كلمات تنظر إلى الشمس
عناية جابر
بحّة في الصوت سادت الجّو، وبدت علامة فارقة لكل أصوات المصريين الذين استضافتهم الأقنية التلفزيونية، ولكل من حاورتهم في وسائل الإعلام المرئية منها والمسموعة، في الاستديوهات، أو من التقت منهم في ميدان التحرير وسائر شوارع القاهرة والمدن المصرية. بحّة مجروحة لكن منتصرة. بحّة صوت طيبة
وشجية، وسببها انجراح الأصوات من الهتاف العالي لحرية مصر وكرامتها، وبحّة تُقصّر عنها حلاوة بحّات أصوات أهمّ المطربين والمطربات في تاريخ مصر الفني. بحّة غير مُضلّلة تشّع بحنان شديد، يقول أصحابها للعالم إننا موجودون هنا منذ ملايين وبلايين السنين، وشهدنا كل أنواع الفساد، وصبرنا على الذل والإقصاء، ونُزعت عنّا كراماتنا وجعنا، وشهدنا على كل ما يجري، حتى فاض بنا، وانظروا، إننا نسطع الآن بسلام، نضيء الدرب لأبنائنا، نرفع الصوت واحداً في سبيل جرعة من حياة جديدة.
أصوات بكل ذبذبات العذاب وأصوات مُعاندة لامعة متلألئة، مسكونة باكتشافات. أصوات تنشج بجنون، مجنونة من الألم. أعذب بحّة سمعناها، لكنها نيزك أيضاً، ضرب الجزء التالف من مصر، ونسف الخراب المتراكم، نسف كل ما يوجع. بحّة هي نيزك طيّر أوهام الخوف. بحّة هي مرتع جميل، وكلما كنّا نصغي عميقاً إلى تلاوينها، نغدو أكثر معرفة بوجهتنا الصحيحة.
أعتذر من كل الفايسبوكيين والتويتريين واليوتوبيين لأنني كنت آنف الانضمام إلى نواديهم ومشاركتهم مشاغلهم بحجة أن مشاغلي أهمّ. أعتذر منهم من كل قلبي، لا سيّما أن مشاغلهم كانت تُحضّر لبهجة ما كنت في حسبان لقياها أبداً. بعد اليوم، كل رسالة تدعوني إلى صداقتها سوف أسارع إلى امتنانها ولن أستعمل كبسة الـ«ديليت» بعد، أبداً.
الفايسبوك وعالمه الافتراضي، تجاوز العالم الحقيقي ودخل أحشاءه، وفيه قرأنا وشاهدنا وسمعنا، شهادات إنسانية من أبناء المجتمع المصري، على التدمير الفظيع الذي أوقعته الطغمة الحاكمة في إنسان مصر وفي حضارته واقتصاده ومستقبله وأرضه وروحه. عالم افتراضي وقع فيه شهداء حقيقيون، افتراضي لكنه أكثر من حقيقي كسر طوق الصمت والمحرّمات جميعاً.
نعم لهذه الهبة الهامّة في إطلاق طاقات الإنسان، طاقات الشباب وتحريرهم من كل ما أبهظهم، سواء على صعيد الفساد المستشري، أو ميراث التخلف الاجتماعي وسطوة رجال المال. فايسبوك يفيدنا أكثر من آلاف الكتب السياسية والاقتصادية والفكرية والثورية والفلسفية. مرحباً، أجل بهذه النافذة الواسعة تطلّ بنا على الحرية وعلى العالم الواسع.
من قال إننا نفتقد شعراء أغنية جميلة؟ انظروا ما أكثرهم وسط المتظاهرين الذين هتفوا لحرية مصر. شعراء أغنية ما كنّا نعرف عن روح شاعريتهم شيئاً، نبتوا فجأة في ثورتهم المصرية، وأسمعونا كلمات تنظر إلى الشمس من جديد. كلمات حمراء، وكلمات حنونة وكلمات تستكشف الأفق، في تبادل معاني داخلها وخارجها، لمّا التوازن لم يعد هدفاً، بل الجمال، وتدمير الرتابة، والرثاثة. كلمات كأحجار ثمينة عليها نقش فاخر، وكلمات مرحة وساخرة كلها في جُمل واضحة مسكونة بالإصرار والأمل. كيف أمكننا الحلم بسماع كلمات كهذه؟ كيف قُدّر لها أن تنهض هكذا، قريبة وسلسة ووقعها أبيض تماماً، ونضر كزهرة ماغنوليا.
كلمات جديدة تمشي على الزجاج، مفتوحة العينين حتى آخرهما تحّدق في المستقبل المشرق. كلمات تندفع أمام أصحابها خارجة من أصوات حلقية وصدرية ورأسية
عالية. كلمات خرجت أخيراً من رحم الحناجر إلى رحم الوطن الكبير.