ولدي ما أقوله لك يا خولة…
إياد العبدالله
هل تعرف خولة أن لإياد (الصغير آنذاك) ذاكرة مع اعتقالها؟
أتذكر تلك الأيام يا خولة. أتذكر قدومك إلى بيتنا. أتذكر كيف كنت صديقتي. وأتذكر كم كنت أحبك (ولا زلت).. وكذلك كل أفراد بيتنا. كنا عندما نريد الذهاب إلى “البستان”، لا طريق نذهب فيه إلا ذلك الذي يمر من أمام بيتكم.. ننظر إلى البيت، ونقول ببراءة: “هذا بيت خولة”. نركض صوبك عندما نراك اقتربت قادمة باتجاهنا.. أيامها كنت تدرسين على طريق البساتين… هذه كانت عادة الصبايا والشباب في قريتنا، ولا أعرف إذا بقيت حتى الآن؟
في تلك الأيام لم تكن خولة تحدث صديقها الصغير بالسياسة… كانت تمازحه.. وكان يحبها كثيراً.. (إياد عنده صديقة أكبر منه).. نتف من هنا وهناك كنت أسمعها.. ابن فلان في السجن.. وفلانة في السجن.. وفلان لا احد يعلم أين أراضيه!!! وكان هذا الكلام يشدني للاستماع إليه، وعندما اسأل عن السبب؟ لم أكن الق جواباً في أحسن الأحوال.
آنذاك.. كنا نلاحظ كيف كان الكبار يتهامسون. ويضحكون علينا لكي نبتعد، وإذا لم نفعل.. فالتهديد بالعقاب كان الحل. ورغم ذلك، استطعنا أن نلتقط نتفاً من هنا وأخرى من هناك.. لننسج نحن الصغار عوالماً تخصنا وتريحنا..
سمعنا مثلاً أن أحد الأقرباء خارج البلد.. وهو مطلوب حياً أو ميتاً (بصراحة هذه الأخيرة لا أعرف إن كانت منا نحن.. أطفال ذلك الزمان).. وأنه استطاع الوصول إلى الاتحاد السوفيتي ويعيش هناك… وأذكر هنا حادثة طريفة لا زلت أحبها، وتخص هذا الرجل الذي لم يعد حتى الآن. كنا نجتمع نحن الأولاد ونتحدث عنه… ونجعله بطلاً… ومرة كذب ابن خالي وقال لي: أن ذلك القريب هو صديق مارسيل خليفة!! أصابني الجنون من الفرح وقتها.. ماذا تقول يا هذا؟ طلبت منه أن يحلف: فحلف بالله وبأغلى ما عنده.. وأكمل كذبته قائلاً: أغنية (أحن إلى خبز أمي) هو من ألفها وكتبها!! حينها: يا رب السموات والأرض.. هذه أكثر أغنية كنا نرددها.. وطلبت منه أن يحلف أيضاً، فأغلظ بأيمانه .. ولكي يسكتني، قال لي وهو يتحرك حركات الخبير الذي يحلل ويثق من تحليله: ” إذا انتبهت عالقهوة يلي بتعملها ستي.. شفت ما أطيبها!! وكمان الخبز يلي بتعملوا”!!. سكت حينها واستسلمت لخبر يفرحني أشد الفرح.. وأنا الذي لا أعرف شيئاً عن القهوة آنذاك.. ولا رأيت أحداً يخبز في حياتي من عائلتنا!!! لتستمر هذه الكذبة معي لفترة طويلة، حتى فاجأني احدهم وقال لي بعد أن ساررته بسر الأغنية ذائعة الصيت.. فقال لي: “ولكنها لمحمود درويش”. قلت: لا.. قال: “هي له.. ابحث جيدا عن الموضوع”.. رايته واثقاً حينها.. فأحبطني.
ومثلاً، ما كنا نسمعه عن عمي.. بأنه سجن لفترة ولوحق وفصل من وظيفته. وما أذكره عن هذا العم.. أنه كان يضع صورة مذهبة للينين في بيته.. وأخبرنا أن هذا هو: جدو لينين!.. فمن هذا الجد الأصلع الذي لم نراه في حياتنا.. لنبدأ جولة جديدة في التخيلات ونسج الحكايات عن هذا الجد الذي يعلق عمي صورته.. ولا يعلق صورة أبيه.
لم يتأخر كثيراً أن تطور الأمر ليقترب الخطر أكثر قرباً، استشعره بغريزة طفل تعلم أن يراقب وجوه من حوله.. كانت المرة الأولى يوم استدعيت أمي إلى الأمن السياسي في حماه. ذهبت.. البيت امتلأ بالناس.. جدتي لم تجلس.. تذهب وتأتي وتقول: يا رب… يا خضر .. يا فلان ويا فلان. لنراها تدق فجأة على صدرها بألم عاقل وصامت… وأبي الذي يجلس كالتمثال وينظر إلى الأرض.. وغيرهم الكثير، أقرباء وغيرهم. عمي لم يأت في البداية. الصمت سيد المكان، إلا من كلمات يطلقها بعض الحاضرين بأوقات مختلفة، من مثل: انشالله ما فيه شي، انشالله ما بتشوفوها غير فاتت…
ذهبت أمي صباحاً وعادت ليلاً… ضمتنا وبكت قليلاً.. ودخلت صامتة ترد عنها أسئلة السائلين.. بأنه لا يوجد شيء.. الحمدلله ما فيه شي.. لا تريد أن تتكلم.. تريد أن تبقى مع أولادها في بيتها وحسب.. ذهب الناس.. وبقينا نحن.. طرد الصغار كالعادة.. واجتمع الكبار وأخذوا يتهامسون.. ما أذكره أن عمي جاء حينها.. بطقمه الجينز.. وعلامات الفضول تكاد تقتله.. قال: سألوك عني شي؟ أحبت أمي أن تمازحه، فقالت لم يسألوني إلا عنك! وقف بجمود واضح وعيناه جاحظتان.. ضحكت أمي وقالت له تعال… سألوني ولكن عادي.. سألوني عن الكثير! وانضم إلى الكبار.
الإحساس بالخطر اقترب مرة أخرى عندما بدأ القلق يضرب أفراد العائلة كلها… فإحدى قريباتي مطلوبة.. وهي متخفية.. الناس لا تهدأ.. الكبار يلتقون ويتحدثون.. ونحن الصغار لا نعرف إلا أن فلانة ملاحقة.. لتقع في قبضتهم بعد فترة من الزمن.. وليبدأ البكاء بصمت عليها.. ولكنها ستخرج بعض أشهر.. لأن الشاب الذي لوحقت بسببه لم يعترف عليها.. هذا الشاب من قريتنا أيضاً.. واكتفى بالقول أن علاقته معها بحكم أنها “بنت الضيعة”.. ستنتظره هي ثلاثة عشر عاماً هي مدة سجنه.. ليتزوجا بعد ذلك.. أذكر قصة لا تذهب من بالي حول هذه الفتاة.. كانت تنتظر هذا الشاب وكثير ممن حولها يضغطون عليها لكي “تشوف حياتها”.. ولكنها لا ترد على أحد. أمي كانت الأقرب إليها.. وفهمت حبها له.. ولكنه تأخر في السجن. مرة قالت لها أمي: ” إلى متى ستنتظرين؟” ردت قريبتي وهي مطرقة: ” سأنتظره حتى يخرج”. قالت أمي: “لكنه قد لا يخرج بسنوات طويلة… والأيام تمضي.. وهو قد يتغير في سجنه”. بكت القريبة، وقالت: “أنا أحبه… وهو يحبني… لا أتخيل في يوم من الأيام أن أكون مع رجل آخر.. لا استطيع أن أتخيل أنني أمشي في الشارع مع رجل آخر وأولادي منه، ثم ألتقي بـ… في الشارع!! لا استطيع”. هدأتها أمي… ضمتها.. وبكت معها.
المرة الثالثة من الإحساس بالخطر، كانت لحظة اعتقالك يا خولة. وقتها لم تجتمع العائلة. عائلتك فعلت هذا بكل تأكيد. يوم سمعنا باعتقالك.. دقت أمي على صدرها، وقالت كمن صعقت بتيار كهربائي: لا!! وطلبت من الذي أخبرها أن يجلس.. لم تنتبه لوجودي لذلك لم تطردني. وأخذت تسأله: ” كيف وإيمتا وليش ووو؟؟؟”. وبعد أن ذهب، أخذت تبكي وتدخن بشراهة، لم أجرؤ على سؤالها عن شيء.. ثم بعد قليل قالت لي: ” بتروح معي يا إياد؟” قلت: “إلى أين؟” قالت بنبرة حادة: “بتروح؟”.. لم اذهب.. وعرفت بعد ذلك أنها ذهبت إلى بيتكم. ويوم خرجت يا خولة أذكر فرح أمي وهي تقول: “الحمدلله!”. وأذكر فرحي أيضاً. ولكنني لم اعد أراك.. فحلب سرقتنا وأنت أقمت في دمشق. أذكر أول مرة رايتك بعدها. كنت جالساً في البيت في القرية، في الصيف، لوحدي.. دق الباب الخارجي… نظرت من الداخل باتجاه الباب.. وإذ بصبية تلبس نظارتها الشمسية وتدخل.. اقتربت واقتربت هذه الصبية وأنا أتساءل عمن تكون؟ اقتربت إلى الباب الداخلي لاستقبلك خلعت النظارات عن وجهك: خولة!! عانقتك وفرحت بك. جلسنا في الصالون وسألتك عن الاعتقال… لم تحدثيني كثيراً عنه. حدثتني عن الجامعة، وعلى ما اذكر عن دورة في الآلة الكاتبة ووو… أمي لم تكن في البيت.. قلت سأعود لأراها.. وغادرت.. لتبدأ رحلة الغياب مرة أخرى.. حتى سجلت في جامعة دمشق.. والتقيت بصديقة من أيام الدراسة في القرية عندما كنا أطفالاً.. سألتها عنك.. قالت بيتها قريب.. سآخذك إليه.. ذهبت… رايتك.. فرحت بك.. ولا زلت أحب بيت المزة حتى الآن..
كل ما ذكرته أعلاه حصل معي، ولكنني لا أدري دقة تفاصيله مع أني أعيش هذه التفاصيل كأنها حصلت بتمامها وكمالها. فهل هي كذلك؟ أم أن هناك بعض هذه التفاصيل تداخلت مع غيرها، أو مع بعض الخيال؟ لست أدري بالضبط.
محبتي لك خولة.