عمر أميرلاي صاحب أكبر كم من الأفلام الممنوعة في سورية: سينمائي مناوئ لأيديولوجيا البعث… ورمز من رموز الشجاعة والديمقراطية
محمد منصور
في ظرف سياسي واجتماعي عربي مضطرب، ومسكون بأحلام التغيير الشعبية، التي تقض ليلاَ طويلاً من الصمت… ظرف يصلح كمادة لفيلم تسجيلي من أفلامه، رحل عمر أميرلاي المخرج السينمائي التسجيلي السوري الأهم، الذي لا يمكن لذاكرة السينما التسجيلية السورية ولا العربية إلا أن تضعه في طليعة المخرجين الكبار، الذين وضعوا الفيلم التسجيلي في سياقه الإشكالي والتنويري القائم على رؤى نقدية حادة وعميقة للواقع ولحياة وعذابات البشر.
وربما كان آخر نشاط مارسه عمر قبيل رحيله بأيام، توقيع بيان مع مجموعة من المثقفين السوريين يساند الثورة الشعبية في مصر، فقد آمن عمر أميرلاي دائماً بالتغيير والحراك السياسي والاجتماعي، ولهذا لعب دوراً واضحاً في ما سمي (ربيع دمشق) الذي أجهضت فيه أحلام التغيير السلمي بقسوة، وسعى في كل الأفلام التي أنجزها، أن ينزع غلالة السكون من فوق طبقة الحياة الراكدة الخامدة، كي ينفذ إلى صورة الصراع الحي الذي يغلي في الأعماق، ليصنع مأساة الإنسان أو يرسم آفاق خلاصه.
مشروع سينمائي حر
عمر نزيه أميرلاي الذي يرحل عن عمر يناهز السادسة والستين، والمولود في دمشق عام 1944، لأب من أصول قوقازية، وأم لبنانية من العائلات البيروتية العريقة، درس المسرح في جامعة مسرح الأمم المتحدة في باريس بين عامي (1966-1967) ثم التحق بالمعهد العالي للدراسات السينمائية في باريس، لكنّه انقطع عن الدراسة بسبب أحداث الطلبة عام 1968، وفي عام 1970 عاد إلى دمشق ليعمل في دائرة الإنتاج السينمائي في التلفزيون السوري وليطور أسلوبه الفني، مختلفا عن غالبية المخرجين السوريين الذين درسوا في الاتحاد السوفييتي السابق أو بعض دول أوروبا الشرقية.
لم يكن التلفزيون السوري هو المكان المناسب لاحتضان مشروع عمر أميرلاي السينمائي الحر، في مؤسسة طالما اعتبرت ذات مهمات سياسية وتدجينية، بعيدة كل البعد عن أي مشروع فني حقيقي، ذي سقف عالي الطموحات، جريء في رؤيته ونبرته… لذلك لم يستطع أن يتجاوز في تأقلمه مع سقف التلفزيون الرقابي المنخفض فيلمه الأول (محاولة عن سد الفرات) الذي أنجزه عام 1970 ورأى فيه تحية منه لأحد أكبر مشاريع التطوير السورية… لكن ليس من خلال الحديث عن الإنشاءات، بل من خلال الحديث عن البشر، فقد أتى فيلمه الثاني (الحياة اليومية في قرية سورية) الذي أنجزه مع المسرحي الراحل سعد الله ونوس عام 1974 حافلا برؤى نقدية أدت إلى منعه من العرض وحبسه في العلب إلى الابد… إذ بيّن تأثير السد الملتبس على حياة الأشخاص العاديين في قرية سورية على مقربة منه.. وصور أثر الأيديولوجيا الشمولية على تكريس طقوس حياة اجتماعية خارج قيم العصر وشعارات التقدم والتطوير التي رأى حزب البعث أن مشروع السد سيكون رافعتها وعنوانها.
كان عمر أميرلاي مخرجاً مارقاً في زمن التدجين والانتهازية، وكان شرساً ضد محاولات تحويل الفن في سورية إلى حالة هتاف وتزوير، تستخدم كل أصباغ تلوين الواقع وأساليب تجميله، لقد تمرد على كل الأيديولوجيات التي دمرت الإنسان العربي وزادت تخلفه تخلفاً، وانتمى إلى الحرية بكل نبلها، وكل مرارة الصدق الذي تعبر عنه في زمن الانتهازية والوصولية، لم يكن فيلمه الممنوع (الدجاج) الذي أنجزه عام 1977، تعبيراً فقط عن تدمير عفوية الحياة في قرية باسم التطور، في ظل فوضى تطبيق المشاريع الكبيرة وحسب، بل كان في بعده الرمزي أيضاً صرخة ضد تدجين البشر أيضاً. وجاء فيلمه (الطوفان في بلاد البعث) الذي حققه عام 2003، تكريساً للزمن الذي توقف في حياة قرية سورية… للزمن الذي عاد فيه الإنسان القهقرى، رغم كل شعارات التطوير والتحديث.. ولكل القهر الذي مورس على البشر، حتى جعل منهم ببغاوات.
غوص عميق وصيغ تجريبية
أما الأفلام التي أنجزها عن شخصيات شهيرة كفيلمه عن رئيسة الوزراء الباكستانية (إلى جناب السيدة رئيسة الوزراء بنظير بوتو) عام 1992، وفيلمه عن رئيس الوزراء اللبناني الشهيد رفيق الحريري، الذي صوره عام 1999، فلم تكن مجرد بورتريهات تسجيلية يقول فيها الشخص ما يريده عن نفسه، بل كان غوصاً عميقاً في ما تمثله من ظواهر، ليس في عالم السلطة والمناصب وحسب، بل في علاقة الإنسان بذاته حين يحمل مشروعاً، أو حين يصبح مشروع هجوم دائم، كما كان الحال مع رفيق الحريري الذي كان، في نظر عمر أميرلاي، في البداية الرجل ذا النعل الذهبي، حسب عنوان الفيلم، أي الرجل الذي تمنى ولو لمرة واحدة أن يرى بعض الغبار فوق حذائه الذي كان يلمع نظيفاً في كل الأماكن والأوقات، لكن أثناء إنجاز الفيلم تحول الحريري إلى رجل إشكالي، كان يريد إدانته لكنه لم يستطع، وبينما كان يقف عمر متمرساً خلف شكوكه وريبته من هذا الرجل البالغ الثراء ومن ثروته، اقتحم الحريري تلك المنطقة مفجراً كل الشكوك في وجهه: لماذا تعتبر يا عمر أنك رجل مثقف وفهيم وليس معك فلوس… بينما أنا مدان من وجهة نظرك لأنني غني؟
وفي نهاية الفيلم الذي تبدلت فيه صورة الحريري كثيراً، وضع عمر صورة الفيلم أمام مجموعة من أصدقائه المثقفين، على طاولة مستديرة صورها لصالح الفيلم نفسه، وطلب منهم أن يحاكموه ويحاكموا الحريري… وأن يوضحوا له لماذا انحرف الفيلم عن المسار الذي رسمه له في البداية، في صيغة تجريبية جديدة أثرت الفيلم.
إلى هذه الحد كان عمر مؤمناً بالآخر، ومستعداً لمحاورته وللتحاور حوله، وللتخلي عن كل قناعاته المسبقة، بل ومستعداً لمحاكمة نفسه في أفلامه نفسها… تلك الأفلام التي طالما منعت في سورية، والتي طالما منع من السفر بسببها وبسبب مواقفه الشجاعة الأخرى.
لقد كان عمر رجل حوار وديمقراطية، لكن هذا الحوار كان ينطلق من مدافع شرس وعنيد عن قيم الحرية وكرامة الإنسان… وكانت تلك الشراسة مسلحة بذكاء وقاد، ومهنية عالية، جعلته يحفظ قيم الحوار من الانزلاق الساذج نحو المناطق الرمادية التي تضيع فيها الحقيقة، وتخلط فيها الأوراق.
عاشق الفيلم التسجيلي
لقد أخلص عمر أميرلاي للفيلم التسجيلي، حتى غدا واحداً من أهم المخرجين العرب في هذا السياق، إن لم يكن الأهم فعلاً، فقد خلصه من بلادة التصوير وسطحية التناول، من دون أن نغفل مهنيته العالية في بناء الفيلم الذي جعلت الكثير من أعماله عالمية… أما على الصعيد الموضوعي، فقد عمل عمر أميرلاي في ظروف إعجازية، كي يقدم صوراً من الحياة السورية، هي اليوم شهادات في غاية الأهمية عن واقع، تحتاج سورية لمن يرصده بهذه الدقة وبهذا العمق والصدق… لا لتتذكر الماضي، بل لتستلهم منه دروس الحياة الحرة الكريمة في المستقبل.
أجل لقد خسرت السينما العربية التسجيلية أبرز رموزها ومبدعيها… وخسرت السينما السورية صوتاً حاداً ومبدعاً اقترب من هموم البشر بصدق، وجاءت شهادات بعض أصدقائه وزملائه تعبيراً حياً عن حجم هذا الفقدان. فيما لازال الجرح طازجاً، والإحساس بالخسارة كبيرا… فماذا قالوا عنه… وكيف أكملوا صورته بكلماتهم؟
المخرج نبيل المالح: الفارس الشجاع النقي
فقدت سورية فارسا شجاعاً نقياً من فرسانها، الذين تكالبت عليهم الضغوط لمنعهم من التنفس في وطنهم، لقد كان عمر أميرلاي صاحب مشروع ثقافي حقيقي ونزيه ضمن محيط ثقافي انتهازي وصولي وقزمي في معظم الأحيان. لقد كانت حربه مثل سينمائيين آخرين ضد أشباح ظلامية، صحيح أنه مات بجلطة دماغية، ولكنه كان معرضاً للقتل اليومي باستمرار؛ إذ كانوا يقتلون مشروعه الإبداعي الاستثنائي والعالمي النكهة والطموح. على الرغم من كل الإحباطات والضغوط ، وعلى الرغم مما لم يستطع تحقيقه فسيبقى أميرلاي وعمله تاريخاً مبدعاً في وقت سيلفظ فيه التاريخ كل من حاول كتم أنفاسه… وأنا كسينمائي أعرفه منذ منتصف السبعينيات، أفخر دائماً بكونه زميلا رائعاً ورفيق درب جابهنا فيه أقزاماً سرقوا حياتنا وحلمنا ولم نتوقف.
المفكر ميشيل كيلو: خسارة للديمقراطية في سورية
غاب اليوم عنا رجل كبير، فنان وأستطيع أن أقول انه مفكر، ورجل ذكاء هو المخرج عمر أميرلاي. عمر أميرلاي هو كما أعتقد أول سينمائي عربي يأخذ السينما إلى الواقع… من دون تحفظات، ومن دون توسطات، ومن دون احتيالات. أخذ الكاميرا ونزل إلى الواقع السوري في أكثر تجلياته موضوعية… وأكثر تجلياته واقعية. ذهب أولا إلى سد الفرات، حيث كان يبنى عام 1969 وصنع فيلماً من 12 دقيقة، هو أعظم أنشودة تمجيد لعمل الإنسان… أنشودة هائلة عن العمل، عن التقدم، عن التغيير، عن الإنسان العادي الذي تتفتق طاقاته وقدراته فيواكب التقنية ويساهم في تغيير حياته، وتغيير واقعه، أنشودة عن هذا الإنسان الذي يبدل عاداته السيئة لمجرد أنه احتك بالتقنية الحديثة، كالكسل والركون إلى القدرية في الحياة وانتظار الرزق من غير أبوابه… هذا كان فيلمه الأول، وقد لفت الأنظار إليه حتى كتبت فيه مؤلفات، ثم كتب سيناريو هو والمسرحي الراحل سعد الله ونوس عنوانه: (الحياة اليومية في قرية سورية) وذهب وعاش ثلاثة أشهر في قرية تبعد كيلومترا واحدا عن نهر الفرات، لكنها لا تشرب ماء، عطشى، أراضيها جافة، والناس فيها ينتظرون الفرج من الغيب… جلس في القرية، صورها، تحدث عن صراعاتها، عن مشكلاتها، عن العوائق التي تحول دون لقاء البشر بعضهم ببعض، عن وضع المرأة، عن وضع الأطفال، التعليم، عن المورثات التاريخية التي تكبل أيدي وأرجل البشر وقبل كل شيء عقولهم. وعندما انتهى الفيلم منع في سورية بحجة أنه يظهر سورية في غير الصورة الحضارية المتقدمة التي هي عليها… على الرغم من أنهم كانوا يقولون في ذلك الزمن دائماً، إننا عملنا الثورة (يقصد الثامن من آذار) لأن المجتمع متخلف، وعندما جاءهم مخرج بصورة عن المجتمع المتخلف، رفضوها بحجة أننا لسنا متخلفين، ثم توجه عمر بسينماه التسجيلية إلى مختلف مناحي النشاط الإنساني، بما في ذلك: المرأة والطفل والعادات وأنماط التفكير، حتى أنه عمل فيلماً عن رجل غني يمسك بمقاليد دولة هو رفيق الحريري، عمل فيلماً في جزأين عنه وكان من الأفلام التسجيلية المهمة جداً. كان الرجل فناناً مبدعاً في اختيار الزوايا، وفي استخدام الكاميرا كأداة سرد، وفي بناء الكادرات، والمنظورات والصور، وفي اختيار الحوار، وفي اختيار الموسيقى في بعض الأحيان، ثم عمل أفلاماً كثيرة عن الريف، وعما كان يقال عن التطور الذي حدث بعد الإصلاح الزراعي في الريف… والتصنيع في الريف. عمل فيلماً مهماً اسمه (الدجاج) عن قرية (صدد) بيّن فيه كيف دمرت المداجن تلك القرية عن بكرة أبيها، وقضت على الزراعة فيها، وعلى أي نوع من الدخل والنشاط الموجود في القرية، وكيف بدأ أهلها يعيشون من الهجرة والتهريب… كيف تنحط المشاريع التاريخية الكبرى إلى فساد وإلى فوات، وتنحرف عن مساراتها الحقيقية، وتصبح ضد الإنسان الذي تدعي أنها تراهن عليه، وتكبته بحجة أنها تراهن عليه. حتى عندما أنجز فيلماً عن اصطياد سمك القرش في جنوب اليمن كان الفيلم فعلياً يدور حول معضلة صراع الإنسان مع الموت الذي يمثله سمك القرش كي يكسب عيشه… علماً بأن ظروف الإنسان كما بدت في الفيلم، أسوأ بكثير من ظروف سمك القرش. وضحايا الإنسان على يد سمك القرش، أكبر بكثير من ضحايا سمك القرش على يد الإنسان.
هكذا كان عمر رجلا للناس وللواقع وللتقدم، مفتوح العقل، فهيماً، مطلعاً على الثقافات، عارفاً باللغات، كان يتحدث الفرنسية والإنكليزية بطلاقة، وكان يملك معرفة كافية لمخرج مهم عن تطور الثقافة والواقع، وكان آخر همومه ـ وهذا سر- أن يؤرخ لمرحلة الثمانينيات في سورية، مرحلة التغيير الكبرى التي كانت مرحلة واعدة، ثم أجهضت ودخلنا بعدها في النظام السلطوي المغلق الذي أوصلنا إلى المأزق حيث نحن الآن.
بغياب عمر تخسر الديمقراطية في سورية رمزاً مهماً، وبغيابه نخسر، نحن أصدقاءه، إنساناً مهماً، وصديقاً مهماً ومثقفاً مهماً، وتخسر السينما العربية واحداً من الناس، الذين صنعوا سينما للناس، ليس بتقديم تنازلات لهم، وإنما بكشف حقيقة حياتهم ووجودهم، ووضع اليد على نقاط الضعف فيها، ومحاولة مساعدتهم كي يخرجوا من الورطة التاريخية التي يعيشون فيها…
عمر أميرلاي غاب. لقد غاب رجل شديد الأهمية، رجل سنتذكره على الدوام.
مدير التصوير حنا ورد: مشروع فنان لم يكتمل
أهم ميزة نستطيع أن نقولها عن عمر استقلاليته وموضوعيته. أنا أعتبر تجربتي معه في الجانب المهني والإنساني من أهم التجارب، مرت بلحظات جميلة جداً، ومرت بلحظات أخرى دخل فيها البعض على الخط، ولكن أنا أتفهم أنه في خضم العمل الإبداعي لا بد من حالة مد وجزر في كل علاقة.
بدأت علاقتي مع عمر أميرلاي حين قمت بتصوير فيلم معه في نهاية الثمانينيات في اليمن بعنوان: (سيدة شبام) يرصد حياة امرأة أجنبية تعيش هناك، ثم فيلم آخر عن صيد القرش بالطرق البدائية ومعاناة الإنسان في صراعه المرير من أجل لقمة العيش… ثم ذهبت وإياه إلى باكستان مطلع التسعينيات حين أنجز فيلماً عن بنظير بوتو، وعندما رفضت بوتو التعاون، أصبح الفيلم عن بنظير بوتو لكن في غيابها. وكانت المفاجأة أنه عندما انتهى الفيلم وشاهدته، أعجبت به إعجاباً شديداً، وقررت الموافقة على تصوير مقابلة للفيلم، لكن عمر أميرلاي – وكان ذلك مفاجئاً واستثنائياً- رفض تغيير أي شيء في الفيلم، وكان أقصى ما قبل به أنه وضع مقابلتها في نهاية الفيلم.. كان هذا موقفاً جريئاً لم يتخذه أحد سوى عمر أميرلاي الذي لم يكن صنع أفلاماً لتمجيد أشخاص، ولهذا لم يكن يهتم لكبير أو صغير عندما يصنع فيلماً برؤاه وقناعاته متحدياً كل المعوقات التي توضع في طريقه.
لم أعمل مع عمر مصورا فقط، بل كنت مستعداً دائماً للتعاون معه على الدوام، لذلك صممت له إضاءة الفيلم الذي أنجزه عن الفنان السوري فاتح المدرس، الذي أحب أن يصوره مع مصورة فرنسية، لكن تجربتي الأهم معه كانت في الفيلم الذي أنجزه عن الراحل رفيق الحريري (الرجل ذو النعل الذهبي) فقد ذهب عمر إلى الفيلم وهو مملوء بالقناعات والأفكار المسبقة عما كان يقال عن الحريري من آراء سلبية في معظمها، فهو رجل أعمال غني، حليف السعودية، دخل السياسية من باب تحالف المال مع السلطة… وكانت هذه قناعاتي أيضاً، لكن الحريري لم يخف علينا شيئاً، وكان يتصرف بعفوية آسرة، وقد وصل العمل إلى مرحلة تحول حاسمة في الرؤية أثناء التصوير، كنا نضع الكاميرا في الممر ونصور بعض اللقطات… وفجأة خرج الحريري وقال له: (تعال يا عمر… إذا كنت رجلا غنياً فهل يعني هذا أنني إنسان سيئ وعدو للشعب؟) ثم أدار حواراً عفوياً وجريئا غير محضر مسبقاً، ووضعت أنا الكاميرا وراء كتف عمر وبدأت أصور، واحتدم النقاش ومالت كفته لصالح الحريري… لكن عمر وضع المقابلة بكل أمانة، لم يحذف منها شيئاً، وقرر التراجع عن قناعاته المسبقة، ذاهباً لبناء قناعات جديدة ولدت من رحم الحوار الجريء جداً، والصريح جداً. وقد عاش عمر صراعاً مع نفسه: كيف يهاجم هذا الشخص الذي لم أستطع أن أمسك دلائل إدانة ضده على النحو الذي كان يتصوره؟ لقد كان عمر أميناً مع نفسه ومع الآخرين… وجريئاً في كسر الأفكار النمطية والقناعات المسبقة، لأنه كان يريد أن يذهب إلى واقع الأشياء وحقيقتها.
رغم كل ذلك أقول، وبعد كل تلك المسيرة من الأفلام التسجيلية العظيمة، أن عمر أميرلاي مشروع فنان لم يكتمل. يظن الناس أنه حصل على كل شيء وأنه كان مدللاً، هو لم يحصل على ما يستحق، نحن حصلنا منه على أعمال تثري حياتنا، عمر كان مشروع مخرج روائي مهم، وكان يتعامل بالصورة في أفلامه الوثائقية بشكل أرقى وأهم من كثير من المخرجين الروائيين السوريين، وقد دخل في موضوعات شائكة منها ما لم يتحقق كالفيلم الذي كان يود إنجازه عن القرامطة، ومنها ما تحقق بعضه كفيلم (أسمهان) الذي كان أول من فكر فيه. هل كان خطؤه أن دخل في موضوعات شائكة لا يمكن أن ترى النور، هل كان خطؤه أنه كان سابقاً لعصره… لا أدري. لكن حياة عمر وإبداعه درس لنا كسينمائيين: ليس لنا إلا بعضنا فلنتكاتف من أجل ألا تموت مشاريعنا الكبيرة في خضم خلافات ومعارك سخيفة، ولنتكاتف كي لا نقتل قبل أن نحقق أحلامنا… كما قتلت الكثير من أحلام عمر الكبيرة والعظيمة!
ناقد فني من سورية
القدس العربي