في سعينا للخروج من “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”!
بدرالدين حسن قربي
عندما تستمع إلى حديث الناس من تونس إلى مصر ثم ليبيا فسوريا في وصف أوضاعهم وأنظمتهم فكأنك تتحدث عن منظومة واحدة في كافة مظاهر الحياة العامة، الفساد فيها يتبدّى والاستبداد يتحدّى. ولئن كان لكل الرسميين في هذه البلدان جوابهم المتقارب، فإن للسوريين الرسميين منهم تفسيرهم الخاص مما يمكن تسميته بالتفسير المقاوم والممانع للتاريخ.
فإن كان سبب انتفاضة المصريين والتونسيين قمع الحريات واستشراء النهب والفساد، أخذ بك الرسميون السوريون إلى أن السبب هو استسلام النظام الذي أضعف العرب وأصابهم بالذل والهوان على العكس من نظامهم المعجون بمرق المقاومة وعسل الممانعة، ومن ثم فهو فائق الحلاوة، وسلسبيلٌ عذبٌ فراتٌ سائغٌ طعمه، ومسكرٌ لذة للجماهير.
ولئن تكلموا عن كامب ديفيد، فيعترفون أنها أنتجت هدوءاً مصرياً هو هدوء استسلام وذل عمره ثلاثون عاماً، وسلاماً مصرياً إسرائلياً أيضاً من بعد استرجاع الأرض المصرية ولكنه مذلّ مهين. أما الهدوء السوري من طرف الجولان السوري، فصحيح أن عمره ثمانية وثلاثون عاماً ولم تطلق فيه خرطوشة واحدة، ولكنه هدوء متوثب متحفز رافض للاستسلام والهوان ويستعد ويتحضّر ويعبئ للتحرير، ولئن كان هناك سعي لمفاوضات مباشرة أو غير مباشرة بين سورية وإسرائيل فهدفه بوضوح استرجاع الجولان وإنتاج سلام مشرّف وشجاع.
أما إن خطرت لك مقارنة الحزب الوطني وفعاله وسرّاقه وفاسديه بحزب البعث العربي الاشتراكي، فهو أمر مردود عليه، فلا مجال للمقارنة بين حزب محلي وحزب تاريخي قومي عريق منصوص عليه بنص الدستور السوري بما ليس له شبه في دساتير العالم أجمعين من أن حزب البعث هو الحزب القائد في الدولة والمجتمع. أما المقارنة بين سراق الأول ومختلسيه مع سراق الثاني ومختلسيه فهي فاقدة لموضوعيتها من أصله، فمن المستحيل أن تجد بين لصوص الأخير ونهابيه ولو واحداً يرضى بذل الاتفاقيات وهوان المعاهدات. وعليه، فأن تُسرق ثروة الوطن وتكون في بطن المقاومين السباع خير وأبقى من أن تكون في بطن المتخاذلين من جماعة كامب ديفيد الضباع. أما أن حالة الطوارئ وإن قاربت الخمسين عاماً، فمردها عند السوريين أنهم مازلوا يعيشون حالة الحرب مع العدو الإسرائيلي.
وأما إن تكلمت عن التزوير، أفادوك بأن التزوير السوري للانتخابات له مبرراته الموضوعية لمنع المتسللين وضعاف النفوس من أعداء الوطن الصامد والمقاوم في استغلال الديمقراطية والحريات للوصول إلى مواطن القرار والمسؤولية، فخسارتهما تعني ضياع الأمة. في حين أن تزوير غيرهم يفتقد مبرراته المشار إليها، فلا صمود عندهم ولا مقاومة يُخاف عليهما. وعليه، فلا مقارنة بين تزوير الضرورات وحفظ الكرامات بتزوير من أقام العلاقات، ووقّع على أحطّ المعاهدات. أما موضوع الاعتقالات للمنتقدين والمعارضين في سورية فهو أمر طبيعي أيضاً يختلف عما هو في مصر وغيرها. فالنظام السوري الحامل الرئيس للمشروع الوطني القومي المقاوم والممانع للأمة، الذي تجاوزه أهل كامب ديفيد. ومن ثمّ فإن انتقاد النظام والنيل منه ولو ببعض كلام متستر بنقد فساد أو استبداد، فهو في النهاية فعل يضعف المشروع ويوهن نفسية الأمة. وعليه، فمنع أي تظاهرة أو اعتصام مهما كان شكلها ولونها إنما يراد منه الحفاظ على سلامة المشروع من النقد والتشكيك، ونفسية الأمة من الوهن. ويلحق بهذا أيضاً موضوع المظاهرات ومسرحياتها، فمصر وغيرها غير مضطرة لمثل هذه التمثيليات في حين أن النظام السوري بحاجة لمثل هذا العمل والفبركة ليُري الأعداء تأييد الجماهير، ورحم الله رجلاً أرى أعداءه من نفسه قوة.
وأخيراً، فإذا أضفنا إلى كل ماسبق، أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ومقولات مماثلة لطيف واسع من كتاب ومفكرين عروبيين يساريين وليبراليين وإسلاميين، فإننا نصل إلى واقع حالٍ نُسام به أشد أنواع الظلم والعذاب، وتمارس علينا كل فواحش القمع والفساد تحت غطاء المقاومة وحجية الممانعة. وإذا ثار الناس وغضبوا لحريتهم وكرامتهم ولقمة عيشهم ولو بالكلام، اتهموهم بتوهين الأمة وإضعاف نفسيتها كما في سوريا، أو بسبب حبوب الهلوسة والمخدرات التي أخذوها كما هو حاصل في ليبيا.
ضرورة المشروع المقاوم في الأمة هي الدولة الخالية من القمع والإرهاب والتجويع، والنظام الذي يحفظ الكرامات ويشيع الحريات، ومن قال بغير ذلك فإنه يريد لنا أن نتعاطى مقاومته أفيوناً ليمارِس علينا استبداده وفساده وأبشع قباحاته. ونحن بدورنا لانريد مشروعه مهما كان اسمه، وخطابه مردود عليه أيّاً كانت عباءته، لأننا لا نبتغي أنظمة وقادة ممانعين نهّابين ولا مقاومين مستبدين. نداؤنا إلى جميع العرب أنظمة وأحزاباً ومنظماتٍ وتحالفات على كل اتجاهاتها، وإلى كل الكتاب والمفكرين أيضاً، لاتجعلوا من المقاومة والممانعة أفيون الجماهير ولا من الزعم بمواجهة المؤامرات الصهيونية والأميركية هيروئين الأمة، ولاتخلطوا حابل الوطن وطهره، ومنظومة قيم الحرية والكرامة ورفعتها فيه بنابل الديكتاتوريين المستبدين وسرّاق الأمة.
() كاتب سوري)