عمر أميرالاي: وُلد قبل زمانه ورحل قبل أوانه
على الرغم من تباعد المسافات بين أفلامه، خصوصاً في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، الا أن بدر المخرج الوثائقي عمر أميرالاي سوف يُفتقَد نسبة الى القيمة الفنية الكبيرة التي بثّها في أعماله، التي جعلته واحداً من أفضل من أنجبتهم السينما العربية في تاريخها، ليس على صعيد السينما التي انتمى إليها، بل على كل صعيد آخر أيضاً.
تمتّع المخرج الذي رحل يوم السبت الماضي بإلتزام لا يخالجه ريب للقضايا الإجتماعية التي أثارته فأثارها، كما حيال المستوى الفني الذي كان ملازماً لكل أعماله. هناك من يستعيض عن شروطه الفنية بالقيمة التي يكتنزها العمل على صعيد الطرح والقضية، لكن عمر أميرالاي، كما تُبدي أفلامه، كان مصرّاً على لغته البصرية الخاصة ويمنحها الثقة التي تتوخّاه لأجل أن تؤدي الدور المنشود منها.
هذا كله وسواه موجود في آخر أفلامه “الطوفان”، او، كما عنوانه الكامل: “الطوفان في بلاد البعث”. مقطوعة سينمائية مصوّرة بما يناسبها من لحظات صمت جميلة وجارحة، مشاهد طويلة تكشف عن المكان والزمان بلا تطفّل، وعين على الشواهد التي تؤيد ما ذهب الفيلم إليه من طرح.
حين حقق أميرالاي ذلك الفيلم الأخير في حياته، أقدم على خطوة سياسية وفنية كبيرة شكّلت منعطفاً في مهنته. سياسياً، وجّه نقده مباشراً وبلا مواربة، مع مزحات هازئة في بعض الأحيان، الى حزب البعث الحاكم، على نحو لم يفعله فيلم آخر. تحدّث فيه عن حلم تلاشى ووعود لم تتحقق. هذا ما رآه المخرج بعد 33 عاماً على تحقيقه فيلمه الأول، “سد الفرات”، الذي انساق فيه، بإعترافه، الى الإعتقاد بأن ذلك السد هو إنجاز حضاري كبير لبلاده وسبيل رخاء للقرى والمناطق المحيطة بالمكان. حسناً، بعد 33 عاماً عاد أميرالاي الى المكان ليكتشف وليكشف لغيره حقيقة مختلفة. لكن هذا الكشف هو أحد اهتمامات الفيلم. في الصلب أيضاً، وضع يطال البلد بأسره.
لا أنسى اللقطة الأولى للفيلم: بحيرة ذلك السدّ، وتعليق رجل يركب القارب وحده. على الغالب لم يرد الرجل نقل شكواه الى الكاميرا فيكشف عن شخصيّته، لذلك وضع المخرج الكاميرا على الشاطئ وترك الرجل يجذّف بعيدا في منتصف البحيرة. نسمعه يتحدث كيف أن البحيرة غيّرت معالم الطبيعة في تلك المنطقة. كيف طمرت قرى وخلفت مستويات معيشية غير تلك التي وعدت بها.
لا أنسى انتقال المخرج الى إحدى القرى وتصويره حياتها في لقطات محددة تنصبّ على مدرستها الرسمية. قرية اعتبرها المخرج صورة مصغّرة للوطن بأسره. فيها التقط المخرج، عبر مقابلات محدودة، ما يؤكد أن النظام التعليمي ذاهب في اتجاه وباقي العالم ذاهب في اتجاه آخر. كيف تتم صياغة العقل المقبل لجيل، عليه أن لا يعرف أكثر مما يُلقَّن. حصد الكلام الإنشائي الجاهز من أحد النوّاب ومن مدير المدرسة، ومزج ذلك بلقطات حول أجهزة كومبيوتر تم جلبها الى المدرسة، ثم تُركت مهملة. بين خطب تحفر في أذهان الطفولة، ملؤها التبجيل، وبين عتمة التنوير، تتذكّر أنه الوضع ذاته الذي رزحت تحته بلدان مختلفة حول العالم القريب. تلك الدول الشيوعية التي لم تختلف حالها كثيراً، أين أصبحت الآن؟
فنياً، نظرة الفيلم مبللة بالماء. عمر أميرالاي صوّر الماء جميلاً، هادئاً، محيّراً. بذلك ربط مضمون الصورة الطبيعية بمضمون القضية التي أثارها.
هل هناك داعٍ لأن نقول إن عمر أميرالاي كان في الميدان وحده؟ وإنه كان يستطيع تحقيق ما يُريد من أفلام وبمقياس موهبته الفذّة، لو لم يكن من مناوئ؟ كل ما كان عليه القيام به هو إعلان موقف مخالف لما أنجزه من قبل، ينضمّ فيه الى لمّاعي الصور… وحسناً، إصنع ما شئت.
عمر أميرالاي لم يحقق فيلماً آخر بعد “الطوفان”، ولو أنه امتلك أفكاراً. أعتقد أنه لم يملك التمويل الكافي، ولا شعر بأن الوقت مناسب لمعركة جديدة كتلك التي خاضها سابقاً وانتهت بحجزه ومنعه من السفر. مشكلتنا نحن المثقّفين والسينمائيين أننا مستأنسون لكوننا جزراً متباعدة. نعمل في الحياة بهدف واحد، لكننا نبعثر جهودنا، والا لكنا جعلنا هذا الخلاّق وسواه يشعر بحبّنا الكبير له في حياته، كما نفعل الآن في مماته ¶
م. ر.