وفي ايطاليا بقيادة برلينغوير وفي فرنسا بقيادة مارشيه وأثبتت مكانتها وحيويتها خاصة اتجاه معرفة أوضاع بلدانها، هو السير الى الوراء لأنهم بجهل فاضح يخلطون الماضي بالحاضر ويضربون بعرض الحائط بتاريخية منطق الأفكار والتجارب، فتجربة الأوروشيوعية كانت تجربة تاريخية وفريدة في وقتها ومقيدة بزمانها وأوضاعها ولا تتكرر، فالتاريخ لا يعيد نفسه لأن لكل حدث تاريخي أوضاعه وملابساته وأسبابه وفرادته، ومن منطلق ماركسي فان جميع الأحداث والشخصيات العظيمة في تاريخ العالم تظهر بالمرة الثانية كمسخرة، وبسلوكهم هذا فهم يعملون على أن يرجع التاريخ القهقرى ويسير دولاب التطور الى الوراء، مع أن التاريخ في حركة سائرة دوماً الى الامام فتجربة الأوروشيوعية كانت استثناء وليس قاعدة.
وبسبب الانحراف الذي حصل استمر الخلاف بين سهيل ومعه رفيقه الرصاص ومن معهم من الرفاق مع قيادة الحزب المتلبرلة ومعهم الأمين العام رياض الترك، ومع ذلك بقي سهيل على قناعة تامة بان النضال من داخل الحزب هو أفضل السبل والوسائل لمقاومة هذا الاتجاه، ولكنه أصيب باليأس بعد أن عقد مؤتمر للحزب وبدل اسمه الى حزب الشعب، فضلاً عن تلقيه التهديد من أحد القياديين عندما ترشح لعضوية اللجنة المركزية-يبدو لي هنا انه ليس فقط في أدبيات العلاقات الدولية هناك ما يسمى(دول زقاقية وقيادات زقاقية)انما هنالك في أدبيات الأحزاب السياسية أيضاً “أحزاب زقاقية وقيادات زقاقية”- فضلاً عن عقدهم مؤتمراً لمنظمة الجزيرة الذي يعد سكرتيراً لها من دون علمه وتفاقمت الخلافات بينه وبينهم أكثر وخاصة بعد ان نشر مقالاً في بداية العام 2006 ينتقد فيه“اعلان العشائر والطوائف”المسمى )اعلان دمشق( وعلى اثر ذلك ومنذ حزيران 2006 شارك في تجربة لجنة التنسيق للحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي وعلى الرغم من الخلاف لم يستطع الأمين العام المستلب ومعه قيادته التي خلعت ثوبها الماركسي وارتدت ثوب آخر مختلفاً غير محتشم، كانت تشكك فيه وتقول فيه أنه قاب قوسين أو أدنى من الانقراض من قتل سهيل بفأس كما حصل لتروتسكي أو تصفيته بدم بارد كما كان يحصل عادة في أثناء كل مؤتمر يعقد للرفاق الذين كانوا يحكمون جنوب اليمن أو اتهامه بالخيانة واعدامه كما حصل لبيريه أو سوقه الى المشنقة بتهمة الخيانة العظمى أو العمل لصالح العدو كما سيق كليمانس، أو أن يمارس عليه القمع الحزبي الداخلي واجباره الى الاذعان وتقديم نقد وجلد ذاتي يقوم على ادانة نفسه وشجب سلوكه التكتلي والانقسامي والبرجوازي الصغير لعدم تشربه بالقيم البروليتارية، كما حصل مع فرج الله الحلو وعامر عبدالله وزكي خيري فأكثر ما حصل لسهيل انه ظهرت ميول الانتقام وتصفية الحسابات معه عندما توفي، فالأمين العام رياض الترك ثنى صدره ولم يحضر جنازته ولم يرسل كلمة عزاء فيه مثلما يقتضي الواجب الرفاقي والأخلاقي والانساني والعلاقة النضالية والاجتماعية الشخصية التي كانت تربط الاثنين مع انه:”لايحمل الحقد من تعلو به الرتب ولا ينال العلى من طبعه الغضب”ولينين يقول:”الحقد موجه سيء للسياسة”.
وكان سهيل قد اهتدى الى الماركسية اللينينية الصحيحة بعد أن مر بمرحلتين؛ في المرحلة الاولى لم ينخرط في النضال الشيوعي لاعتبارات فكرية بل انتمى اليه عاطفياً بحكم التربية الأسرية، فوالده راغب الحسني كان شيوعياً ولاحساسه الفطري بالظلم والقهر الاجتماعي والرغبة في تحقيق العدالة والمساواة بين الناس، وكانت قراءته في هذه المرحلة قراءة سطحية وبسيطة من دون فهم كاف لتعاليمها، اذ لم يكن مهيأ لاستيعاب المبادئ الأساسية للماركسية اللينينية والمرحلة الاخرى كان فيها ناضجاً وواعياً ومهيئاً للفهم، فانصرف الى قراءة المبادئ الأساسية للماركسية اللينينية بعمق وفهم أكثر من أجل الاستيعاب، فالقراءة في هذه المرحلة لم تكن سطحية كسابقتها، وكان من فائدة هذه القراءة العميقة والرصينة عليه انه قد تماهى مع الفكر الماركسي اللينيني، ولذلك فان قناعاته بالماركسية اللينينية في ظل الانهيارات والانكسارات التي حصلت للاشتراكية في ظل المتغيرات الدولية الجديدة لم تتعرض للاهتزاز، لانه ظل مقتنعاً بها كمنهج حياة وأداة تحليل، ولم يمارس البهلوانية الأيديولوجية، وظل شيوعياً وثورياً، على عكس بعض الأسماء الكبيرة من رفاقه التي كانت سمعتها السياسية أكبر من حجمها الطبيعي، اذ سرعان ما نفضت يدها من الماركسية والاشتراكية وسارت في متاهات مظلمة ومارست سياسات خاطئة ومغامرة كانت تأثيراتها سلبية ليس على الحركة الشيوعية السورية فقط، ولكن على الحراك السياسي للمعارضة الوطنية السورية برمته. ومن الجدير بالاشارة هنا ان الصراع الذي حصل بين سهيل والكثير من رفاقه مع ما يسمى (بالبرنامجيين) في الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي بقيادة الترك لم يكن صراعاً بين محافظين وتجديديين بقدر ما كان بين متمسكين بالماركسية اللينينية من دون جمود عقائدي مع متحولين الى الايديولوجية الليبرالية.
ان قراءة سهيل الماركسية قراءة معمقة وهضم وتمثل منهجها الجدلي قد ساعدته في تحليل الواقع المحيط ومشكلاته بعد أن درسه بشكل معمق ورصين فانعكس على سلوكه وبما أن الماركسية تعنى بدراسة الظواهر وتحليل الأوضاع ونقدها على حد تعبير ماركس فقد استفاد كثيراً من المنهج الماركسي لأن الماركسية أداة مهمة للتحليل ولأنه جمع بين الثقافة والسياسة فقد حلل واقع المجتمع السوري ومجتمع مدينة الحسكة ومنطقة الجزيرة تاريخياً وقومياً ودينياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وحضارياً وجهوياً ونفسياً ولكفاءته وقدرته استوعب وفهم هذا الواقع وأخذه بنظر الاعتبار وأصبح أكثر معرفة بخصائص المجتمع السوري عامة وخصائص مجتمع مدينة الحسكة ومنطقة الجزيرة خاصة وآمن بانه لا يمكن تحت أي مبرر أو ذريعة مهما كانت مصادرة هذه التنوع فكان متماهياً مع ماركسيته الأممية والانسانية التي آمن بها فاحترم كل الأمم والأديان والطبقات فخط الأخلاق كان يسير الى جانب قناعاته الفكرية، فهو يمارس السياسة بوحي من ضميره الانساني، أي بنكهة أخلاقية، فالجانب الأخلاقي والانساني له مكانة مهمة لديه، ويعود ذلك الى تربيته العائلية وتكوينه الشخصي القائم على الاعتزاز بالنفس واحترام الآخرالمختلف، فعلى الرغم من أن سهيل عربي بالانتساب الا أنه متمسك وبشدة بان الانسان هو القيمة الأساس من منطلق قول ماركس:”الانسان هو أثمن رأسمال”فكان على مسافة واحدة من كل الأمم والأديان والطبقات، فهو لا يميز البشر أبداً على أساس قومي أو ديني أو اجتماعي، فعلى الرغم من أن سهيل منحاز الى الايديولوجية الماركسية اللينينية الا أنه قد أجاد في التعامل مع الآخر المختلف من أبناء وطنه وشعبه، وعن هذه الاستثنائية قال فيه صديقه حسين عيسو:”توقف ذلك القلب الكبير بالحب الذي شمل الجميع بعيداً عن الاثنية أو الطائفية لقد أحب قلبه الكل السوري دون تفرقة”وقال صديقه فيصل العليوي:”أيها الماركسي المسلم المسيحي العربي الأشوري الكردي الأرمني أيها المثلث المتساوي الأضلاع”وقال رفيقه عماد يوسف:”لاشك بان عدد الشرفاء في هذا العالم يتناقص في خضم التناقضات الهمجية والصراعات التي يعيشها عالم اليوم، ليتبين لنا حجم الخسارة التي تصيبنا عندما نفقد أحد هؤلاء القلائل الذين ينظرون الى العالم والناس بعين صافية وقلب ناصع البياض، أولئك الذين رسموا دروباً بحدودها وآفاقها فوق طبائع البشر وتقاليدهم واهتماماتهم وتطلعاتهم البسيطة، حاولوا وان أفلحوا أم لم يفلحوا، فيكفيهم شرف المحاولة هؤلاء هم مختلفون أعمالهم صافية كما الغدير الرقراق في يوم ربيعي مشمس، والزهور تنتشر على جوانبه، هكذا كان سهيل المدلجي رقراقاً صافياً مثل جداول الجبال”وقال أخوه وصديقه قصي غريب:”لقد رحل الأممي العذب المنتمي بشفافية الى كل الأمم والأديان والطبقات وكان على مسافة واحدة منها على الرغم من وفائه لانتمائه وايمانه العميق به لقد رحل فارس الماركسية اللينينية في مدينة الحسكة”ويبدو أن سهيل كان وفياً لانتمائاته المتداخلة والمتصالحة على احترام الانسان كقيمة عليا، وهي الانتماء الوطني السوري والانتماء العربي والانتماء الاممي الانساني، وكان وفياً أيضاً للفكر الماركسي اللينيني الذي آمن به وقدم الكثير في سبيله ولكنه في الوقت نفسه بقي منفتحاً على التيارات السياسية الآخر مع تمسكه الشديد بايديولوجيته ولكن من دون تعصب أو انغلاق حتى لو حاور واختلف مع الآخر ولذلك أصبح عضواً في لجنة التنسيق للحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي وكان ممثلاً له في حوارات 2008-2009 الهادفة الى تشكيل التيار الوطني الديمقراطي وعضواً في لجنة الحوار بين الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي وحزب العمل الشيوعي، وقد قال فيه رفيقه وصديقه محمد سيد رصاص:”كانت مشاركته في عمل اللجنة ومهاماتها ديناميكية ومتميزة وتتصف بالدقة التي تميز من خبر وتعلم التنظيم في الحزب الشيوعي الا أن هذا لم يؤد به كما بالكثير من الشيوعيين الى القوقعة التنظيمية والتعالي على غير الشيوعيين، بل كان منفتحاً على العديد من القوى السياسية ويتعامل معها بسلاسة ولكن بمبدئية، مما جعله محترماً من الآخرين حتى من الذين يختلف معهم”وقال صديقه المختلف معه دائماً حسين عيسو:”كان سهيل صديقاً ورفيقاً لكل من عرفه على الرغم من الاختلاف في الرأي والرؤية …لقد كنت من أكثر المختلفين مع سهيل في الرأي ورغم الاختلاف ما انقطع حبل الود بيننا يوماً بل كان يزداد قوة”وقال صديقه فيصل العليوي:”أيها الابتسامة الودودة رغم اختلاف وجهات النظر واختلاف التفاسير”وقال صديقه غريغوار مرشو:”عرفتك ناشطاً ومناضلاً ولكن بعقل وقاد ومتفهم في تواصلاتك وحوارتك كنت تحرص على نسج أواصر المحبة ما بين الذين يتطلعون الى غد مشرق للبلاد التواقة الى الحرية والعدالة والمساواة، كنت شمعة تزداد اشعاعاً لتلاقح الشموع الاخر بأمل تبديد ظلمات التجهيل وتحطيم أغلال القهر والتفقير من أجل ان يستعيد الانسان كامل عافيته بالكرامة والشجاعة والاقدام”وبهذا فان سهيل كان واسع الأفق والصدر حليم يواجه حل التحديات الفكرية والسياسية بالكلمة الطيبة والحوار على الرغم من الاختلاف في وجهات النظر ليخلق حالة من التفاعل والتلاقي .
كما أن فهم واستيعاب سهيل للماركسية اللينينية الصحيحة جعلت منه مهتماً بالقضايا الوطنية والعربية والأممية فكان مهتماً جداً بالهم الوطني السوري بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية فهو مهتم بعدم التوزيع العادل للسلطة والثروة وتكافؤ الفرص، وظاهرة الفقر والبطالة والفساد وتفشي الامية وانقسام المجتمع بين وطنيين شرفاء غيورين على المصلحة الوطنية وعلى المال العام، وفاسدين سراق وبين محرومين ومتخومين، كما أنه في ضلالة انتشار ادعاء ارتداء موضة رداء الليبرالية كان قلقاً جداً من استفحال العنصرية والطائفية والمذهبية والجهوية واتخاذها أبعاداً سياسية خطرة وخاصة بعد أن دخل مدعو اليسار والتقدم في اصطفافاتها واستمرأوها ولم يكونوا بعيدين عنها اذ أنهم عادوا الى هوياتهم الفرعية والثانوية الضيقة وبتعصب مبتذل ورث، بعد أن غلفوها ردحاً طويلاً بالماركسية واليسار والتقدمية، وان سلوكهم الرث والمبتذل هذا لا ينسجم أبداً مع الماركسية الأصيلة ولا حتى مع الروح الوطنية الصحيحة التي تفرض على السياسي أوالمثقف وحتى المهتم بالشأن العام الوطني، واجب أن يكون على مسافة واحدة من كل أبناء والوطن والشعب مهما كان انتماؤهم، وكذلك كان مهتماً بالشأن العربي، فعلى الرغم من أن هناك تهميش وابتعاداً واضحاً وقصوراً متعمداً وغض طرف مع سبق الاصرار من قبل الكثير من الماركسيين السوريين عن المسألة القومية العربية وقضاياها الحيوية اذ لم تنل منهم العناية الكافية ولم ينشغلوا بهذا الجانب المهم من التكوين الثقافي والنفسي العربي، بعد أن أخذوا بتفسيرات أيديولوجية ضيقة تنم عن عقلية سطحية وساذجة، فعاكسوا التوجه والاتجاه العربي بتقديم الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والأممية على الوطنية والعربية بناءً على أساس أنهم مناضلون أمميون، بل نظروا نظرة شعوبية عدائية الى القومية العربية والقوميين العرب ولصقوا بهم تهمة الانتماء الى البرجوازية الصغيرة بعكس نظرتهم الى القوميات الصغيرة الآخر في سورية التي وقفوا معها وساندوها وشجعوها الى درجة الابتذال، كما انهم لم يميزوا بين الانتماء العربي وهو شعور وحس فطري ووجداني وبين العروبة السياسية التي هي مشروع أيديولوجي لأحزاب وحركات وأفراد ولكن سهيل ومعه البعض من الماركسيين السوريين وعلى خلاف هذا الموقف الجاهل وغير المسئول قد اهتموا بالقضايا العربية من منطلق أن العرب ما يزالون يعيشون مرحلة التحرر الوطني والقومي، لذلك لم يغض الطرف عن الصراع العربي الاسرائيلي وكان مهتماً ومنشغلاً جداً بالقضية الفلسطينية وهمومها ومستجداتها وكان وراء الاهتمام والانشغال بها من قبل الشيوعيين وغيرهم في مدينة الحسكة وجعلها محل اهتمامهم الأول بعد أن قدموها وجعلوا لها الأفضلية على الاجتماعي والوطني والأممي فضلاً عن ذلك اهتمامه وتأيده لكل حركات التحرر الوطنية في العالم ونصرته للشعوب والامم في حق تقرير مصيرها من منطلق أمميته الصحيحة.
كما امتاز سهيل بانه أكثر ثباتاً وهدوءاً وفعالية فكان قمة شامخة فيها العلو وفيها الثبات فهو كبير لا يخطئ الوجهة فقد كانت بوصلته بالاتجاه الصحيح لاعتقاده ان الماركسية اللينينية أكبر وأوسع وأعمق من اخفاق تجربة أو فشل ممارسة او تعثر مسار فالماركسية لديه بحكم طبيعتها الحيوية وآلياتها كنظرية وكونها أداة للتحليل كان بامكانها تجاوز أخطاء التطبيقات واخفاق الممارسة فبعد انهيار النظم الاشتراكية في أوربة الشرقية وانهيار الاتحاد السوفياتي لم يسلم بفكرة هزيمة الاشتراكية والماركسية اللينينية مقابل انتصار الرأسمالية والليبرالية المطلق، فالانهيارت والانكسارات التي أصابت الاشتراكية في ظل المتغيرات الدولية الجديدة لم تدفعه الى اهتزاز القناعات فهو لم ينكسر أو يفت في عضده أو يستكين مثلما حصل للبعض بل بقي يمارس العمل السياسي انطلاقاً من قناعاته الفكرية الماركسية اللينينية وموقفه الاخلاقي لأنه قد قرأ وفهم الأوضاع وحلل وفسر المتغيرات بشكل جيد، فقناعاته لم تتعرض للاهتزاز وللانقلاب وان كان ما أصاب العالم من متغيرات جذرية وما حصل للنظم الاشتراكية في العالم من اخفاق وفشل وتعثر، وللاحزاب الشيوعية في الوطن العربي والحركة الشيوعية في سورية من نكسات قد ترك في نفسه بعض الجروح وأشعرها ببعض الخيبة، فالانسان الذي لا تترك الأحداث تأثيراتها عليه ولا تغنيه وتجدده التجارب، سيصاب بالصدأ والتآكل، والسياسة مثل الحياة هي تجارب متواصلة فيها التعثر وفيها النجاح وفيها الخطأ وفيها الصواب، فلاحظ سهيل التطور الهائل الذي حصل في العالم ولم يستخف أبداً بالمتغيرات الدولية الكبيرة بما فيها انهيار النظام الاشتراكي الذي يقوده الاتحاد السوفيتي وتفكك الأخير وانهياره فلا يمكن للمرء بحجة التمسك بالمبادئ والثوابت ان يعزل نفسه عن تطورات ومتغيرات ومستجدات العصر اذ عليه التعاطي معها فالانكفاء وعدم التكيف يؤديان الى الجمود والعيش في الماضي كما ان الانقلاب على المبادئ والثوابت وشطب الماضي الفكري والتاريخ الحزبي والسياسي يؤدي الى ضياع الاتجاه والسير في متاهات طريق الانتهازية المبتذلة والوصولية الرثة، ولهذا لم يكن أسير الجمود العقائدي ليتوقف عن التطور والتكيف مع متغيرات ومستجدات العصر، لأنه ضد تحجر الفكر وتحول الأمور الى نمطية يجري السير فيها برتابة مملة، فهو لايمانع من نقد الآراء والمواقف الفكرية والسياسية اذا ثبت عدم صحتها، فكان مع اعادة النظر بالكثير من الأمور، اذ أصبح يؤمن”ببناء حزب شيوعي موحد يعرف كيف يراجع كل ما هو ضروري بجرأة وانفتاح وعقلانية”ومن هذا المنطلق كان معه رعيل كبير وواسع من مناضلي الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي والشيوعيين السوريين قد تمسكوا بثوابتهم الماركسية اللينينية والوطنية وعملوا على التواصل والتنسيق لتوحيد صفوف الشيوعيين السوريين، على عكس ما حصل لكثير من رفقائه الذين كانوا يدعون انهم فرسان المبادئ الاشتراكية والثورية الأممية اذ بعد سقوط جدار برلين وانهيار النظم الاشتراكية في أوربة الشرقية وتفكك الاتحاد السوفيتي وزواله وسيطرة الولايات المتحدة الاميركية على فضاء العلاقات الدولية في هذا المنعطف التاريخي، كانت المراجعة مبدأً صحياً وضرورياً للفكر والممارسة، ولكنهم لم ينطلقوا من صيغة جديدة في الفكر والتنظيم من خلال مشروع عمل بعد مراجعة نقدية لبحث وتقييم وتقويم أزمتهم ومعالجتها منطلقين من رؤية جديدة تأخذ اندفاعها من فكر وممارسة ونضال الماضي وتستجيب لحاجات الحاضر، وتتشوف آفاق المستقبل كما فعلت بعض التيارت الماركسية اللينينية في دول أميركا اللاتينية مراجعات نقدية جدية، وأحرز بعضها نجاحات على صعيد الفكر والممارسة، وكذلك في الصين الماوية أيضاً فقد حصل فيها بعض التقييم والتقويم كان من أهمها تحول الحزب الشيوعي الصيني الى حزب يمثل كل الأمة، ولكنهم بدل الدفاع عن ايديولوجيتهم عن طريق التوقف لتقييم وتقويم تجربتهم النضالية بالقيام بتصحيحات عليها بالاستفادة من الامكانات والقدرات الفكرية والتنظيمية والتجربة الحزبية والسياسية الطويلة والمريرة لهم، وبدل أن يعملوا بخطوات حثيثة على تنمية قدراتهم الفكرية والتنظيمية والسياسية والذاتية لدور يؤدونه في المستقبل بناءً على ما يقوله لينين:”ان الهزيمة الكبيرة بالذات تعطي في الوقت نفسه الأحزاب الثورية درساً واقعياً من أنفع الدروس درس الديالكتيك التاريخي ودرس فهم النضال السياسي والحذق في فن خوضه والجيوش المهزومة تتعلم دائماً بهمة واجتهاد”ولكنهم اختطوا نهجاً ذرائعياً سواء في تقويم الواقع أو في رسم السياسة والمواقف التي تتخذ كل ذلك بدافع مصلحي مكشوف هو الهروب الى الأمام من مسئوليتهم الأساسية عن الاخفاق في مواجهة أزمتهم ومعالجتها اذ لم يكن لديهم استراتيجية واضحة فالازمة الفكرية والتنظيمية التي كان يعيشونها انعكست بالمواقف المتناقضة والطروحات المتخبطة والممارسات غير المتوازنة، فاندفعوا الى استبدال الفكرة الاشتراكية بالفكرة الرأسمالية ففجأة اكتشفوا سحرها وفضائلها وأصبحوا من المروجين لليبرالية الجديدة بعد ان كانوا يشككون بها ويبشرون انها قاب قوسين أو أدنى من الانقراض، وبرروا انقلابهم الجذري الفكري بحجة التعاطي مع روح العصر ورياح التغيير التي هبت على العالم، ومن ثم يجب التكيف لملاقاتها، ولم يكتفوا بذلك فادعوا بأن المعارضين لهم من رفاقهم ما زالوا يعيشون في الماضي وانهم وحدهم المجددون ولكن التعاطي والتكيف مع روح العصر وملاقاة رياح التغيير شيء والانتقال الى المعسكر الآخر شيء اخر، فالرفاق الذين كانوا منبهرين بالأنموذج الاشتراكي ومفرطين في كيل المدائح له والتغني بانتصاراته، فجأة تحول هذا الانبهار والمديح بعد سقوط النظم الاشتراكية في أوربة الشرقية وانهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه، الى الأنموذج الليبرالي الرأسمالي وهذا يدل على هشاشة تصلبهم وحصانتهم الفكرية والسياسية، لضحالة وسطحية ثقافتهم الماركسية اللينينية، وعجزهم عن قراءة وفهم الواقع وتحليل وتفسير المتغيرات والمستجدات التي حصلت لاستنباط الحلول بسبب ضيق الأفق، مما دفعهم باتجاهات متناقضة جذرياً تميل الى الآخر الليبرالي الرأسمالي الذي كانوا يشككون فيه ويبشرون بانقراضه فهذا التخبط والانقلاب الجذري والانتقال السريع والحاد ناجم من عدم الافادة من المنهج الماركسي، فانتهى بهم الأمر الى نسف المبادئ الاساسية للماركسية اللينينية ولكل ثوابت النضال ضد البرجوازية برفع رايتها وتحولهم الى أبواق مبتذلة ورثة لها مع انهم لم يهتدوا الى الفكرة الرأسمالية والليبرالية من خلال قناعة فكرية جديدة آتت بعد قراءة معمقة ورصينة بل جاءوها من باب المصلحة باسم الذرائعية والواقعية السياسية فاستقالوا عن دورهم الماركسي الاشتراكي لحساب الليبرالي الرأسمالي.
لقد اتصف سهيل بالجد والمثابرة والنفس الطموح والهمة السامقة الوثابة، فحاول أن يعوض عن ضعف قلبه بنشاطه وحيويته فاثار التقدير والاعجاب وحظي بالاحترام في شخصيته كبرياء لا يعرف المخاتلة والميوعة، مثل الذين مالوا مع رياح المتغيرات الدولية الجديدة حتى كادت ظهورهم تنقصم وبقي شامخاً حتى مات لقد كان شخصية فذة جمعت فيها العقل النير والأفق الواسع وسداد الرأي والقلب الفياض والعاطفة الجياشة والقناعة والزهد في الحياة والاباء والغيرة والتواضع ودماثة الخلق ورحابة الصدر وحسن المراعاة لرفقائه وأصدقائه وزملائه ولطف معاشرته لهم وتفقد أحوالهم وخفة الروح والميل الى الفكاهة البريئة والدعابة الخفيفة، ولم يكن ليعطي المعرفة في مدرسته الثقافة فقط بل كان يمنح معها المودة والصداقة، ويعلم الخلق الكريم فالطيبة والوداعة ومساعدة الآخرين وتجنب الاساءة اليهم، فكم عالج عقوقاً بسماح وأحسن الى من أساء، فبقدر ما كان قوياً وصلباً لكنه متسامحاً، فلم يحمل الحقد والكراهية في قلبه أو يدعها تتسلل الى سلوكه حتى اتجاه من أساء اليه، وهو لا يتناقض ولا يقول ما لا يفعل، ولايلزم الآخرين بما لا يلزم نفسه، فكان انموذجاً وطنياً يطلب النماذج والمثل العليا، فاذا به يصطدم بمساوئ لم يتوقعها وكان أشدها على نفسه سقوط بعض رفقائه وجحودهم. لقد تجلت شخصية سهيل المتميزة في نواح عدة أولها انه كان مثلاً أعلى في كل شيء في ايمانه بعقيدته الماركسية اللينينية واخلاصه لها، وفي نشاطه من أجلها والحرص عليها، وبعد الهمة في نشرها فدفعه شغفه وايمانه واقتناعه بها وتفانيه فيها الى الانقطاع اليها بجميع قدراته وطاقاته ووسائله، فدعا اليها على بصيرة ووهب لها ما تكلفه اياه من نفسه وصحته ووقته وأسرته فعمل من أجل أن يراها حقيقة بين الناس، والناحية الاخرى تأثيره العميق في نفوس رفقائه وأصدقائه، فقد كان منشئ جيل وصاحب مدرسة ثقافية وفكرية ثورية وصلت الأيديولوجية بالأخلاق، فالماركسية اللينينية لديه هي اعتقاد وأخلاق وسلوك. والناحية الثالثة انه كان من أصوات الحرية والحياة من أجل وطن للجميع يسوده القانون والمساواة وترفل في ربوعه الحرية والحياة الكريمة. فنشد لمواطنيه ووطنه الحرية والكرامة وبما انه مع الشعب في آلمه وآماله كان صوتاً هادئاً من أصواته وضمير حي من ضمائره عبر عن مواقفه الحرة وبعزم لا يلين في أصعب الأوقات لتعلقه المتين بالحرية والعدالة الاجتماعية، ولهذا لم يكن رحيله خسارة لأسرته وحزبه ورفقائه وأصدقاءه ولمدينة الحسكة ومنطقة الجزيرة فقط، بل عده البعض خسارة للشعب السوري، فقد قال فيه حسن عبد العظيم الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي:”لقد عرفته مناضلاً وطنياً ديمقراطياً عمل خلال حياته من أجل حرية المواطن وكرامته وتحرير الأمة وتقدمها ووحدتها”وقال رفيق دربه فاتح جاموس:”خسارتك بالنسبة لي كانت كبيرة جداً في هذا الزمن الصعب كنت مصراً وبثبات على خدمة قناعاتنا وأهدافنا المشتركة على الرغم من كل الصعوبات العامة وصعوبات شرطك الخاص اختبرت ذلك معاً في العديد من النشاطات بشكل خاص في اطار تجمع اليسار الماركسي–تيم لترسيخ هذا الاطار وتطويره على مسار بناء حزب شيوعي موحد يعرف كيف يراجع كل ما هو ضروري بجرأة وانفتاح وعقلانية ماذا أقول لا تخاف الحياة قوية ربما أقوى من الموت على الرغم من فظاعته ستبقى قناعاتنا ورؤيتنا وأهدافنا قوية ونعدك أن نستمر بحمل رايتها كما حملتها”وقال رفيقه عماد يوسف:”هو ذا جميل اخر يرحل من عالم الأشرار رفيق درب ما تردد يوماً بشق الطريق لرفاقه كي يعبروا، قلبه لم يعد يحتمل هذا العالم قلبه ارتأى أن يرتحل، فيغيب في صورته ويبقى في روحه يغيب في كلامه ويبقى في عقله وأفكاره”وقال صديقه حسين عيسو:”نادراً ما كنت أراه مرتاحاً بين عائلته الصغيرة مثل باقي الناس ونادراً ما سألت عنه ووجدته مسافراً الى احدى المحافظات السورية لا للتجارة والأعمال، وانما لنشر المحبة والتسامح والعمل في سبيل مستقبل تسوده العدالة والمساوة بين أبناء الوطن الواحد لقد ناضل سهيل من أجل الخلاص من الأمراض التي يعاني منها المجتمع السوري…لذلك كان الحشد الكبير في جنازته يضم رفاقاً وأصدقاء من أغلب المحافظات السورية وأطياف المجتمع السوري كافة وكنت أرى الحزن في عيون كل من عرفه، لأن سهيل لم يكن يخص فئة معينة وانما كان سورية وأحب كل سوري فأحبه الجميع وفقدانه خسارة لنا جميعا كسوريين وليس لعائلته الصغيرة وحدها”وورد في رسالة تعزية من قبل تنظيم في تيم:”لقد رحل الرفيق سهيل قبل أوانه خاصة وانه كان يعد بالكثير من العطاء وبهذا فقد شكل رحيله خسارة كبيرة ليس فقط لحزبكم ولتجمع اليسار الماركسي في سورية-تيم وانما للشعب السوري بأكمله”وقال صديقه فيصل العليوي:”كان حشداً رائعاً ذاك الذي جاء ليحمل ويودع ذلك الطود العنيف الخفيف الصعب العصبي الهادئ المبتسم الرائع من الجنوب والشمال والساحل والشرق وشمال الشرق البائس ودول الاغتراب كان حشداً هائلاً ملأ مقبرة غويران حشداً لم تر مثله الحسكة الا مرات معدودات الكل يتكلم صادقاً بانك كنت مثالاً للرجل الملتزم المحب لوطنه وأسرته للرجل المثقف الواعي الصبور المكافح”وقال رفيقه نايف سلوم:”وأنا انظر الى الحركة الاشتراكية الماركسية في سورية وأرى سهيل قد تقدمها”.ولذلك يكفي سهيل ان شهد عرف وان غاب افتقد فهو من الذين تفكروا فأعتبروا فأبصروا قام بالأمر حين فشلوا وتطلع حين تعبوا ونطق حين تعتعوا لم يعمل في الشبهات ولم يسر في الشهوات وكان من الفرسان الماركسيين اللينينيين الذي قدم الكثير من جهده وصحته ووقته من أجل الحياة المنشودة للشعب السوري، وبقي في الصورة وآثر احترام ماضيه الفكري وتاريخه الحزبي والسياسي وظل يقارع الاستبداد والفساد من خندقه، وهو ينطبق عليه ما قاله لينين:”هناك ثوريون ذوو اخلاص مدهش وحماسة وبطولة وقوة ارادة”فسلاماً عليك أبا نوار صفحة من صفحات نضال الماركسية اللينينية في مدينة الحسكة ومنطقة الجزيرة وفي سورية وحقيقة ساطعة من واقع نضالها فعلى شخصية وطنية فذة مثله كانت مع شرف المبدأ في سيرتها “كل البكاء لا يكفي” كما قال صديقه حسين الشيخ.
خاص – صفحات سورية –