عمر أميرالاي: الرجل ذو الروح الذهبية
حسين سليمان
توفي ظهر يوم السبت 5 شباط ( فبراير) 2011 المخرج السوري عمر اميرالاي الذي لفت انظار العالم بطريقته الفذة في إخراج الافلام الوثائقية.
ولد الراحل في دمشق عام 1944 في بيئة تمازجت فيها الثقافات الشرقية وانفتحت على عوالم عربية وتركية وشركسية، وهي ما وهبت عمر اميرالاي القدرة على التميز والتفرد في إخراج الأفلام الوثائقية التي كان العمل فيها حتى المدة القريبة رهن تساؤل عن مدى اقترابه من الفن.
على أنه بطريقة أو بأخرى هو نقل الواقع إلى شاشة السينما نقلا تقريريا قد يكون فجا وباعثا للضجر ذلك إن تم النظر إليه من النظرة الفنية التي تعول على الخيال.
والواقع أن الوثيقة لا تدخل في المرتبات الفنية وهي لا تخرج عن كونها دراسة مباشرة خالية من المجازات والاستعارات التي يقوم عليها الفن. إلا أن الروح التي كانت تعتلج قلب الراحل قلبت المعادلة وقالت قول الشاعر القديم، إن الشاعر شاعر في الحياة، في طريقة مشيته وفي طريقة سلوكه وفي إشاراته المسكونة بالسر.
الشعر هو ما يميز المبدعين وهو الخصاصة التي لا تبارحهم، تبقى داخلهم تريهم الجانب الخفي من الحياة، وهذا ما علمنا إياه السينمائي المبدع عمر اميرالاي: ففي جزء من الحياة هناك الشاعري المخبوء الملتصق بها حيث لا تراه إلا القلة. إنه النغم أو الموسيقى التي ترافق الحياة من وراء الستارة، صوت النبوءة الكاشف لحجارة يبقى الظن أنها تتكلم وتعي ما يجري حولها.
خلـّف الراحل اكثر من تسعة عشر عملا كان أولها ‘ محاولة عن سد الفرات’ مرورا بالفيلم الكبير الذي انجزه في العام 1999 ‘ الرجل ذو النعل الذهبي’ الذي يدخل إلى عالم الراحل رفيق الحريري دخولا عميقا ما هو إلا دخولا روحيا يخلق الاسئلة وأجوبتها ويقدم لوعي المشاهد الطرائق التي بها قد نتعرف على الحلول.
يبتدئ الفيلم من الفكرة التي تقول ‘ الإعمار الإعمار ليحلو بعده الدمار’ وهي ايضا فكرة البحث عن الحقيقة، حقيقة الرجل الكبير رفيق الحريري. ما هي حقيقة البناء وما هي حقيقة الخراب؟ بهذه المعاني يدخل عمر اميرالاي إلى مبنى المال والسلطة ولم يتناوله الفن والتصوير من قبل إلا من أجل الكلام عن عالم الحريري المباشر السطحي الذي يعوم على الغنى والقصور واليخوت والمسابح..لكن المسألة الحقيقية ليست هنا كما كان ينظر إليها المخرج اميرالاي بل هي في الباطن الذي لا ينكشف للكاميرا البلهاء والتي تعكس في أغلب أعمالها السطح وقول اللغو، ولا تستطيع أن تغوص في أعماق الظاهرة التي فيها يتم خلق المصير. ماذا يمكن أن تقول عن رجل المال والسلطة رفيق الحريري إلا أن تدخل فيما يقال في أروقة السياسة وما تنشره الصحف والإشاعات بعيدا عن الرؤى وبعيدا عما يعتمل في القلب والوجدان وهما المحرك الأول والذي يظل أغلب الأحيان مكتوما غير قابل للمكاشفة. يتقابل، كما يقول الفيلم، المثقف كممتهن للعمل الثقافي مع الحاكم مالك السلطة والمال وهي مقابلة تكشف الاثنين معا ولا تكشف أحدهما للآخر بل هي مقابلة تكشف هذين العنصرين اللذين يبدوان بعيدين عن بعضهما بعضاً، عنصر الثقافة وعنصر السلطة. يقول الحريري ويشرح متذكرا أيام بداية استلامه الحكومة، كيف أصيب بالغرور لبضعة أشهر وابتعد فيها عن ذاته وفقد صوابه فالذين حواليه أوهموه بالذكاء وبخفة الدم وأن ما يفعله هو عين الصواب. وهذه المرتبة التي يرتقي إليها الحاكم هي مرتبة مليئة بالمنزلقات والظنون الخائبة التي تشير له دوما أنه على حق والآخر على باطل. ومن وقت إلى آخر يشعر المشاهد أن الحريري على كرسي الاعتراف أو على سرير المكاشفة يقول ما في أعماقه وتلعب الكاميرا في هذا العمل بل في جميع أعمال عمر اميرالاي لعبة فنية بارعة كأنها أحيانا بصمتها وبزوايا لقطاتها وبعدها وقربها من الأصوات كأنها القصيدة الصامتة التي تقول ما لا تستطيع كلمات المقابلة أن تقوله، فيها المعنى الذي يريده اميرالاي وهي اليد التي تملك الاجوبة على اسئلة تبقى خفية لا يسمعها المشاهد. يظهر رفيق الحريري يجيب ويجيب من دون اسئلة، الأسئلة الغائبة، أو انها بعيدة غير واضحة وكأنها دمدمة يعرفها ابن الشارع بل يعرفها العام وهو شأنه الملح الذي يهجس به ليل نهار.
ويلعب التوليف لعبة أساسية في العمل ويقوم على فنية عالية مرفقة مع الظل واسقاط الضوء والقطع والوصل، وترابط اجزاء العمل. كل ذلك يتم بتركيز وموهبة نادرة تدفع المشاهد إلى المشروع الكبير الذي يطمح إليه اميرالاي ألا وهو طرح الاسئلة البدهية التي كاد الانسان العربي أن ينساها، وهي اسئلة تتضمن مسبقا أجوبتها الصارخة. أجوبة واسئلة معا تقدم بطريقة تبدو وكأنها غير محضرة مسبقا وهذا ما توهمه رفيق الحريري في الفيلم فنجده يشير ناصحا، أن على المخرج أن يأتي وفي رأسه الأفكار كاملة مكتملة قبل أن يبدأ بمشروع الفيلم. واظن أن ما تم عرضه هو أقل بكثير مما تم تصويره يكاد ربما يصل الى عشر العمل ذلك لأن المُشاهد يلاحظ الغنى في الصور وتتاليها وراحتها في ايصال ما تريده.
هناك قرب بل تقارب شديد بين الطريقة التي يقدمها اميرالاي وبين الطريقة التي قدمها المخرج الروسي الكبير تاركوفسكي، الصمت الذي يقول والقول الذي يصمت، رغم أن المدرسة هي مدرسة فرنسية وكثيرون أشاروا إلى بعده عن المدرسة الروسية التي جلبها معهم معظم مخرجي سورية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الفائت ولاحظ الوسط الفني الاختلاف البيّن بين مدرستهم في الاخراج ومدرسة اميرالاي، لكنْ برأيي هناك تقارب بينه وبين مدرسة تاركوفسكي والتي لم يتقنها أحد من الذين قدموا من روسيا، خريجو المدرسة الاشتراكية، وهذا دليل على أن الموهبة الأصيلة لا تنتمي إلى مدرسة ولا إلى منهج بل هي هوس رفيع وموسيقى داخلية تجعل من الحجارة، من الجماد أن يتكلم ويقول الداخل المصمت. هو الذي يقول، ولا يقوله الديالوغ ولا الحركة بل المقدار والنسبة التي تقف عندها الكاميرا عندما تعالج موضوعا ما، وحين تظهر رجلا ومقدار قربها والتعابير والإيماءات التي تظهر على الوجه، إنها الكاميرا حين تدخل في حوار مع الزمن ومن هنا تنتج الثمار التي تنمو على النحو الطبيعي غير المدفوع والمصنوع، وتراها تولد بشكلها الحر المتجانس لا تكلف فيها ولا دفع لفكرة نحو مبدأ ما. إن أفلامه تختبر وتستشف ما يجري داخل النفوس وداخل الوعي كي تكشف غير المعلن تحت الستر، ولا يكشفه الديالوغ بل يكشفه صاحبه نفسه بموقفه العام مما يجري وطريقة تناوله له. ويخرج المُشاهد من كل ذلك بموقف أكثر حرارة وأكثر وعيا، ومعرفة وجدانية جديدة تهبه الطاقة التي تكسر الصمت وتحرر منه الخوف كي تقول للآخر قف! هذه هي الحدود التي يجب أن تقف عندها، فلا تجتازها.
وبرأيي أن هناك اختلافا شاسعا بين أفلامه والأفلام التي تنحو المنحى الوطني العام والتي ألفناها عند يوسف شاهين مثلا، فبعد الانتهاء من مشاهدة عمل ما ليوسف شاهين لا يجد المشاهد أنه فتح نافذة نحو الامل المحتمل بل سيجد أن هناك نافذة داخلية ذاتية تتحرر فيها المشاعر فقط ويهز المُشاهد رأسه ألما حيث لا مكان ثمة للوعي ولا لقرار ناجز. أما عند اميرالاي فللوعي المكتسب مكانته الهامة يتشابك معه الوجدان والشعور وكلها معا تولد الطاقة أو القدرة التي لا تطلقها غيرها من الافلام.
لقد فقدنا مخرجا وفنانا كبيرا، بل منورا لا يقل شأنا عن المنورين أمثال الكواكبي ومحمد عبده، وهذا هو دور الفنان الحقيقي، لم يعرفه الجمهور ولم يعرف أفلامه معرفتهم للأفلام الرائجة.
كان عمر أميرالاي يهاتف شقيقته الوحيدة كل صباح، وقد هاتفها صباح السبت كالمعتاد ولم تظهر عليه علامات المرض، ثم بعد ساعتين سألها أن تأتي إليه لأنه لا يشعر بارتياح. على حد مفاجئ يشعر بسخونة وشلل في يده اليسرى وحين وصلت إلى منزله أرادت نقله الى المستشفى لكن بعد دقائق من وصولها فارق الحياة بين يديها.
لمشاهدة مقاطع فيلم ‘ الرجل ذو النعل الذهبي’ يرجى تتبع الوصلة الآتية:
http://www.youtube.com/watch’v=mNYaO9BgMaM