رحيل عمر أميرالاي

في رثاء صديقي …….عمر أميرلاي

null
عمر صبري كتمتو
خمسون عاما مضت على صداقتنا. كانت دمشق أجمل, وأكثر أناقة وهدوءا, ينعشك هواؤها النقي وتفوح منها رائحة الياسمين. كنا نقضي نهارنا في الدراسة, أما ليلنا فكان ملكا لحريتنا ونحن في بداية الشباب. كانت مدرستي ثانوية الشهيد البطل جول جمال, قريبة من منزل عمر الواقع في شارع أطلق عليه اسم الشهيد البطل احسان كمالماز.
التقيت بعمرفي العام 1961 وتعرفت على مواهبه المتعددة في فن الرسم, والغناء الكنسي وولعه بالسينما التي رسمت الملامح الأولى لشخصيته القوقازية الشامخة والمتواضعة في آن معا.
كنا ثلاثة شبان نقضي وقتنا معا عمر ورسام الكاريكاتور المعروف نبيل أبوحمد وأنا, وحينما أقول وقتنا, أعني به دوامنا اليومي الذي يبدأ من الساعة السادسة مساءا وينتهي بعد منتصف الليل. وأحيانا كنا نختصره عملا بساعات منع التجول أيام الانقلابات المتتالية في سورية خلال ستينيات القرن الماضي. وكنت أشعر دائما أن عمر يحمل في داخله طاقة متفجرة من الابداع لكنه يكبتها لأنه يريد صقلها, وهكذا فعل وأعطانا كما جميلا من الأعمال الفنية الوثائقية الرائعة, وكنت محظوظا لمرافقتي له في اعداد فيلمه الأول عن سد الفرات, وتلمست احساسه الكبير بالمسؤولية الفنية والوطنية وهو ينظم العمل ميدانيا ويتحدث لسكان المنطقة بدءا من المواطن العادي وانتهاءا بالمسؤولين الكبار, ولم تكن أسئلته عادية أبدا, وكانت تعبر عن جرأة أدبية وسياسية عالية.
كن ننادي بعضنا ليس بعمر بل كان يناديني دائما باسمي مضاعفا فيقول عمرين, وكنت أناديه بذات الاسم, حتى عندما كان يحتدم النقاش بيننا, وكأن أسمنا المفرد لم يكن موجودا أبدا, كما أن أصدقاءنا المقربين كانوا يخاطبوننا بنفس الاسم الذي ابتدعه أصلا عمر أميرالاي, والوحيد من أصدقائنا الذي كان بمثابة أب روحي لنا وهو الفنان الكبيرالراحل فاتح المدرس كان ينادينا باسمنا المفرد فنتذكر أننا اثنان.
استضافني أكثر من مرة في شقته الصغيرة الجميلة في باريس, وكان مولعا باعداد الطعام, رغم أنه كان حريصا في تناوله. لقد حدثني باسهاب عن حياته الشخصية وعن زواجه وانفصاله واحترامه للسيدة مشكاة التي كان مرتبطا بها بعد أن انفصلا, ولم يكن متكلفا في حديثه أبدا, او مترددا في وصف حياته الفنية والاجتماعية, بل كان يسهب بالحديث ثم ينتقل فجأة الى حديث آخر.
لم يكن عمر ملتزما أو مرتبطا سياسيا بأي حزب, لكنه كان ولوعا باحترام الحريات متطلعا الى تحقيقها وفاعلا في هذا المجال, اذ كان توقيعه يحمل معنى كبيرا بل لاأبالغ لو قلت أنه يحمل معنى أكبر من ذلك الذي تملكه وتعنيه بعض الأحزاب, نظرا لمصداقيته وجرأته واخلاصه لبلده ووطنه سورية.
ها أنت قد رحلت ياعمر, أو لعلي أقول: ياعمرين, لأنك كنت تفرح بهذا النداء, ماذا عليك لو انتظرت قليلا , لربما نرحل معا, اذ لم يبق لي الكثير في هذا الزمن الواعد الصعب خاصة وأنك تصغرني قليلا. هكذا كنت دائما وفيا لقراراتك ومبدئيا في تنفيذها حتى في لحظة الموت التي لم تستشر بها أحدا.
سأوح لك بسرلم تعرفه عني من قبل. لقد حاولت جاهدا الاحتفاظ بدمعتي داخل جفني لكنها انهمرت ظاهرة للعيان, لربما ترغب في أن تصل الى دمشق وتبحث عن المكان الذي تستريح روحك فيه ثم ترقد في بيت الرمل وتصبح حقيقة عمرين وليس عمرا واحدا.
عمت مساءا ياصديقي. أقول: وداعا, وأقول: الى اللقاء.
عمر صبري كتمتو: سفير فلسطيني سابق
كلنا شركاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى