صفحات ثقافية

مدينة الفضاءات والهويّات المتداخلة: عن اسطنبول وأحوالها في شهر رمضان

null
اسطنبول ـ هوشنك أوسي وبرزان عيسو
لا تجد نفسك إلاّ مفتوناً بها. تمنحُك الكثير من الدهشة والانبهار، والأكثر من الالتباس والحيرة والتساؤل. السير في شوارعها وحاراتها، يوقعك في شركِ، إنّك تسير نحو الشرق والغرب في آن. تسيرُ في اتجاهين متعاكسين، ولست واقفاً مكانك!. فيخامرُكَ الظنُّ، بأنَّها علمانيَّةٌ غربيَّة، تسيرُ نحو الشرق، ويساوركَ الشكّ، بأنَّها إسلاميَّةٌ شرقيَّة، تسيرُ نحو الغرب. وفي تلازم المسارين وتقاطعهما، تحيلك اسطنبول إلى جمالها، كي تكفّ عن طرح الأسئلة، لينتهي بك المطاف إلى القول: إنّها نسخة مصغَّرة من الموازييك التركي، أو نسخة من هويَّة تركيا، التي كان رئيسها الراحل تورغوت أوزال، يتمنَّى لو كان اسمها الأناضول، بدلاً من تركيا، لكون اسم الأخيرة، آتٍ من العنصر القومي التركي وحسب، ولا يعكس كثرة التنوّع القومي والإثني والديني والمذهبي، الذي تزحر به السجَّادة الحضاريَّة والثقافيَّة لهذا البلد.
في هذه الأيَّام الفضيلة، من شهر رمضان المبارك، ترتدي اسطنبول حلَّة قشيبة من الطقوس والاحتفالات الدينيَّة والثقافيَّة، يتداخل في أجوائها ما هو غربي، بما هو شرقي، ما هو سياسي ـ قومي، بما هو ديني. ولكلّ مواطن تركي، أو لكلّ زائر لاسطنبول، رأيه وتفاعله مع ما يشاهده. ومع تطابق أو تباين أو اختلاف الآراء والمواقف، تبقى اسطنبول، درَّةً، تطفو على ساحل الأبيض المتوسط، مُتوسَّطةً قارتين، وحضارتين، وثقافتين…الخ، ومنشغلة في إبهار زوَّارها، أكثر من انشغالها بمشاكلها وملفّاتها الداخليَّة.
رويداً، تنحدر الشمس نحو المغيب، ومعها يزداد الازدحام في شوارع اسطنبول. وسائط النقل العامَّة؛ ترانفايت، باصات، ميكروباصات، تعاني من الاحتشاء، نتيجة الزحمة. الأرصفة، تناهبتها الطاولات والكراسي، التي هي تتمّة لمطاعمها، الكثيرة جدّاً في هذه المدينة. طابور طويل من الناس، ينتظرون دورهم للدخول إلى خيمة الإفطار، التي تقدّم الطعام مجّاناً للناس. وبعد تناولنا لطعام الإفطار في الخيمة التي تشرف عليها غرفة الصاغة باسطنبول، والكائنة في حي تشمبرليتاش، انحدرنا جنوباً نحو حي سلطان أحمد.
نشاط ثقافي
قريباً من جامع سلطان أحمد، أو “الجامع الأزرق”، كما يسمُّونه، في حي سلطان أحمد، نصبت بلدية فاتح التي يسيطر عليها حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) الحاكم، مسرحاً في الهواء الطلق، يتّسع لـ300 شخص تقريباً، يقدِّم عروضاً مسرحيَّة، تتناول التاريخ العثماني، وعظمة الأتراك العثمانيين، وبطولاتهم ودورهم وتأثيرهم في الحضارة الإسلاميَّة…الخ. وعلى مدخل المسرح، نجد آيهان كراجاه، رجل تركي في العقد الرابع من عمره، جالساً على كرسي، وأمامه طاولة بسيطة، ويكتب الآيات القرآنيَّة، على بطاقات كرتونيَّة، وعلى أطباق الزجاج للبيع. ذكر، أنَّه يجيد القراءة بالعربيَّة. وأنَّه يزاول هذه الحرفة منذ ثلاث سنوات. وقال لـ”المستقبل”: “أساساً، أنا رسَّام كاريكاتير. فقط في شهر رمضان، بعد الإفطار، أجلس هنا، لكتابة الخطّ العربي. أمَّا في الأوقات الأخرى، أرسم الكاريكاتير. ونشرت صحف عديدة رسومي، كصحيفة (زمان). هناك أطباق أبيعها بـ2،5 دولار، وأخرى بـ5 دولار”. وأضاف: “أرسم عادة الكاريكاتير في الهواء الطلق. وهذا يضمن لي مردوداً مادياً أفضل”.
بين جمهور المتفرّجين على العروض المسرحيَّة، رجل في العقد السادس من عمره، ملتح، يعتمر قبَّعة إسلاميَّة، رفض التحدُّث إلينا، والإجابة على أسئلتنا، ورفض ذكر اسمه وسنِّه، لكننا لم نتركه وشأنه، وبقينا مصرِّين على انتزاع شيء منه، فقال بامتعاض: “أنا لا أعلم شيئاً، ولا تسألني عن أي شيء”. ذكر أنَّه يعمل في شركة النقل العام. وأضاف: “هذا المسرح يقوم بعرض تاريخنا, التاريخ العثماني، فقط في شهر رمضان”. وحين سألناه: المسرح، يعرض الآن موسيقى غربيَّة (بوب)، تهزُّ المقاعد، أجاب الرجل: “لا أحبها. ولكني مجبر على سماعها، لأنّ هناك عروضاً أخرى انتظرها”. وعلى خشبة المسرح، رجل يمارس بهلوانيّات وألعاب خفَّة، مصحوباً بموسيقى صاخبة، تتقاطع مع آذان صلاة العشاء، الآتي من الجوامع. فسألنا صاحبنا: عادةً، الناس يذهبون الآن لصلاة التراويح، وأنت جالس تسمع موسيقى، وتشاهد ألعاب خفَّة.. لماذا؟، فأجابنا منزعجاً: “هناك من يذهب إلى أداء صلاة التراويح، وهناك من لا يذهب. وأنا ممن لا يذهبون”.
توم لافور (30 سنة) سائح فرنسي، بصحبة مجموعة من السيَّاح الفرنسيين، يلتقط صوراً فوتوغرافيَّة لفرقة تؤدّي رقصة السماح “المولوي”، ذكر أنّه وصل اليوم إلى تركيا. وأبدى إعجابه الشديد بالأجواء الرمضانيَّة في اسطنبول، قائلاً: “أنَّها جميلة جداً، وأحبَّها كثيراً”. أمَّا دريا بالدر (23 سنة) والتي تعمل معلمة صفّ إبتدائي، وصديقتها وزميلتها في المهنة، خديجة كوجوك تراكجه (30 سنة)، فتاتان محجَّبتان، تشاهدان رقصة السمَّاح، أبدتا إعجابهما بأجواء شهر رمضان. وحين سألناها، عن رأيها بالموسيقى الغربيَّة الصادرة من المسرح المجاور، أجابت دريا: “هذه الموسيقى، لا تناسب الأجواء في رمضان. إنه شيء شاذ، أو شيء مضاف لاحقاً للوحة الموجودة هنا. أمّا غيرها من العروض الدينيَّة، فهي جميلة”. وحين استدركنا متسائلين؛ أنّ المسرح هنا، تنظمَّه وترعاه بلديَّة فاتح، التي يسيطر عليها حزب العدالة والتنمية الإسلامي، وهذه البلديَّة تابعة للبلديَّة المركزيَّة لاسطنبول، التي يسيطر عليها الحزب الحاكم أيضاً، أجابت بالدر: “في بعض الاحتفالات، هناك أجواء وتقاليد خاصّة. أمّا هنا، فكائناً من كان المسؤول، اعتقد أنّه يجب أن تكون هناك عروض ذات معنى، وملائمة للوحة الموجودة في منطقة سلطان أحمد. مثلاً، نشاهد الآن عرضاً يشير إلى التراث العثماني، (تقصد رقصة السماح). أمَّا المسرح، فهو مستورد، وغير ملائم للأجواء هنا”.
إشارات
الأبواب الرئيسة لجامع سلطان أحمد، أو الجامع الأزرق، يزيّنها علم تركي كبير، بلونه الأحمر، وهلاله ونجمته الأبيضين، عدا عن أعلام تركيّة صغيرة، موزّعة في بعض زوايا فناء المسجد، في ظاهرة غريبة، قلَّ نظيرها في العالم الإسلامي. باحة الجامع، مكتظَّة بالزوار، وجلُّهم من السيَّاح الأجانب، الذين يلتقطون الصور الفتوغرافيَّة لما يرونه. ومنهم، من يدخل حرم الجامع، لالتقاط الصور للمصليّن، وكأنَّها طقوس فلكلوريَّة، تراثيَّة، ينبغي التقاط الصور لها!. في باحة المسجد، معرض كتاب، تطغى عليه الكتب الإسلاميَّة.
حق الدين لقمان، وكيل دار “يني أفوكلار” للنشر، ذكر أن داره مستقلّة، وغير تابعة لجهة حكوميَّة أو سياسيَّة، وتقوم بطبع وتوزيع وبيع كتب المدير السابق لمديريَّة الأوقاف في الجمهوريَّة التركيَّة البروفسور سليمان آتيش، فقط”. ويضيف لقمان: “يُقام هذا المعرض، في شهر رمضان المبارك، ويستمرّ لأثنين وعشرين يوماً، وتشرف عليه المديريّة العامّة للأوقاف والشؤون الدينيَّة التركيَّة. اعتقد أنّ مئة دار نشر مشتركة في هذا المعرض. وأكثرية الكتب التي تعرض هنا هي دينيَّة”. وحول نسبة المبيعات، يقول لقمان: “إن المبيعات ليست في المستوى المطلوب. بسبب الأزمة الاقتصاديَّة”. والجدير ذكره هنا، ألاّ وزارة للأوقاف في تركيا، بل هي مديريّة تابعة لإحدى وزارات الدولة
في المعرض، وأمام دار اسطنبول للكتب، يقف سليمان قهرمانأوغلو (45 سنة)، يتصفَّح كتاباً، وتكلَّم معنا بعربيَّة مكسَّرة، وضعيفة للغاية، لكنّه أراد أن يتحدّث بها، بدلاً من اللغة التركيَّة. وذكر أنَّ أصله عربي، من محافظة سيرت، جنوب شرق تركيا. أشار قهرمان أوغلو إلى أنّ هذا المعرض أصبح طقساً رمضانيَّاً في اسطنبول، وينتهي في ليلة القدر”. وحول حضور بعض المظاهر الغربيَّة في الطقوس الرمضانيَّة في اسطنبول، قال قهرمانأوغلو: “لا يمكننا اعتبارها طقوس غربيَّة. المسألة مرتبطة بالأمور الدينيَّة. لا يختلف الأمر كثيراً بين الغرب والشرق. الدين عالمي. في الدين، هناك جوانب كثيرة, تنسجم مع الحداثة. وثمّة جوانب تقليديَّة. وكلّ الجوانب، لها الحضور في المجتمع التركي”. وحول سؤال: عندما يتجوّل المرء في تركيا يلتبس عليه الأمر؛ هل تركيا تسير من الغرب إلى الشرق أم العكس؟، أجاب قهرمانأوغلو: “تركيا دولة علمانية. هناك فصل بين الدولة والدين. يعني القوانين وشؤون الدولة مختلفة عن الدين، لا تحكم فيها الشريعة. الناس هنا، يعيشون إسلامهم الاعتيادي. من يريد أن يعيش على النمط الغربي بإمكانه ذلك. الناس أحرار في خياراتهم. أنا عربي وشرقي، وفي الأساس مسلمون. نعيش حياتنا على هذا النحو، ولا نتعرض لأيّة ضغوط تجبرنا على اختيار نمط ميّعن من الحياة. أنا شرقي وأعيش الحياة الشرقيَّة الآن. وأرجِّح تركيا شرقيَّة. ليس للعلمانيَّة في تركيا تأثير علينا, نحن نعيش حياتنا بشكلها الاعتيادي”. وبشيء من التردد والقلق، اختتم كلامه، وكأنَّه يبقُّ بحصةً عالقةً في حلقه، قائلاً: “شخصيَّاً، لا أرجّح العلمانيَّة، ولا أحبّها”.
عائشة آيدغدو (27 سنة)، محجَّبة، تعمل في دار “بروفيل بيرو” للنشر، ذكرت أنّ دارهم، لا تقتصر على طباعة وبيع الكتب الدينيَّة، بل السياسيَّة والأدبيَّة، التركيَّة، والمترجمة أيضاً. ولم تجد آيدوغو غرابة في وجود الأعلام التركيَّة على أبواب المسجد، وفي فنائه، وبررت ذلك بالقول: “في 30 آب، نحتفل بعيد النصر، ونعلّق علمنا في كل مكان. وداخل الجامع أيضاً. لأن رايتنا مقدَّسة بالنسبة لنا. من الممكن ألاّ يكون العلم الوطني، في الدرجة الأولى من الأهميَّة في الدول الأخرى، إلاّ إنَّ رايتنا مهمة، ومغسولة بدماء شهدائنا، ولشدَّة ما نكنُّه لها من احترام، هي معلّقة هنا”. وحين ذكرناها، بأنّ كل البلدان والشعوب الإسلاميَّة، تكنُّ احتراماً شديداً لراياتها الوطنيَّة، وأن هذه الرايات، هي أيضاً مرويَّة بدماء أبناء تلك الشعوب، لكنّها لا تعلِّقها في الأماكن الدينيَّة، ردّت آيدوعو: “هكذا نحن نفكّر، ونؤمن. رايتنا يجب أن تُرفع حتّى في الجوامع”، قالتها بشيء من العصبيَّة.
غير محجَّبات
ياغمور يلماز (22 سنة) طالبة السنة الأخيرة في كلية علوم السياسيَّة بجامعة اسطنبول، تتجوّل في باحة الجامع، مع صديقتيها، سيفيلاي بالكجي (22 سنة) طالبة في كليَّة علم النفس بجامعة اسطنبول، وياسمين غول (23 سنة). علَّقت يلماز على وجود العلم التركي في الجامع، نافية أيَّة دلالة سياسيَّة لذلك، وأنَّه ليس مخالفاً للدين، بالقول: “لا أجد في ذلك أيّ إشكال. مثلاً، عندما يسجّى الشهداء بالعلم الوطني، هذا أيضاً له خلفيَّة دينيَّة في الإسلام. لقد أولى الإسلام أهميَّة لذلك. ومسألة وجود الراية في الجامع، تثبت وتؤكّد التماسك القومي والشعبي والديني في تركيا. وهي مسألة بعيدة، عن السياسة”. وفي مسعى تبريرها لظاهرة العلم، اعتبرت يلماز فناء الجامع “الحوش”، ليس جزءاً من الحرم!.
نحو الغرب
وحول التغييرات التي طرأت على الأجواء الرمضانيَّة في تركيا، وألا يعكس ذلك حدوث تغيُّر في نفسيَّة الإنسان التركي، أجابت سيفيلاي بالكجي، الطالبة في كلية علم النفس: “برأيي، هناك توق كبير للتوجه نحو أوروبا والغرب، لدى الجيل الشاب، فيما يخصّ نمط اللبس والكلام والتفكير الكتب التي يقرأونها. لسنا محجّبات ولكننا نصوم ونصلّي ونقرأ القرآن الكريم”. وقاطعت يلماز صديقتها بالقول: “يختلف تفسير القرآن من بلد إلى آخر. مثلاً مسألة الرجم في بعض البلدان التي تحكمها الشريعة الإسلاميَّة، اعتقد أنّه شيء غير مناسب للإسلام. باعتقادي أنّه دخل الإسلام من جانب بعض القوميَّات، وهي مجرد خرافات، ولا يوجد شيء كهذا في الإسلام الحقيقي. نعتقد أننا فهمنا الإسلام بالشكل الصحيح. ننظر إلى الآيات والتفاسير، ولا نضيف إليها. قطعاً، أن مقتل شخص على يد دولة، فيه الكثير من الذنب. أدخل العرب أمور كثيرة إلى الإسلام بما تنسجم وعاداتهم وتقاليدهم، بحيث جعلوا الحجاب كلمة ترادف في معناها ودلالتها الإسلام”. وحين استدركنا يلماز بتساؤل؛ حول سعي حكومة حزب العدالة والتنمية، إلغاء قانون الحجاب، ليجيز دخول المحجّبات للأماكن الرسميَّة، ردّت يلماز بالقول: “ألغت الحكومة قانون الحجاب لفترة معيّنة في تركيا. ونحن مع هذا القرار. على الكلّ، ممارسة قناعاته. إذا أرادت النسوة أن يتحجبن، ليكن لهنّ ذلك، على ألاّ يتدخلن في أمور تمسّ طبيعة الدولة. في فترة من الفترات خرجت جماعة “حزب الله”، وكانت في منتهى الخطورة، ارتكبت تحت عباءة الإسلام الكثير من الجرائم هنا. يجب النظر إلى جوهر الإنسان، وليس إلى الحجاب ومظاهره. يبقى أن نقول: إن الإسلام هو دين الحرية. لا أقرأ القرآن الكريم بدون حجاب. وأصوم. وسأجازى بالثواب في الآخرة”. وفي حمأة دفاع الفتاة التركيَّة عن الحريَّة، التي أجازت لها دخول الجامع، دون حجاب، والتي تمنع دخول المحجَّبات الحرم الجامعي، كان العلم التركي يرفرف فوق رؤوسنا، ونحن نخرج من جامع سلطان أحمد باسطنبول، مدينة الفضاءات والهويّات المتداخلة، حدّ الالتباس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى