المثقف المسكون بهموم الجماعة
زياد عبد الله
ما الذي سيفعله فلّاحو قرية «صدد» السورية بعد وفاة عمر أميرلاي؟ من سيروي خيبتهم من الدجاج بينما ماركة «مرسيدس» تظهر كإنسرت وهم يناقشون شقاءهم؟ «الشقاء في خطر» بعد رحيل أميرلاي. الوثائقي فقط كان خيار أميرلاي. وجد فيه الجانب الأشد بلاغة في الدراما. أضاف على ما يعدّه دزيغا فيرتوف «هجوم آلات التصوير على الواقع بما يضمن صورة حقيقية ويهيّئ في خلفيته التناقضات الطبقية والاجتماعية موضوع كل العمل الخلاق». لقد أضاف حياته، وتطلعاته وخيباته. وشكّل بأفلامه سجلاً استثنائياً عن الشقاء السوري، وصولاً إلى كل ما يمكن أن يكون عربياً مفصلياً يحمل غوايته التوثيقية الخاصة. وبالتأكيد جاء ذلك بروح «انتقائية» ـــــ كما يؤكد روبرت فلاهرتي ـــــ تأتي من القاع والهوامش والمنسيين، ولا تهمل المتن، وخصوصاً إن تعلق الأمر برجل يختزل بلداً بأكمله، كما كان فيلمه عن رفيق الحريري.
التنقل بين أفلام أميرلاي سيضعنا أمام تعرية لكل ما يسرد أمام المشاهد. هناك دوماً روايتان: رواية رسمية يقابلها ما يرصده الوثائقي من حياة وواقع. بل إنّ انحيازه الأعمى للتحديث في سوريا مع توثيقه بناء سد الفرات في «محاولة عن سد الفرات»، سرعان ما تنصّل منه في «طوفان في بلاد البعث». منذ بداية الفيلم، رأى أنّ انحيازه كان «خطأً جسيماً». هكذا، يمضي الفيلم نحو رصد النهر الذي اختفى، ورصد حيوات من كانوا على ضفاف «بحيرة الأسد»، بدءاً من دياب الماشي عضو البرلمان السوري منذ 1954 مروراً بابنه مدير المدرسة، وصولاً إلى جيل بأكمله ينبش المراحل البعثية التي يمر بها، من طلائع البعث إلى اتحاد شبيبة الثورة.
بين الفيلمين، صنع أميرلاي «الحياة اليومية في قرية سورية»، بما يجعلها ثلاثيته عن الريف في الجزيرة السورية. ويضاف إليه «الدجاج» عن قرية «صدد». ولعل هذه الأفلام الأربعة تلتقي عند مشهدية خاصة. ما عدا «طوفان في بلاد البعث»، فإنها جميعاً بالأبيض والأسود، تلتقي على كوادر قريبة مسكونة بتوثيقها الشقاء، ونبش مكونات القرى ووضعها الاقتصادي المتآكل. إنها نماذج عن بحث أميرلاي المضني عن توثيق ما هو غائب ومغيب.في «الحياة اليومية في قرية سورية»، نشاهد قرية «مويلج الجنوبي»، حيث مناهج التعليم تخبر التلاميذ عن ضرورة الغذاء، في حين يرينا الفيلم كيف أنّ أغلبية سكّان القرية مصابون بفقر الدم. بينما نرى سكان صدد السريان يحاصرهم الجفاف، ثم ينتقلون إلى تربية الدجاج. وفي كل ذلك، لن يعرفوا إلا الخسارة والهجرة الداخلية والخارجية.
كان عمر يشم رائحة السردين كلما ذُكرت إسرائيل كما يقول في «طبق السردين». سيبدأ من القنيطرة حيث العلامة الفارقة للوحشية الإسرائيلية. سيكتشف أن المبنى الوحيد الذي بقي بعد تدمير المدينة هو «سينما الأندلس». وسيجد في ذلك مدعاة لتذكر أول مرة سمع فيها كلمة إسرائيل، أي في بيروت عند خالته المهجرة من يافا وزوجها الذي كان يصطاد السردين يومياً.
هذا السرد الذاتي سيكون بمثابة مخاوف شخصية تتجسد في فيلمه «الرجل ذو النعل الذهبي» عن رفيق الحريري. سيبدأ من مخاوفه من علاقة المثقف بصاحب المال والسلطة. سيتكلم عن «هلوسة مثقف مذعور»، وسيستعين بإلياس خوري وسمير قصير وفواز طرابلسي. سيجد نفسه في موقع من يمثلهم أيضاً، ويقول إننا نلعب لعبة «تسجيل النقاط على الآخر». يروي أميرلاي في الفيلم أنه طيلة تصويره الشريط، كان ينتابه شعوران متناقضان «الود والريبة». سيقول بينما يجيب الحريري عن أسئلة كثيرة: «استوقفني نعل رفيق الحريري الجديد. والمفارقة بين رغبته في معرفة الناس، ونعاله التي لا تعرف غبار الشوارع».
أميرلاي قارب لبنان قبل «الرجل ذو النعل الذهبي». عثر على حفّار قبور في الحرب الأهلية، ومضى معه ليحكي الحرب تحت عنوان «مصائب قوم» (1981). في موته الشخصي، لم يمنح عمر فرصة لأحد أن يشاهد كيس «سيروم» معلّقاً، بينما الكاميرا مثبتة على نزول السائل نقطة نقطة، أو أن يصور مخرجاً آخر أيّامه كما فعل مع صديقه الراحل سعد الله ونوس في فيلمه عنه.
لم يسأله أحد عن حياته التي انتزعت منه فجأة. هو لم يكن بحاجة إلى ذلك. إنها أفلامه التي تجاوزت العشرين، تضع أمامنا حياته وحياتنا متضافرتين. حياة وثّقت وتوثقت بالتزام المثقف المسكون بهموم جمعية وشخصية.