قرمط يهذي بما لم يقله من قبل: دلمون ليست مقبرة والبحرين بلاد للشمس
فاروق يوسف
كنتُ في البحرين. عدت إلى البلدة القديمة برفقة صديقي الرسامين جبار الغضبان وعباس يوسف بعد عشرة أعوام من الفراق.
صحن من النخي ( الحمص المسلوق) في مقهى جلسنا فيه من قبل كان كافيا لارباك مخيلتي بالصور والابخرة والأفكار التي ظننتها قد اندثرت. أشفقت على حواسي حين شعرتُ باضطرابها الحزين. حيرتها هي مرآة لشعوري بما صار يتفتح من زهور في مناطق خفية من روحي. في كل سنتيمتر من الـ 750 كيلومترا المربع ( أقل بقليل ربما) هناك منجم لعاطفة ملتاعة. عاطفة تحرج من يتلقاها، باعتبارها هبة طبيعية من شعب غارق في طيبته وحنانه ورقته. شعب متواضع وكريم عرف كيف يكون الجزء الأكثر حساسية من الامبراطوريات العراقية القديمة، من غير أن تلسعه جمرتها إلا ما خفي منها. غير أن القرامطة وقد قطعوا الطريق أمام التاريخ متمردين على هيبة كل السلطات الارضية كشفوا ما كان يخفيه ذلك الحس المغامر من طموح خيال عادل. دلمون ( الاسم السومري للبحرين) مشت مع القرامطة في الطريق التي مشى فيها من قبل طرفة بن العبد. كانت ثورية شعبها من طراز خاص. العبث بالمقدسات الوثنية والذي صار جزءاً من عقيدة القرامطة لم يكن إلا تعبيرا عن رغبة شعب في صناعة مصيره بطريقة مختلفة. مصير تستقيم معه معادلة شعب يرى حياته في التماس السحري بين يابسة يعلو بها النخيل إلى السماء وبين بحر مظلم يلمع في أعماقه اللؤلؤ. قبل أيام من الانتفاضة الشبابية كنت أنظر إلى اللؤلؤة التي ارتفعت في الفضاء وأتخيل أيدي البحرينيين التي رفعتها. سلم خيالي يذهب إلى باب مفتوح في الجنة. دلمون كانت جنة متخيلة، يذهب إليها الموتى من السومريين ليستأنفوا حياتهم الحقيقية. حياة الخليقة مثلما تخيلها الخالق. سعفة نخيل اخترعتها يد خفية لتكون ملاذا لطيور مهاجرة من أمكنة غامضة. في تلك الليلة كنت عائدا إلى غرفتي في دار البارح حين رأيت القرامطة من جديد. هو ذا التاريخ إذاً يضرب مؤخرة حصانه بالسوط مرة أخرى ليغير اتجاهه. قالت صديقتي: ‘لم يتأخر الملاك الثائر عن موعده’. ليست البحرين مصر. ولم تكن مصر من قبلها تونس. كلام صحيح. لكل شعب طريقته في صياغة مصيره. كانت رياح التغيير قد هبت تلك الليلة.
2
كانت البحرين تقف وحدها دائما، بلدا ليس للبداوة موقع فيه. لم تكن عروبته موقع ارتباط ماضوي أو مصدر التباس مصيري. كان في ما مضى البلد الوحيد بين بلدان الخليج الذي لم تخدش التحولات الاقتصادية تركيبته السكانية وقبلها لغة أهله العربية. غير أن ما لاحظته هذه المرة يكاد لا يذكر بالبحرين التي عرفتها. كان الالتباس اللغوي هذه المرة أكبر من أن يتفاداه المرء. تسمع مزيجا من عربية ملحنة من أجل أن يفهمها الخدم والعمال الآسيويون ومن انكليزية انثوية باتت وسيطا بين فئات لحق بها الثراء مثل عاهة. ‘هل قُدر للبحرين وهي البلد العريق بكبريائه التاريخي أن تتشبه ببلدان ليس لها من الاستقلال سوى الاسم؟’ كنت أسأل صديقتي، وقبل أن تجيبني كان الهام الثورة قد أجابني. كان دوار اللؤلؤة يغص بالأقدام المحلقة والأجنحة الهائمة والأناشيد. ‘ليست هي ثورة خبز. هناك هوية مفقودة يسعى الشعب إلى استعادتها’ قالت صديقتي. هوذا شعب يلتف على لغته كما لو أنها شرنقة إذاُ. الفراشة هناك. لقد رأيتها من قبل. الجمرة تلسع قلب الوحش ونورها يملأ القلوب المتلهفة للحرية. ليست المواطنة سوى تعبير البداهة عن ذاتها. حين جلت بين المحتجين كان نغم العربية هو أكثر ما سرني في صرخاتهم. لقد قضيت ثلاث ساعات بينهم في دوار اللؤلؤ مستمتعا بسماع اللغة العربية وحدها سيدة للسان ديمقراطي يقول لاءه بحرية. كانت البحرين التي أعرف شيئا عظيما منها ماثلة أمامي. أسعدني أن تستعيد فكرة الهوية مكانتها لدى شباب لم يستمعوا إلى خطابات جمال عبد الناصر مباشرة. العروبة لم تكن إذاً اختراعا سياسيا كما يقول مثقفو الاحتلال في العراق. الهوية ضرورة وجود. شباب البحرين انتفضوا بسبب شعورهم بالخطر الذي صار يهدد هويتهم بالفناء. قالوا ‘لا للتجنيس’. وهو موقف يُراد من خلاله التصدي لمحاولات التلاعب بالتركيبة السكانية. لا يتعلق الأمر بالتفكير المذهبي. البحرينيون ليسوا متدينين إلى درجة التشدد. فهم لم يقفوا ضد خيارات الدولة المعاصرة، بل كانوا دائما سباقين إلى المعاصرة. في نهاية عشرينيات القرن العشرين افتتحت مدرسة لتعليم الاناث. ومثلما حدث في العراق تماما لم يكن سفور المرأة البحرينية نزعة نخبوية استعراضية، بل كان تعبيرا عن عمق الايمان بالمساواة التي هي مبدأ انساني تاريخي. لن تخيب البحرين المعاصرة فكرة دلمون عن نفسها. من المؤكد أن آل خليفة كانوا محظوظين حين قُدر لهم أن يحكموا شعبا عظيما لا يرضى أن يكون مجرد شعب خليجي يرضع النفط.
3
أحدهم كتب على الجدار كلمة المحرق واختفى. كرافيت يحدث في كل مكان. لكن الخضروات الهندية صدمتني. في المشهد ما يشي بالتناقض المصيري. الرجل الهارب كتب الكلمة رغبة منه في أن يتجاوز التعريف المباشر. كنا في المحرق ولا يحتاج المرء إلى أن يذكره أحدهم أنه يقف على أرض تلك الجزيرة. نحن في المحرق، لمَ يكتب أحدهم على الجدار كلمة المحرق إذاً؟ سألت جمال عبد الرحيم وهو المحرقي الاصيل وكنت أتذكر الاغنية العراقية التي تقول ‘الناس لو تسألني عنك شرد أجاوبهم، شكول’. سؤال الهوية كان واضحا في دوار اللؤلؤة. كانت للثورة هناك قدمان. وكان لها فم وأسنان وشعر طويل يصل إلى باب البحرين. الثورة صبية بعينين تلمعان. كانت البحرين دائما بلدا متعدد الأديان. معابد لليهود وكنائس للمسيحيين وجوامع للمسلمين وأيضا معابد للهندوس والبوذيين. هي شيء آخر تماما. شيء لا علاقة له بتاريخ الجزيرة العربية العريق. وهو لا يمت بصله لتاريخ المشيخات التي صارت دولا بعد الانسحاب البريطاني عام 1971. ربما كان ذلك الاستقلال مصدر حسد بالنسبة للجارات اللواتي لم يكن شيئا يذكر قبل اعلان استقلالهن بفعل انسحاب المستعمر البريطاني. ما فعلته تلك المستعمرات السابقات لم تفعله البحرين. الآن بعد أربعين سنة يعلن البحرينيون عن اختلافهم. هم ليسوا شعبا خليجيا وفق الوصفة التقليدية. حملة رسالة سماوية لم تستوف شروط عبقريتها حتى الآن. من المؤكد أن هناك خيانة جغرافية مبيتة. إيران بلد مزعج ومريب. الثوب الايراني لا يتسع للجميع، ولكنه مريح لمن يرغب في التبسيط. ايران بالنسبة للبحرين هي واحدة، شاهنشاهية كانت أم اسلامية: الوحش الذي يرغب في ابتلاعها. وهو ما يعرفه الشعب البحريني قبل الحكومة. كان هناك نفاق تاريخي تكذبه الجغرافيا التاريخية. البحرين كانت دائما بلدا مستقلا. لم يصنع القرامطة عروبته بل كان عربيا حين كانت العروبة مجرد فكرة. البحرينيون اليوم غاضبون من أجل عروبتهم. لقد شعروا أن هويتهم صارت في خطر. أمر لا علاقة مباشرة له بمن يحكم. هو سؤال مصير. البلد الصغير، الذي يكاد لا يرى على الخارطة يستخرج اليوم من منديل الساحر كلمة السر: الثورة.
القدس العربي