صورة عمر
حازم صاغيّة
قليلة كانت المرّات التي التقيت فيها عمر أميرلاي بسبب اقامتينا في مكانين متباعدين. لكنّها كانت دائماً كثيفة، تعبر من السياسة إلى السينما ويتخلّلها أصدقاء مشتركون يردون أخباراً أو تعليقاً. وهي دائماً كانت تستدرج رغبة في مناسبات أخرى لا تتمّ.
وقد لا يخلو من دلالة رمزيّة أنّ معرفتي به نشأت في بيت رندة الشهّال، فيما جلستنا الأطول كانت، في مقهى الروضة، مع سمير قصير.
ومن هؤلاء الأحبّاء جميعاً تبقى لنا صور حميمة، فضلاً عن الأعمال والأفكار والمواقف طبعاً. أمّا الصورة الأبقى لعمر فأنّه جنتلمان، يتحدّث بأناقة وتهذيب خالصين، ويقدّم نفسه بالأناقة والتهذيب نفسيهما. فقد كان في طلّته وفي مشيه التأمّليّ ذاك المستقبليّ القادم من ماضٍ اختلطت أصوله ومدنه لتطبعه بأفضل ما في تلك الأصول والمدن. ولئن لم يكفّ وجهه وألوان سحنته عن التذكير بذاك التمازج الكوزموبوليتيّ في نسخته العثمانيّة، فإن اسمه ذاته كان يوحي بالأساطيل والبحار. ولا أدري لماذا لا تزال تستوقفني المرّة الأولى التي أعطاني فيها رقمَي تليفون، واحداً دمشقيّاً وآخر بيروتيّاً، كما لو أنّهما رقم واحد. وربّما لو طلبتُ منه رقماً باريسيّاً، لفعل ذلك بالإلفة والانتساب ذاتيهما.
هكذا كان للملمح هذا أن وسمه بتعالٍ من النوع الذي تتّصف به الكائنات النبيلة والعارفة، قبل أن تخفّف رقّةُ الصديق التعالي هذا وتزيد في تأنيسه.
لقد بدت عينه المليئة، بل الفائضة، تطلب المشهد الجديد توسّلاً ثمّ تفحّصاً كما لو أنّه المشهد الأوّل الذي تراه. وكنت كلّما لقيته انتابني أنّ عمر يستهول إخضاع هذه المشاهد السخيّة، بشراً وطبيعة، لمن يتحكّمون بالرؤية. وهو، في مكان ما، بدا كما لو أنّه يراهن على الكاميرا تتمةً لعينه وامتداداً لما رأى أو مصداقاً له.
لكنّ تونس لا تزال بعيدة يا عمر، وحتّى مصر بعيدة أيضاً. أمّا هنا، في بلدان الخوف، فقد أباح موتك الحديثَ عن أفلامك، وهذا ثمن باهظ، فيما تبقى حياتنا، نحن، رادعاً دون ذلك.
الحياة