الشباب التونسيّ يتحدّث عن ثورته
(ندوة خاصّة بـ الآداب من إعداد وتقديم: غسان بن خليفة)
مشهدٌ جديدٌ من ثمار ثورة الكرامة التي قام بها الشبابُ التونسيّ: تدْخل الجامعة، فلا يعترضُك عناصرُ الأمن الجامعيّ، ولا يحقّقون في هويّتك. قاعة محمود المسعدي بمكتبة كليّة 9 أفريل للعلوم الإنسانيّة ممتلئة بشبابٍ طلاّبيّ. الجمهور يحْضر ندوة عُقدتْ من دون أن ترخّصها إدارةٌ ممتثلةٌ لتعليمات السلطة. ندوة شبابيّة من أوّلها الى آخرها، موضوعًا وشكلاً، إدارةً وضيوفًا وحضورًا. لا شكّ في أنّ ثورة ما قد حدثَتْ هنا!
غسّان بن خليفة: باسم مجلّة الآداب، أرحِّب بالحضور الكريم. كما أرحّب بضيوفنا، وهم شبابٌ شاركوا، بهذا القدر أو ذاك، وبأشكالٍ مختلفة، في ثورة الشباب التونسيّ من أجل الحرّية والكرامة. هم أيضًا من خلفيّاتٍ متنوّعة: فمنهم المتحزّب، ومنهم المستقلّ سياسيًا؛ منهم من يساند الحكومة الموقّتة التي تشكّلتْ إثر فرار الرئيس المخلوع بن عليّ في 14 جانفي، ومنهم مَنْ يعارضها ويطالب بإسقاطها؛ منهم من شارك في تأطير التحرّكات منذ انطلاقها في الجهات المحرومة، ومنهم مَنْ وُجد في العاصمة أو جهات الساحل؛ منهم مَنْ شارك إعلاميًا عبر موقع فيس بوك وغيره، ومنهم مَنْ شارك ميدانيًا. هذه الندوة تهدف، إذن، إلى محاولة استطلاع آراء طيفٍ ممثّلٍ للشباب التونسيّ الذي قام بالثورة حول واقع ثورتهم ومستقبلها. وسنطرح الأسئلة التالية على محاورينا:
كيف تروْن ما وصلتْ إليه الثورةُ اليوم مقارنةً بما كنتم تطمحون إليه؟ ما السبيلُ إلى تحقيق أهدافها: إعطاء فرصة للحكومة الموقّتة أمْ مواصلة الثورة؟ ما المهامّ المطروحة في المرحلة القادمة؟ كيف يرى الشبابُ التونسيّ تداعياتِ ثورته على المنطقة العربيّة؟ هل يجب تصديرها؟ وماذا عن فلسطين؟
المحور1: دور المحاورين في الثورة ووصفهم لظروف اندلاعها
ليلى ڨيڨة (أستاذة شابّة في الفنّ التشكيلي بمعهد الفنون الجميلة بسوسة): لن أتحدّث عن نفسي ودوري، بل عن الشباب الذين شاركوا على الإنترنت في الثورة. هناك المدوّنون وشبابُ الفيس بوك. هؤلاء أغلبُهم غيرُ مسيّس، غير أنّهم وعوا في السنوات الأخيرة أنّ بين أيديهم وسيلةً مهمّةً للتعبير عن آرائهم. لكنْ، قبل أن أواصل الحديث، أنوّه إلى أنّ العديد من المشْرفين على صفحات فيس بوك رفضوا، عندما اتّصلتُ بهم للحديث باسمهم، أن يعرّفوا بأسمائهم؛ فبالنسبة إليهم لم يكن دورُهم ذا قيمةٍ مقارنةَ بما قام به الشبابُ في الميادين في الجهات المحرومة.
الثورة، في جانبٍ منها، ثورة إعلاميّة، وقد رأينا إرهاصاتِها الأولى أثناء أحداث الحوض المنجميّ سنة 2008 حيث كاد موقعُ فيس بوك أن يكون المصدرَ الوحيدَ للأخبار وتسجيلات الفيديو. تلت ذلك حركة “سيبْ صالح” [اتركْ صالح، وهي قولة شعبيّة في تونس تعبِّر عن الضجر من وضعٍ ما، وقد استعملها الشبابُ للمطالبة برفع الحَجْب عن الإنترنت] وشارك فيها الكثيرون من شباب الفيس بوك السنة الفارطة. هذه الحركة ساعدت الثورة بفضل تصميمها على منع النظام من حَجْبِ موقع فيس بوك أثناء الثورة، إذ فهم النظامُ أنّ ذلك المنع سيؤدّي إلى مزيد من توتير الأوضاع. حصل، إذنْ، تراكمُ خبراتٍ في السنوات الماضية في استعمال وسائل الالتفاف على الحجْب. ورغم اعتقال بعض المدوّنين والفيسبوكيّين قبل الثورة وأثناءها، فإنّ ذلك لم يؤثّر في فاعليّة “الإعلام البديل.”
على الرغم من معرفتنا بالطبيعة الديكتاتوريّة للنظام، فإننا لم نتصوّرْ أنّه سيذهب إلى ذلك الحدّ في الدمويّة؛ فما رأيناه من قمعٍ وقتلٍ واستعمالٍ للقنّاصين ضدّ العٌزَّل كان أمرًا فاق أسوأ توقّعاتنا. كنّا كلّ ليلةٍ نجمع صورَ شهدائنا ونحن مصدومون؛ لكنْ كنّا نعرف أنّ علينا ألاّ نتوقّف عن نشر الصور والفيديو بأوسع شكلٍ ممكنٍ لأنّ توقّفنا سيؤدّي إلى المزيد من القمع.
مالك الصغيري: (طالب تبريز في التاريخ المعاصر بكلّيّة 9 أفريل وناشط طلابّي): الحركة الطلابّية حركة عظيمة، وأنْ فقدتْ بريقها في السنوات الأخيرة. هنا، في كلّية 9 أفريل، عرفت التحرّكاتُ تصاعدًا تدريجيًا منذ انطلاق الأحداث يوم 17 ديسمبر في سيدي بوزيد، تاريخ إحراق الشهيد محمّد البوعزيزي نفسَه. ورغم فترة الامتحانات فقد تواصلت التحرّكات وبلغتْ ذروتها يوم 10 جانفي، الذي شهد تحرّكاتٍ كبيرةً في الكلّيات والمعاهد الثانويّة، ما دفع النظام إلى تعليق الدروس.
في البداية كان خطابُنا، كناشطين طلابيين، تحليليّ وتحسيسيّ. فقد تحدّثنا عن تونس “غير الصالحة” والمنسيّة، مقارنةً بتونس السواحل؛ ووضعنا عمليّة احتراق البوعزيزي في سياق التهميش والبؤس الاجتماعيّ الذي يعانيه الشبابُ، خصوصُا في المناطق الداخليّة؛ وتحدّثنا عن تهميش سيدي بوزيد منذ فترة ما بعد الاستقلال لميولها اليوسفيّة [نسبة إلى صالح بن يوسف، غريم الحبيب بورقيبة]. لكنْ، في نهاية الأسبوع الأوّل من الأحداث، حصلتْ مناظرة “كاباس” [مناظرة الإجازة للتدريس في التعليم الثانوي] في مدينة سيدي بوزيد، وشارك فيها مترشّحون من المدن والقرى المجاورة (المكناسي، الرقاب، منزل بوزيان، المزّونة، قرية الاعتزاز،…)، فجرت بيننا اتّصالات. هؤلاء المترشّحون شهدوا ما جرى في سيدي بوزيد، وبعودتهم إلى قراهم حدث تطوّرٌ نوعيّ، إذ توسّعت الاحتجاجاتُ إلى هذه المناطق. وهو ما أثّر في خطابنا الذي صار أكثرَ حدّةً وتحريضًا على النظام. لكنْ مع انتقال الأحداث إلى ولاية الڨصرين أحسسنا أنّ الأمر قد يتحوّل الى لبناتِ ثورةٍ شعبيّة، فتشجّعنا على مزيدٍ من التصعيد في خطابنا.
في 10 جانفي اعتُقلتُ في وزارة الداخليّة، فلم أشهدْ هروب بن عليّ في 14 جانفي. لكنْ، قبلها، كان السؤالُ الذي طرحناه على أنفسنا، كناشطي حركة طلابيّة، هو: ماذا نفعل كي نوصل الاحتجاجاتِ إلى العاصمة؟ كان ذلك هو التحدّي. وقد امتدّ نشاطُنا إلى خارج الجامعة، وبدأنا نفكّر في الاتّصال بالأحياء الشعبيّة لحثّها على التحرّك.
الأمين البوعزيزي (باحث في الأنتروبولوجيا الثقافيّة وناشط نقابيّ في سيدي بوزيد): شكرًا لكلّ الأصدقاء. شكرًا لإخوتنا شباب تونس الذين أربكوا الفكر السياسيّ التقليديّ الذي كان يرشّح فاعلين آخرين للثورة، فجاءت الثورةُ على يد فاعلين جُدُد، هم الشباب، لا الطبقة العاملة، ولا “الطليعة.”
سأحدّثكم عمّا أغفلته وسائلُ الإعلام على اختلافها: إنّه سرّ صمود الثورة في الأيّام العشرة الأولى في مربّعها الأوّل (ولاية سيدي بوزيد) قبل أن تتسرّب إلى بقيّة المناطق. كان جلُّ الناشطين في حالة انبهار ويتساءلون ماذا نفعل؟ فتشكلّتْ “لجانُ مساندة أهالينا في سيدي بوزيد.” والواقع أننا كنّا منذ شهر أوت قد رفعنا شعار “يسقط نظام السابع، فاشي وعميل وتابع”؛ وكان ذلك مساندةً لأسطول الحرّية المتجّهِ إلى غزّة، ودلّ على أنّنا رأينا أنّ أفضل دعم لأهلنا في غزّة يكون بكسر عنق هذا النظام وغيره من الأنظمة المتواطئة، وعلى ضرورة ربط النضال القوميّ بالنضال الاجتماعيّ المحلّيّ. نشير، بالمناسبة، إلى أهمّية دور مقرّات الاتّحاد العامّ التونسيّ للشغل، المنظّمة الوطنيّة الوحيدة شبه المُحرَّرَة: فأمام تصحير المشهد السياسيّ في سيدي بوزيد، بقيتْ دارُ الاتّحاد مكانًا يستطيع الناشطون السياسيون الالتقاء فيه وتنظيم النشاطات تحت يافطة الاتّحاد.
في نهاية شهر أوت حصلت انتفاضةٌ كبرى لفلاّحي مدينة الرڨاب. إذ نتيجة لمعاناتهم في تسديد قروضهم إلى البنوك، تعرّضوا لهجمة رأس المال والمستثمرين الجُدُد، فنزلوا أمام مقرّ الولاية بسيدي بوزيد للتظاهر والاعتصام. يومها رأينا غضب الناس (أتذكّر سيّدة عجوزًا ممسكة بربطة عنق شرطيّ وتسحبه منها!). في الشهر نفسه، خرج 1050 مواطنًا في المكناسي إلى الأراضي التي سبق أن صادرها الباي [ملك تونس قبل الاستقلال] قبل أن تصادرها السلطاتُ الاستعماريّة الفرنسيّة، وتُحوّلَها من بعدها السلطاتُ التونسيّةُ إلى “أراض ملكٍ للدولة.” كان الناس في تلك الأراضي في حالةٍ تشبه ما يجري للفلسطينيين في الكيان الصهيونيّ: يعيشون عليها دون امتلاكها. إذن، كانت انتفاضة الفلاّحين إحدى المحطّات المهمّة التي مهدّتْ ليوم 17 ديسمبر.
منذ بداية العام الدراسيّ الأخير، كانت هناك مجموعةٌ “مشاغبةٌ” من 50 ناشطًا تقوم باعتصاماتٍ شبه يوميّة في المعاعد الثانويّة، مطالبةً باحترام الحقّ النقابيّ. وفي شهر سبتمبر أيضًا كانت هناك مظلمة للفتيات العاملات في منظّمة التنظيم العائليّ، فقمنا باعتصام أمام مقرّ الولاية. بعدها بفترة أيضًا كانت هناك نُقلَة تعسّفية لأحد الناشطين، فشننّا اعتصامًا مفتوحًا في المكان نفسه. وفي إطار سعينا إلى مراكمة الغضب، رحنا نبحث عن مبرِّرات لشنّ الاعتصامات (ومن باب الطُرفَة أننا قمنا ذات مرّة باعتصام لسببٍ واهٍ، تمثّل في عدم تمكّن أحد الأصدقاء من الحصول على شهادة الصلوحيّة التقنيّة لسيّارته!). وأذكر بعدها اجتماعًا دعا إليه الوالي مع مثقّفي الجهة، وكانت لي فيه كلمة قويّة، فردّ الوالي أنّه “تجمّعيّ” بالأساس، فأجبتُه أنّه لن يبقى طويلاً في منصبه. ثم كانت الخاتمة يوم 21 نوفمبر عندما بعثت المركزيّة النقابيّة [المكتب التنفيذيّ للاتّحاد العامّ التونسيّ للشغل] موفدًا لها كي يقْنع الجهات بتبنّي المنظّمة لمشروع الدولة للصناديق الإجتماعيّة، فكان نصيبه الطرد.
يوم 17 ديسمبر، بعد حرق البوعزيزي نفسَه، جاء عددٌ من معارفه وأهله من التجّار الصغار يبحثون عن المجموعة “المشاغبة” للقيام باعتصام. ومن هناك انطلقت الشرارة.
محمّد علي لطيّف (باحث في الإستيتيقيا وناشط في الاتّحاد العامّ لطلبة تونس): دورنا في اتّحاد الطلبة لم يكن ذا بال، مقارنةً بنضالات النّاس في الجهات. لكنّ منظمتنا ساهمتْ، رغم وضعها الصعب، في تأطير وعي الناس وبلورة الشعارات، بل في تقديم شباب إلى التحرّكات أيضًا: شباب آمنوا بإمكانيّة قيام الثورة ونجاحها. فعلى عكس زعم بعض الأحزاب التي لا تؤمن بالصيرورة الثوريّة، لم تكن الإصلاحاتُ ووعودُ التشغيل كافية. النّاس لم يعودوا يصدّقون كلام الحكومة، وهم تدرّبوا وراكموا التجارب: منذ إضراب عام 1978، مرورًا بانتفاضة الخبز عام 1984، وبنضالات التسعينيّات، ونضال الحوض المنجميّ عام 2008. لقد فقدوا كلَّّ ثقة بالحاكم البوليسيّ للإمبراطوريّة في تونس.
أهمّ دور لعبناه كان في إطار اتّحاد الطلبة. كلّ الكليّات تقريبًا كانت موجودة في الحركة المساندة للاحتجاجات منذ بدايتها. طبعًا كان هناك مَنْ رفض الخروج إلى الشوارع ووصف الأمر بـ “اليسراويّة” متعلّلاً بأنّ التناقضات لم تنضجْ بعد. فاضطررنا إلى المزيد من التحسيس والدعاية، بما في ذلك استعمالُ العاطفة عبر رفع صور الشهيد البوعزيزي وبقيّة الشهداء من أجل حمل النّاس على التخلّي عن تفكيرها الضيّق. وأعتقد أنّنا نجحنا في ذلك، إذ لاحظنا منذ أواخر شهر ديسمبر لُحمةً كبيرةً بين مناضلي مختلف الأطراف الطلابيّة. ووصلنا إلى درجة السخرية من تعبير “مساندة أهلنا في سيدي بوزيد”: فنحن لسنا من فرنسا كي نساند شعبنا، بل جزءٌ منه.
ومع ذلك فلا نتوهّمنّ أنّ دورنا أكبرُ من دور الناس الذين قاموا بالثورة في الجهات. فهؤلاء أكبرُ من نضالاتنا وتنظيراتنا، ويفكّرون أفضلَ من كلّ المفكّرين، ونحن نتعلّم منهم. لقد علّمونا أنّ في إمكان الشعوب إسقاطَ أنظمتها. كنتُ أعتقد أنّ نظام بن عليّ لن يسقط بغير الكفاح المسلّح، ولم أؤمنْ يومًا بـ “برنامج الحرّيات” الذي رفعتْه المعارضة السياسيّة. غير أنّ الجمهور علّمنا أنّ قدرة النّاس على الخروج إلى الشوارع والصدام مع أجهزة الأمن أكبرُ من توقّعاتنا.
من أوجه مشاركتنا أيضًا الجانبُ الإعلاميّ. شخصيًا قمتُ بوضع بعض التصاميم الدعائيّة التي انتشرتْ على موقع فيس بوك أثناء الثورة. وفي محاولة تغطية ما يجري وفهمِه، بادرتُ مع غسّان ومالك وأصدقاء وصديقاتٍ آخرين إلى بعث نشريّة على الإنترنت سمّيناها: يوميّات الصمود. وأذكر أنّني كتبتُ في عددها الأوّل افتتاحيّةً بعنوان “من تقنيّات الرجاء إلى فنّ المقاومة،” قلتُ فيها إنّ الشعار الأوّل الذي رفعه الناسُ في سيدي بوزيد، أي “التشغيل استحقاقْ يا عصابة السرّاقْ،” ليس مجرّد شعارٍ بدايتُه اجتماعيّة ونهايتُه سياسيّة، بل من شأنه أن يضع اقتصادات المنطقة برمّتها في مأزق، وهو ما سيسمح بخدمة من يريد أن يقاوم.
وسام الصغيّر (ناشط طلاّبي ومن شباب الحزب الديمقراطيّ التقدّميّ): الانتفاضة التي بدأتْ في سيدي بوزيد كانت تراكمًا لأحداثٍ بدأتْ أساسًا في الحوض المنجميّ قبل ثلاث سنوات، ثمّ جهة الصخيرة عام 2009، ثمّ جهة بن ڨردان قبل أشهر قليلة. أمّا الأحداث الأخيرة فأقسّمها إلى قسمين: ما قبل 25 ديسمبر، وما بعده. فقبيل هذا التاريخ انتقلت الانتفاضة من سيدي بوزيد إلى جهة القصرين، قبل أن تتعمّق وتنتقل إلى جهاتٍ أخرى، وصولاً إلى العاصمة. أمّا يوم 25 ديسمبر فكان يوم الاعتصام الذي دعت إليه نقابةُ التعليم الأساسيّ في بطحاء محمّد علي بالعاصمة (المقرّ المركزيّ لاتّحاد الشغل)؛ وأعتقد أنّه كان يومًا حاسمًا، إذ نجحْنا يومها في كسر الطوق الأمنيّ، وخرجنا في مسيرة في الشوارع المحاذية، فالتحمتْ بنا الجماهيرُ من عمّالٍ وباعةٍ ومارّة، ورفعنا شعاراتٍ قويّة لم تُرفَعْ من قبل. بعدها انتقلت التحرّكات إلى الجامعة مع عودة الطلبة من العطلة.
أشير أيضًا إلى موعد نضالي مهمّ آخر هو انتخابات المجالس العلميّة بالكلّيات بداية هذا العام الدراسيّ، خصوصًا لجهة التعبئة التي واجه بها مناضلو اتّحاد الطلبة ميليشياتِ طلبة حزب التجمّع الذين دخلوا الانتخابات بممارسة المزيد من العنف (إلى حدّ إحراق المكتب الفيديراليّ بكلّية منوّبة). وهذا دلّ على حالة الهلع والإفلاس التي كانوا يعانونها، وهو ما تأكّد لنا يوم 14 جانفي.
ختامًا، فقد تمّ اختطافي وحبسي في وزارة الداخلية من 7 إلى 13 جانفي. وحقيقة لم أكن أعتقد خلال تلك الأيّام أنّني سأشهد ما شهدناه بعد خروجي بيوم. وأعتقد أنّ الثورة فاجأتْ كلّ المحلّلين.
المحور الثاني: واقع الثورة اليوم ومهامّ المرحلة المقبلة
ليلى ڨيڨة: نعم، لم يتوقّع أحدٌ منا مع بداية الأحداث أن تؤدّي الى إسقاط بن عليّ حتّى يوم هروبه في 14 جانفي؛ فأغلب الشباب الذين قاموا بالثورة لم يكونوا مسيّسين، وبالتالي لم تكن ثورتهم موجّهة سياسيًا. يومَ الهروب أحسسنا بمأزق: فالجميع في الشارع، لكنْ لا أحزاب قادرة على تحقيق الخطوة الموالية. ما جرى هو لجوءُ السلطة إلى تغيير نفسها بنفسها، وإلى التضحية برأسها. لكنّ الحكومة التي أتت تضمنّت العديدَ من وزراء بن عليّ ورموز حقبته. فواصلْنا النضال، خصوصًا اعتصام ساحة القصَبة (أمام مقرّ رئاسة الوزراء) إلى أن أسقطنا الحكومة الأولى وأعيد تشكيلُها. وهنا أؤكّد على أهمّية الضغط الشعبيّ إلى جانب الضغط الإعلاميّ على فيس بوك. ونعتقد أنّ ذلك يجب أن يتواصل الآن. إذ رغم تغيير وزير الداخليّة، فإنّنا مازلنا نعتقد أنّه لا يوجد ما يكفي من الشفافيّة في وسائل الإعلام حيال العديد من المسائل مثل: التهم المتعلّقة بملاحقة بن عليّ، وحلّ حزب التجمّع، ومصادر تمويل الميليشيات. بالنسبة إلينا، وعلى الرغم من كلّ الإنجازات، فإنّ على الثورة أن تستمرّ، وضمانتُنا في ذلك هي أنّ الشباب التونسيّ صار واعيًا جدًا ولن يسكت بعد اليوم.
مالك الصغيري: ما جرى كان باهرًا، ولم نأخذ بعدُ مسافةً ممّا حصَل. بالمعنى التاريخيّ، الثورة ليست “حدثًا” بل مسار. ونحن الآن نتحدّث عنها ونعيشها في الوقت نفسه. نحن بصدد إنجاز ما نطمح إليه، وبالتالي لا يمكن القولُ إنّ الثورة انتهت. لكنّ اللافت في هذه الثورة أنّ مَنْ قام بها لم يصلْ إلى الحكم. كلاسيكيًا، إذا أخذْنا مثلاً المعجم الماركسيّ، فإنّ الثورة تؤدّي إلى تغيير علاقات الإنتاج وإلى انقلاب جذريّ في التوازنات الطبقيّة؛ وهي غيرُ حالتنا. هنا أودّ أن أعود إلى تاريخ تونس. فثورة علي بن غْذاهُم عام 1864 كان وقودَها المناطقُ نفسُها تقريبًا، وتحديدًا قبائلُ الهمامة والفراشيش وماجر وأولاد عيّار؛ لكنْ (كما أشار المنصف ونّاس في كتابه الشخصيّة التونسيّة) لم يصلْ أبناءُ تلك المناطق إلى الحكم بعد انتفاضتهم أو ثورتهم، والذي استفاد من ثورتهم كان الأرستقراطيّة العقاريّة التي أتَت بالاستعمار الفرنسيّ بعد ذلك بفترةٍ قصيرة. بفشلنا في ثورة 1864 أعتقد أنّنا خسرنا قرنًا كاملاً؛ وهو ما أرجو ألاّ يتكرّر مع هذه الثورة حتّى لا نخسر القرن الحادي والعشرين بأكمله أيضًا!
أعتقد أنّنا في مرحلة مخاضٍ من الصعب استقراؤها. واضح أنّ هناك منطقًا قديمًا بصدد التلاشي، مقابل منطقٍ جديدٍ بصدد التشكّل. الفكرة الرئيسة التي أريد التحدّثَ عنها هي “منطقُ الجيل”: فهذا الجيل، الذي أنجز الثورة، أمامه آفاقٌ واسعةٌ في رأيي، ولاسيّما الشباب ذو الخلفيّة اليساريّة والعروبيّة. ليس منطقيًا أنّه مازال يَحْكمنا ويفكّر لنا جيلُ الستينيّات من اليسار التونسيّ! أنظروا إلى بوزانسنو، القياديّ الفرنسيّ اليساريّ، وقارنوه بقيادات أحزابنا الهرمة. إنّ أهمّ الأمور اليوم، في رأيي، ضرورة التنظّم. فالمُعطّلون عن العَمَل في تالة وحيدرة ومكثر وبقيّة الجهات يجب أن يتنظّموا ويؤسّسوا اتّحادًا لهم. وعلى المثقّفين والفنّانين أن يفعلوا ذلك أيضًا. يجب أن يدخل شبابُ الجهات، والذين قاموا بالثورة، الأحزابَ والجمعيّات. الهدف هو تعديل الكفّة بين الدولة والمجتمع حتى لا تعود الأولى إلى التغوّل على الثاني. يجب أن نصير قادرين مستقبلاً على تنظيم مسيرات بمئات الألوف.
أنهي بالقول إنّ مدارس علم الاجتماع السياسيّ التقليديّة تؤكّد أنّ الفئات الأكثر تضرّرًا هي الأكثرُ تحفّزا للقيام بالثورة. لكنّ تيّارات التحليل النفسيّ، خاصّة في “مدرسة فرانكفورت،” تقول إنّ ذلك غيرُ كافٍ للثورة. ومع اعتذاري لتطفّلي على ميدان علم النفس، فإنّني أرى أنّ محمّد البوعزيزي يؤكّد هذه الفكرة: فهو لم يثرْ ويحرقْ نفسَه بسبب الفقر، وإنّما بسبب ما لحقه من غبنٍ وظلم؛ ثم تحوّل هذا الشعورُ من المستوى الفرديّ إلى الجماعيّ، فأحرق الناسُ مؤسّساتِ الحزبِ الحاكم ومقرّاته. هناك أيضًا مسألة التماهي أو “الاعتراف المتبادل” التي نراها في المظاهرات بشارع الحبيب بورڨيبة، حيث يبتسم ابنُ حيّ 18 جانفي في وجه ابن حيّ التضامن [وهما حيّان شعبيّان في العاصمة] لأنّهما قاما بالثورة معًا؛ وهذا الشعورُ بالاعتراف لا نلمسه مثلاً عندما نتحدّث كناشطين طلابيين مع عموم الطلبة عن قضيّة المُعطَّلين عن العمل ــ وهذا أمر يستحقّ الدراسة. وختامًا، ولأنّنا نتحدّث عن اتّحاد الطلبة، فعلينا أن نتحلّى بالشجاعة الأخلاقيّة لنقول للبعض: ارحلوا!
الأمين البوعزيزي: فعلاً، كما قال مالك، هذه ثورةٌ بلا منظّرين ثوريين. لقد اعتدنا أن تكون هناك نظريّة ثوريّة تهدي خطى الثوريين وحزبهم الثوريّ. أما هذه الثورة فهي من نوع جديد، فاجأت البشريّة في قرنها الحادي والعشرين. إنّها ثورة لم تبدأ ببناء أداتها التنظيميّة في السرّ، إذ إنّ بعض القوى الثوريّة التونسيّة نفسها اختارت منذ بداية العشريّة الفارطة التوجّه نحو العمل الحقوقيّ و”البرنامج الديمقراطيّ.” إذًا، هناك مسيرة عشريّة كاملة من النضال الديمقراطيّ تُوّجَتْ بعصيان مدَنيّ أو ثورة.
انتظاراتي الشخصيّة لهذه المرحلة هي أوّلاً في فرض الحكم الديمقراطيّ وترسيخه. فبعد أن حكَمَنا بورڨيبة بشرعيّة “الاستقلال،” لا شرعيّة اليوم لحاكمٍ على محكوم إلاّ بصندوق الانتخاب. كما أعتقد بضرورة حلّ حزب التجمّع الدستوريّ الديمقراطيّ. هذا ليس مطلبًا متطرّفًا بل ضروريّ لحماية الديمقراطيّة… أو المطلوب على الأقلّ تعطيلُه خمس سنوات، كما تنصّ على ذلك أحكامُ المجلّة الانتخابية نفسها، وذلك بسبب إساءته إلى البلاد وحمله السلاح [الإشارة هنا إلى الميليشيات].
المسألة الثانية التي طرحها بعضُ الأصدقاء هي غيابُ المنظّرين. أعتقد أنّه يجب تنسيبُ الأمر لأنّ هناك منظّرين عالميين، من أهمّهم هابرماس الذي أكّد أنّه مثلما للدولة مؤسّساتها فإنّ للمجتمع المدنيّ مؤسّساتِه أيضًا. قناعتي اليوم هي أنّ علينا أن نكتسح مؤسّسات المجتمع المدنيّ. أيضًا، في ظلّ اقتصاد السوق، يجب مثلاً أن تتحرّر المنظّمة الوطنيّة للدفاع عن المستهلك وتلعب دورها.
المسألة الثالثة هي القضيّة الاجتماعيّة. نكون واهمين إن اعتقدنا بإمكانيّة إقامة النظام الاشتراكيّ اليوم. تشافيز في فنزويلا يستطيع بفضل النفط أن يقيم ما يسمّيه “الاشتراكيّة” وأن يحميها بقوّة المال، غير أنّ هذا غير ممكن في تونس. إذًا، أهداف ثورتنا هي في الشعارات التي رفعها الشبابُ طوال شهر، وأهمُّها: “التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق،” و”يسقُط حزب الدستور يسقُط جلاّد الشعب”… أي الانتقال إلى حالةٍ ديمقراطيّةٍ سليمة، واستردادُ الدولة لدورها التنمويّ ووظائفها الاجتماعيّة: فتتكفّل بتعليم النّاس، ومداواتهم، وتثقيفهم، وتوفير بيئةٍ نظيفةٍ لهم، وغير ذلك. أنا لست مع حلّ القطاع الخاصّ، لكنْ يجب أن تحرص الدولة على بناء اقتصادٍ إنتاجيّ (لا ريعيّ) يشغّل الناس، مع ضمان حقّ العمل النقابيّ.
المسألة الرابعة هي المسألة الثقافيّة. أنا لستُ مستعدًا بعد خمسين عامًا من التحديث المعطوب أن نُفاجأ من جديد بـ “سْليمَانْ”] إشارة الى أحداث سليمان سنة 2006 التي شهدتْ صداماتٍ مسلّحة بين قوّات الأمن ومسلّحين سلفيّين[. لقد كان هناك عبثٌ طوال العقود الماضية بكيمياء الشخصيّة التونسيّة. على تونس العودة إلى السباحة داخل جغرافيّتها التاريخيّة. الاتحاد الأوروبيّ لا يعدو أن يكون مجالاً لتبادل المصالح الاقتصاديّة؛ إنه مجالُ تأثّرٍ وتأثيرٍ، لا مجالٌ للاندماج. تونس عربيّة مسلمة باسم آخر مقاربات علم الاجتماع وعلم السياسة، ونحن عربٌ مسلمون نعيش في القرن الحادي والعشرين. هويّة المجتمع هي نتيجةٌ لتراكم 14 قرنًا من التاريخ. “شباب سليمان” ليسوا إلا ضحّيةً لهذا العبث.
وأضيف أنّ مشكلة شباب تونس ليست مع بن عليّ والطرابلسيّة [عائلة ليلى الطرابلسي زوجة بن علي] فقط، بل مع كلّ النخبة القديمة كذلك. تصوّروا أنّ هناك مَن اشتغل مع بورڨيبة وبن علي ومازال يروم حكمكم من جديد! ولذا أنا استحضر ما حصل في ثورة 68 للشباب الفرنسيّ، وقتما كان للفكر شأنٌ كبير. حينها، قام الشبابُ بطرد أساتذتهم في الجامعة وقالوا إنّ المناهج والأفكار القديمة لا يمكن أن تَصْلح للمستقبل. فتأسّستْ تيّاراتٌ فكريّةٌ سُميّتْ “تيّارات ما بعد 68.” ولذلك أدعو إلى مبادرةٍ سمّيناها “حركة شباب الكرامة”: وهي دعوة للشباب المُسيّس وغير المُسيّس ممّن خاضوا الثورة، وجميعُهم دون الأربعين، إلى تقدّم الصفوف، إذ من غير المعقول أن يواصل قيادتنا سبعينيّون! هؤلاء يفكّرون لمستقبلٍ لن يعيشوه! هذه فضيحة! فحتّى الفكر السياسيّ الذي يعتمدونه لا يمكنه تفسيرُ الثورة التي حدَثت الآن.
أنا تلميذ لثلاثة مفكّرين عالميين كبار، يساعدوننا في رأيي لفهم كيفيّة قيام ثورة من خارج علاقات الإنتاج. فنحن ليس لدينا اقتصاد إنتاجيّ، بل استهلاكيّ. إذنْ من الطبيعيّ أن لا تكون الثورة پروليتاريّة بل على يد شبابٍ متعلّمين مُهمّشين مقصيّين من الدورة الاقتصاديّة ومن الحياة السياسيّة. أوّلُ أساتذتي هو هربرت ماركوز، الذي قال في الستّينيّات إنّ الماركسيّة التقليديّة غيرُ قادرة على تفسير ثورة الطلاّب في فرنسا، وذلك بعد أن لاحظ أنّ المجتمع الرأسماليّ نجح في رشوة الطبقة العاملة بما سُمِّيَ “الرفاه الپروليتاريّ” ــ وهو رفاهٌ لم يأتِ بفضل النظام الرأسماليّ وإنّما نتيجةً لنهب المستعمرات. ماركوز قال إنّه يجب البحث عن فاعلين جُدُد بين المُهمّشين والمثليّين والأقلّيات الخ، فيما أتت أرقى التيّارات الماركسيّة لتقول إنّ ثورة 68 فشلتْ لعدم نجاحها في الاندماج بالطبقة العاملة. لكنّي لا أعتقد أنّه يمكن تفسيرُ الثورة التونسيّة بالمنظور المركوزيّ؛ فالطبقة العاملة في حالتنا لم يتمّ احتواؤها بالرفاه الپروليتاريّ، بل إنهاكُها بمتطلّبات المجتمع الاستهلاكيّ، إذ صار على العامل أن يفكّر في توفير مصاريف الدروس الخصوصيّة لأبنائه ومصاريف الاستجمام للعائلة الخ. صار العاملُ يشتغل ليلَ نهارَ ويقترض من أجل توفير ذلك كلّه، فلم يعُد قادرًا على القيام بالثورة. وحده الشباب بقيَ خارج منظومة الإنهاك هذه. وهذا أمرٌ يقوله أيضًا مفكّران عربيّان هما عصمت سيف الدولة ومصطفى حجازي ــ والأخير، بالمناسبة، مؤسّس “علم الشباب.” إلى ذلك هناك منظّران كبيران اليوم، هما أنطونيو نيغري ومايكل هاردت، وهما ينظّران لفاعلين تاريخيين جدُد غير الپروليتاريا، التي لم تعُد قادرةً على الثورة. وبعضُ رفاقهما في أستراليا يتحدّثون عن تأسيس “ماديّةٍ تاريخيّةٍ جديدة.”
إذنْ، أدعو مرّةً أخرى إلى إعطاء الشباب حقّه في بناء مستقبله، حقّه في الديمقراطيّة والشغل والثقافة والبيئة النظيفة. لماذا يقدّم هؤلاء الشهداءَ، ثمّ تأتي بعضُ الوجوه الجنتلمانيّة لتتكلّم باسمهم؟! أنظروا إلى شباب المدُن المنسيّة الذين عادوا من حيث أتوْا متّسخين بعد أن اعتصموا أيّامًا طويلةً في ساحة القصَبة: هؤلاء يستطيعون التحدّث بلسانهم، وليسوا في حاجةٍ إلى من يتحدّث باسمهم بل إلى من يسمعهم. لقد كنتُ طوال الأيّام الأخيرة من الثورة أتنقّل بين حيّ هلال وحيّ المروج وحيّ البحري [أحياء شعبيّة متاخمة للعاصمة]. وما رأيتُه هو أنّ شباب “أحزمة الفقر،” أولئك “الخلائق” [كلمة دارجة لوصف “المنحرفين” والمهمّشين] و”المُشَلَطين” [كلمة دارجة لوصف الذين يحملون آثار الشفرات على وجوههم] كانوا بسلاسلهم وحجارتهم يقطعون الطرقات ويدافعون بالصدور العارية عن أحيائهم أمام سيّاراتٍ مدجّجةٍ بالسلاح. هذا شيء لم يفعله أحدٌ لا في “جبهة 14 جانفي” (تحالف تيّارات وأحزاب من القوميين وأقصى اليسار تكوّن بُعيْد هروب بن علي ونادى بمواصلة الثورة وبعث مجلس تأسيسيّ] ولا في جبهة 14 آذار اللبنانيّة. أنا، إذًا، أدعو الشباب إلى التنظّم.
محمّد علي لطيّف: من المبكّر إيجادُ أجوبة على الأسئلة التي تطرحها أولى هزّات الجماهير العربيّة في القرن الحادي والعشرين. وها نحن نتبع الهزّة الموالية التي قد تودي بنظام حسني مبارك [عقدت الندوة قبل سقوطه ـ الآداب]. وقد يكون ذلك أيضًا تنفيذًا لرؤية فرنسيّة أميركيّة جديدة لواقع منطقتنا. وقد تأتينا أجوبة أخرى من لبنان أو أميركا اللاتينيّة.
في تونس ما جرى هو أنّ الجمهور، على عكس الأحزاب التي هبّت مع فرار الرئيس السابق لاقتسام الكعكة، واصل ثورته عبر اعتصام القَصَبة. ما جرى يوم 14 جانفي كان انتصارًا رمزيًا لهذا الجمهور. أما أهمّ مكتسبات هذه الانتفاضة فهو اكتسابُ الناس وعيًا ثوريًا. أنا أرفض، إذًا، منطق من يخاف من “الفراغ السياسيّ” الذي خوّفونا به، إذ أثبتت الأحداثُ انّ الحكومة لا قيمة لها ويمكن أن تسقط في ثلاثة أيّام، وأنّه لا مبرّر للتخويف من حلّ “التجمّع” بدعوى انهيار مؤسّسات الدولة. أختم بالقول إنّ المهمّات الثورية لم تُنجَزْ بعد، ولن يتمّ ذلك بغير سنوات من النضال اليوميّ.
أما في ما يخصّ “جبهة 14 جانفي” والحديث عن مشاركتها في الانتخابات، فأنا أرفض شخصيًا ذلك. على اليسار ألاّ يدخل الانتخابات وألا يحكُم. لا أؤمن بمقولة “حكومة يسار”ّ! على اليسار أن يذهب إلى آخر مدًى في الثورات، اللهمّ إلاّ إذا غيّر من رؤيته الشموليّة إلى ما يحدث في العالم أو عدَّل تكتيكاتِه. ولا أدري ما هي خطط بقيّة الأحزاب، ولا ما إذا كانت ستنتصر في الانتخابات المقبلة أمْ لا بسبب ما ارتكبتْه من أخطاء جسيمة. نحن أمام صيرورةٍ ثوريّةٍ قادها جمهورٌ بلا أفق. هناك جيوبُ ردّةٍ في كلّ مكان: من البورجوازيّة التي تفكّر في مصالحها الخاصّة، إلى الذين يعملون في أجهزة الدولة ويفكّرون في الفضاء العموميّ. أما الجمهور فيفكّر في مواصلة ثورته، والمحافظة على دماء شهدائه.
شخصيًا، أعتقد أنّ على جبهة 14 جانفي أن تتوسّع إلى قوى مواطنيّة وقطاعيّة ليست بالضرورة سياسيّة: للمحامين مثلاً، وللجان الشعبيّة التي تكوّنتْ في الجهات، وللأفراد. يجب ألاّ تقتصر على اليسار وحده. هكذا فقط تمْكن مواصلةُ الثورة. وسيتعزّز الأمر إن انتصرت الثورة المصريّة؛ فمصر قد تجيب على بعض أسئلتنا في تونس. يجب أيضًا على الحركات والمنظّمات أن تتواضع أمام الجمهور وتتعلّم منه. يجب أن يتعمّم التنظيمُ الأفقي. ويجب أن نوسّع أفق تفكيرنا إلى ما وراء حدود الدولة، وأن نفهم أنّ ما جرى ليس ثورة بل انتفاضة. هي صيرورة ثوريّة لم تُتَوّجْ بعد.
وسام الصغيّر: قبل ان أشاكس بعض الأصدقاء، أودّ أن أشير إلى مسألة أساسيّة تعيشها الساحةُ السياسيّة والحقوقيّة، وهي اختلاط الأوراق بعد 14 جانفي، إذ لم يعد واضحًا من هي أحزابُ الموالاة ومن هي المعارضة والأحزاب الراديكاليّة أو المهادِنة.
تحدّث الكثيرون عن ثورة، ولكنْ أين هي الطليعة أو القيادة المسلّحة لهذه الثورة؟ لماذا لم يقتحمْ أحدٌ قصرَ الرئاسة في قرطاج، أو البرلمان، أو وزارة الداخليّة مثلا؟ إذن، أتساءل شخصيًا إنْ كانت فعلاً ثورة!
الآن، بالنسبة إلى المرحلة المقبلة، أرى ضرورة أن نعطي الحكومة الموقّتة الفرصة، مع مواصلة الضغط عليها… أيْ، إن شئنا، ننتهج مقولة “البندقيّة مع غصن الزيتون.” فكما تمّ إخراجُ بعض الوجوه التي تورّطتْ في الحقبة السابقة، يمكن تحقيقُ المزيد من الإنجازات في إطار هذا الخيار. أما الأحزاب والمجموعات التي رفضت الاعتراف بالحكومة، فأرى أنّ بعضها طلب الحصولَ على تأشيرةٍ قانونيّةٍ لتشكيل أحزاب! فهل يحْكم تعاملَ هذه القوى مع الحكومة منطلقاتٌ ايديولوجيّة ومبدئيّة، أم اعتباراتٌ سياسيّةٌ بحتة في أفق الانتخابات المقبلة؟
أرى أنّ هناك الآن بعضَ الإصلاحات المهمّة، لكنّها لم تصل بعدُ إلى المطلوب. أمّا بالنسبة إلى مهامّ المرحلة القادمة، فأرى أنّه يجب المزيد من الفطنة واليقظة ومراقبة أكبر لهذه الحكومة الموقّتة. في الجانب السياسيّ يجب الحرصُ على الفصل بين السُلَط، ومحاسبةُ كلّ من تورّط من المسؤولين السابقين، ونزعُ كلّ امتيازات الحزب الحاكم السابق، ومحاسبةُ مسؤوليه المتورّطين في جرائم السرقة أو استغلال النفوذ. لكنّي لستُ مع حلّه أو اجتثاثه.
أمّا في الجانب الاقتصاديّ فينبغي التصدّي للنهج النيوليبيراليّ الذي ساد في الحقبة السابقة. وأتّفق مع الأمين عندما دعا إلى عودة الدولة والقطاع العام إلى تحمّل مسؤوليّاتهما الاجتماعيّة.
في الجانب الثقافيّ، أعتقد أنّه يجب إلغاءُ “قانون الإرهاب.” فنحن مجتمع معتدل عمومًا، وهويّته عربيّة إسلاميّة. لكني أتساءل عن أيّ إسلام ندافع: إسلام سيّد قطب وحسن البنّا، أمْ إسلام محمّد عبده وروّاد “النهضة”؟
المحور 3 : تداعيات الثورة عربيًا وعالميًا، وماذا عن فلسطين؟
الأمين البوعزيزي: لا أعتقد أنّه يصحّ الحديثُ عن “تصدير” للثورة. الانتفاضة بدأتْ في مربّع صغير اسمُه سيدي بوزيد، ثمّ توسّع أطلسُ الاحتجاج إلى بقيّة الولايات المنكوبة، ومنها إلى مستوى وطنيّ، والآن صار عربيًًا. إذنْ، هناك توسيعٌ لمجال الثورة، لا تصديرٌ لها.
اليوم بعضُ الأصدقاء يتأفّفون من تحوّل اهتمام الإعلام العربيّ والعالميّ إلى مصر بعد أن كان مسلّطًا أضواءه على تونس. لكنّي، على عكس ما يتصوّرون، أرى الأمر إيجابيًا. فإذا انتصرت الثورة في مصر، فإنّ بقايا النظام هنا سيُعْزَلون ويضعفون أكثر! إنّ افتكاك مصر، بعمقها ووزنها، وعودتها إلى جغرافيّتها التاريخيّة، زلزالٌ سيُربك الكثيرَ من الحسابات في العالم.
أمّا عن علاقة الثورة بفلسطين، فأنا قادمٌ من تيّار سياسيّ يرى أنّنا ننتمي إلى أمّةٍ مُضطَهَدةٍ ومن حقّها تقريرُ مصيرها. لكنّ ذلك لا يكون فقط بالحديث عن “المحاور الآمنة،” أي القضايا القوميّة، والصمت عن الاستبداد والفساد المحلّيين كما يفعل بعضُ القوميين. إنّ تفكيك النظام العربيّ الرسميّ، وتونس نموذجٌ لذلك، هو رصاصٌ في بنادق المقاومة، وإحباطٌ لمشاريع التفريق والتجزئة. ما جرى هو أنّنا، إلى حدود العام 1982، كنّا ندعو الشباب إلى التطوّع في صفوف المقاومة الفلسطينيّة، لكنّ النظام الإقليميّ العربيّ جرّم ذلك، فصار يحارب المقاومة ويَصِمُ من يساندها بـ “الإرهاب،” الأمرُ الذي فرض علينا تغييرَ تكتيكاتنا وأولويّاتنا أيضًا. نحن في حاجةٍ اليوم إلى ما يسمّيه المفكّر الكبير سمير أمين “أنظمة ديمقراطيّة محميّة شعبيًا،” وذلك على عكس بعض ما يسمّى “الأنظمة القوميّة” التي، رغم صدقها، تُحكم بالمخابرات والبوليس. لا تعطني في هذه الحالة نظامًا قوميًا! يكفي أن يصير عندي نظامٌ انتخبه شعبُه وسيقدِّم إلى فلسطين أكثر ممّا تقدّمه الأنظمة “القوميّة.” نريد أنظمة ديمقراطيّة؛ قد لا تحارب إسرائيل لكنّها على الأقلّ ستدعم المقاومة بالسلاح وغيره. ستقاطع إسرائيل، وستقاطع اقتصاديًا كلّ الدول التي تقف ضدّ المقاومة وتمنع عنها النفط. بهذا المعنى، يمكن القول إنّ ثورة تونس هي هديّة إلى فلسطين.
مالك الصغيري: قرأتُ مرّةً لكيسنجر أنّ أمن إسرائيل القوميّ يقوم على بقاء العرب متخلّفين. أيْ، على عكس ما هو معتاد من ارتكاز الأمن القوميّ لبلدٍ ما على عناصر داخليّة كالأمن الاقتصاديّ والغذائيّ الخ، فإنّ أمن إسرائيل القوميّ يقوم على بقائنا جهَلةً، نفتقر إلى التنظيم، والقدرة على النقاش المرتَّب… ومن ثم فإنّ نهاية الكيان الصهيونيّ مرهونة، في رأيي، بقيام دول عربيّة ديمقراطيّة قائمة على اقتصاد وطنيّ حقيقيّ وفكّ الارتباط بالإمبرياليّة وبدوائر الاحتكار الماليّ. اذن، عندما نبني أنظمتنا القويّة المسنودة شعبيًا فستسقط إسرائيلُ من تلقاء نفسها.
الحديث عن “تصدير الثورة” ذكّرني باللاسلطويين، بكروبوتكين والتروتسكيين؛ ويوحي بأنّنا نتحدّث عن مصر، مثلاً، كدولة أجنبيّة. أنا أرى أنّ تونس تقع في فضائها العربيّ والإسلاميّ، ومن ثم ثقافيًا سيكون لِما جرى في تونس انعكاساتٌ في محيطها الجغرافيّ شبيهةٌ بما جرى في فرنسا عام 1848 وامتدّ إلى بقيّة أوروبا في ما يُعرَف بـ “ربيع الشعوب.” أنا أعتقد أنّنا سنشهد مرحلة ثوريّة، وأتصوّر أنّ ثورة تونس هي كمن ألقى بحجرٍ في بركةٍ ما، أيْ ستكون لها ارتداداتٌ في الجزائر والمغرب ومصر وغيرها. قد تنجح وقد لا تنجح؛ فالمسألة ليست ميكانيكيّة، إذ لكلّ قطر خصوصيّاتُه. على كلّ، هناك مؤشّرات إيجابيّة. نحن في تونس عندنا مهامّ وأدوار في المرحلة القادمة، لكنْ يجب أيضًا أن نتواصل مع الآخرين في الأقطار العربيّة. مثلاً هناك إخوة من المغرب الاقصى ومن اليمن قدِموا وسألونا: ماذا جرى بالضبط عندكم؟ كيف فعلتم ذلك؟ فقلتُ لهم اذهبوا إلى سيدي بوزيد لعلّ ذلك يساعدكم على الفهم. أعتقد أنّه من الضروريّ بمكان وضع هذه الآليّات للتواصل من أجل مزيد من الفهم والفعل المشترك.
جوهر الوطنيّة هو معاداة الإستعمار. لست معاديًا للفرنكوفونيين الذين يحبّون بودلير وبالزاك وغيرهما، وانّما عندي مشكلة مع الفرنكوفوليين الذين يقع وجدانهم وتفكيرهم في جادة الإليزي بباريس لا في شوارع تونس. هؤلاء “يعقوبيّون” يعتقدون أنّ ثمّة مسارًا واحدًا في التاريخ يجب أن نتبّعه حتّى نصل إلى فرنسا. كأنّ التاريخ سباقُ حواجزـ وخطّ الوصول هو فرنسا! لا ليس ذلك صحيحًا بالضرورة. أنا مرتاح في بيئتي العربيّة الإسلاميّة. أنا فقط ضدّ التطرّف. لا تفرض عليَّ لبس النقاب، ولا تتطرّف في إلحادك فتقوم بإلقاء القرآن او إحراقه. السؤال هو كيف نحافظ على التعدّد والتنوّع داخل الوحدة. هنا يكمن الثراء. يجب أن نكون قادرين على قبول بعضنا بعضًا وأن نتدرّب على الاختلاف.
أريد ان أنهي بشكر الأستاذ عميد كليّة 9 أفريل حميّد بن عزيزة، الذي كان، حتّى تحت الديكتاتوريّة، يسمح لنا بلقاءاتٍ ونقاشاتٍ كهذه تتجاوز كلّ الخطوط الحمراء.
غسّان بن خليفة: نعم مالك، باسم مجلّة الآداب، الشكرُ موصول إلى إدارة الكلّيّة، وإلى كلّ من ساهم في إنجاح هذا الموعد. شكرًا لجميع الحضور، وشكرًا لصبركم على طول هذه الندوة. وأودّ ان أستغلّ الفرصة لأعلمكم بأنّ عددًا من الوجوه المشاركة في هذه الندوة تعمل حاليًا على إطلاق مجلّة ثقافيّة شبابيّة ذات خلفيّة “يساريّة عروبيّة.” فنحن فعلاً، كما قال الصديق مالك، في حاجةٍ إلى إطار لا للفعل والممارسة فقط،وإنّما أيضًا للتفكير في ما نفعله. وهو ما افتقرنا إليه كشباب في الأحزاب والجمعيّات المناضلة في بلادنا. شكرًا مرّة أخرى للجميع، وإلى اللقاء في مواعيد أخرى.
تونس
المقالة منشورة في مجلة الآداب, ١-٣ /٢٠١١