أسمهان : أيقونة وأسطورة 2 ـ 2
دلور ميقري
1
حينما تمرّ أبصارنا ، مبهورة ً ، على إحدى صور أسمهان ، فإننا لا بدّ ونستعيدُ فيها أيقونة السيّدة العذراء ؛ هذه العوذة المقدّسة ، التي أبدع بتجسيدها رسامو عصر النهضة ، الأوروبيّ ، بشكل خاص . تلك الصور ـ على رأيٍ شخصيّ ـ حققتْ غايَة الخلود ، وكلّ منها يعطينا فكرة واضحة عن شخصية صاحبتها الجذابة ، المونقة ، في مواضعات حياتها المختلفة وفي حالاتها النفسية المتباينة . هذا وبغض الطرف عن االثمن ، الفادح ، الذي تعيّن على أسمهان دفعه بموتها المأسويّ ، المبكر . كذلكَ حياتها الحافلة ، لم تكن شروطها أقلّ تطلّباً ووطأة . أسطورة أسمهان ، الخالدة ، حاولَ البعضُ إخمادَ أوارها ، بما كانَ من سيل الشائعاتِ ، المُغرضة ، المُتعرّضة لمغامض حادث موتها . وها نحنُ ، بعدَ ما يزيد عن الستين عاماً من رحيلها ، ما فتأنا على جهل مُقيم بملابسات ذلك الحادث . عند هذا الحدّ ، يجوزُ لنا المقارنة بين مغنيتنا هذه ، الكلاسيكية ، ومواطنتها الأكثرَ معاصرة ، الممثلة سعاد حسني ؛ التي كانت كذلك من ” شوام مصر ” وسجّلت حضوراً راسخاً لعبقريتها الفنية ، علاوة على مصيرها المفاجيء ، الفاجع . إستحقتْ ممثلتنا لقبَ ” سندريلا الشاشة ” ، المُضاهي حسنها ورقتها وظرفها . وكما سبق لنا بحثه ، في مقال آخر ، فإنها تمثلتْ في رحيلها ذلك اللقب ؛ هيَ التي خلفت إحدى فردَتيْ حذائها على شرفة الإنتحار ، اللندنية . بدورها ، كانت أسمهان قد عُرفتْ بـ ” عروس النيل ” ؛ كناية ً على موتها في مياه الترعة ، المُتفرّعة عن النهر الخالد . للنيل قربانه السنويّ ، العتيق ، المنذورة له كلّ فتاة حسناء ، بحسب أعراف الفراعنة الأقدمين ؛ هؤلاء الذين آمنوا بعقيدة الخلود والتقمّص ، المسكونة في أسطورتهم عن الإلهين ، الشقيقين ، إيزيس وأوزوريس . ولكننا هنا ، أيضاً ، نستطيع إحالة تلك الكناية إلى مبتدأ خبر مغنيتنا ؛ إلى رحلتها في الحياة ، القصيرة ، وصولاً ربما إلى لحظة تقديمها قرباناً للمنافسة الفنية أو المكائد السياسية .
2
” في الأثناء أبطأتِ الموسيقى وعلا صوتها بالغناء ، ومن الوهلة الاولى ، بدا الأمر مذهلاً ، ليس الصوت فقط ، بل تلك الرقة في الأداء ، تلك الخفة السّلسة الآسرة . علا تصفيق الجمهور إستحساناً ؛ قبل البداية ملكته . في العتمة أستطعتُ أن ألمح خيالَ فلاحتي ، واقفة قرب منيرة . لم تكن المغنية الصغيرة تنظر إليهما ، فحدستُ أن تلك النظرة المُفعَمَة بتطلّب الحرية ليست من بلادنا ” ( من كتاب ” كان صرحاً من خيال ” ـ الطبعة العربية ، ص 99 ) . ذلك هو إنطباع الشاعر أحمد رامي ، في سيرته المتخيلة ، عن أول لقاء له بالمغنية الصغيرة ، السورية ـ اللبنانية الأصل ، في فيلا المطربة منيرة المهدية وبحضور أم كلثوم . هذه الأخيرة ، عرّفها الشاعرُ تحبباً بـ ” فلاحتي ” ، نسبة لمسقط رأسها ، الريفيّ . أمّا أسمهان ، فما كان عمرها آنذاك ليتجاوز الرابعة عشر ، وكانت بصحبة مكتشفها ، الملحن داوود حسني . ومع سنها تلك ، الحَدَثة ، فإنها تأثلتْ النظرة التائقة للحرية ، والتي لاحظ الشاعرُ ، مُصيباً ، أنها تنتمي لأرض اخرى . لم يقتصر إنتماء مغنيتنا على إشكالية المكان حسب ، وإنما أيضاً على السلالة . إنها من آل ” الأطرش ” ، العائلة الأرستقراطية ، الرفيعة المقام لدى الدروز الموحّدين ، والمتجذرة في تربة بلاد الشام . لكأنما التراجيديا هو قدَرُ أولئك الفنانين ، المتأطرين في منابتهم سلالاتٍ نبيلةٍ داثرة ، أو على الأقل في طريقها للزوال . لنتذكر ، على سبيل المثال ، حيوات ومصائرَ كلّ من نيتشه وبروست وكافافيس ؛ أولئك الأدباء ، الأفذاذ ، الذين كان الواحدُ منهم ثمرة ً عبقرية لشجرة عائلته ، العريقة والمتداعية في آن . أسمهان ، من ناحيتها ، لملمَتْ شذراتِ أصلها الرفيع ، الأرستقراطيّ ، في صورتها وشخصيتها وصوتها على السواء : إنّ ذلك الجمال الخلوق ، الفريد بحق ، الموهوب لأمثال مغنيتنا هذه ، لا يمكن أن يُخلق إلا في أحضان رخيّة لسلالةٍ مذكرة ، نبيلةٍ ، إعتادت على الإقتران بحوريات الحسن ، المنتميات بدورهنّ لأصول لا تقل عراقة . كما أنّ شخصية أسمهان ، المُعتلج فيها بواطن شعورها المُرهَف ، الشديد الحساسية ، يُحيلنا أيضاً لتنشئةٍ راقية ، غريبةٍ عن التبذل والإسفاف والوضاعة . كذلك الحالُ مع درّة صوتها ، المُجتلَبة من كنز الفنّ الآبد ، الخالد ؛ هذا الصوت النادر ، الذي تشبه آهاته الممدودة ، الشجنة ، زفيرَ جوقة ملائكة حزينة ، ، تائهة في أرض نسيها الخالق . وإذاً ، فأسمهان صوتُ نبالة تلك الأسرة الصغيرة ، المُتعيّن عليها الإفتراق أبداً عن وجاهتها وغناها . هيَ ذي مع عائلتها المهاجرة ، المحشورة في مركبٍ ، رثّ ، متوجّهة لبلدٍ غريب ، لن تلقى فيه ثمة سوى المذلة والمهانة وشظف العيش ـ في باديء الأمر بالأحرى .
3
على مركبٍ آخر ، وفي زمن أقدم قليلاً ، ( عام 1912 ) ، تفتحت خضرة عينيّ المولودة ، الفاتنة ، التي منحتها أمّها إسمَ ” آمال ” ، تيمّناً بنجاتهم من ليلةٍ مهولة ، سابقةٍ مباشرة للوضع . كانت الأسرة في طريقها إلى لبنان ، بعدما تخلى راعيها عن وظيفته لدى الدولة العثمانية ، حينما كادتْ عاصفة البحر أن تهلكهم جميعاً . هذه الطفلة ، التي ستعرَفُ لاحقا بإسمها الفنيّ ، ” أسمهان ” ، كانت منذورة على ما يبدو ، ومذ لحظة ولادتها ، لعواصف الحياة وأخطارها . إنها مخلوقٌ ناج ٍ ، إذاً ، ولكن لأجل عَيْشٍ فيه ما فيه من آلام وعذابات ونكبات . في أعوام الحرب العظمى ـ المُخلدة في ذاكرة الخلق باللفظ التركيّ ، المشنوع ” سَفرْ بَرْلِك ” ـ كانت طفلتنا شاهدة على المجاعة العامّة ، المتأثرة قرار السلطنة الهمايونية في إحتكار الحبوب لصالح جيشها ، المحارب على جبهات بلاد الشام . بطبيعة الحال ، فلم تنعكس تلك الظروف الصعبة ، المأسوية ، على أحوال عائلتها ، النبيلة . بيْدَ أنّ والدها ، وقد أضحى الآن وجيهاً متبطلاً ، لا شاغل له سوى الصيد ، فإنه لم يتورع عن هجر الأمّ المهمومة ، المتذمّرة ، والزواج من ثمّ بإمرأة اخرى . قرار الأمّ الصعب ، في الهجرة مع أولادها الأربعة إلى مصر ، جدّ بعد ذلك بعقدٍ من الأعوام على الأقل . كان سبب الرحيل ، المباشر ، هوَ ذلك الوضع الخطر ، الذي أعقبَ فشل الثورة ضد المنتدبين الفرنسيين ؛ الثورة الكبرى ، المنطلقة أصلاً من جبل الدروز ، بقيادة كبير آل ” الأطرش ” . بكر الأسرة ، فؤاد ، كان فيه الكثير من خصال أبيه . فما أن إتجهتْ الأمّ ، الموهوبة ، إلى تجربة حظها في مجال الفنّ ، أملاً بتحسين شروط حياة أسرتها ، حتى ثارت النوازع المحافظة ، النبيلة ، في عروق إبنها ذاك . يؤوب إلى موطنه الأول ، وحيداً ، مفارقا جوّ الأسرة ، المتضوّع بالأنغام والطرب ، فيلقاه والده وأعمامه بالحفاوة والتكريم . هذا الشقيق ، تعيّن عليه الكيدَ لأسمهان ، المطربة الصاعدة ، الصغيرة السنّ ؛ وهوَ من أجبرها وقتئذٍ على العودة لسورية ، بعدما عقدَ خطبتها ، غيابياً ، على إبن عمها . تتزوّج فنانتنا ، إذاً ، من الوجيه حسن الأطرش ، ولا تلبث أن تنجبَ منه طفلتها ، الوحيدة . أعوام سبعة ، مجدبة ، قضتها أسمهان في حياة زوجية ، بلا وفاق ، فاقمها طبعُ رجلها العَسِر ، الغيور ، مما آلَ بها إلى هجرانه . تنتقل إلى منطقة ” العفيف ” ، في صالحية الشام ؛ هناك ، أينَ تكون نجاتها من محاولة إنتحار ، متأثرة بظروفها الصعبة ، الموصوفة . وإذ تقرر العودة إلى القاهرة ، عاصمة الفنّ العربيّ ، مصممّة على تعويض ما فاتَ من إنجازاتِ عبقريّتها ، فإنها لم تكن تدري أن أعواماً سبعة اخرى فقط ، هيَ ما تبقى لها في هذه الحياة .
4
كانت أسمهان قد حصلت على الجنسية المصرية ، إثرَ زواجها بالمخرج الرائد ، أحمد بدرخان ، الذي سبق له وأخرج فيلمها ” إنتصار الشباب ” . ولكنها فقدت هذا الحقّ ، بعدما غادرت القاهرة لترتبط بإبن عمّها . من الواضح أنّ همّ إستعادة الجنسية ، كان ولا ريب دافع مغنيتنا للإقتران بالفنان أحمد سالم . رجلها هذا ، كان كما قيل مجنوناً بحبها ، حتى بلغت به الغيرة أن يطلق النار عليها ، خلل مشادةٍ محتدمة . تنجو أسمهان ، في هذه المرة أيضاً ، وبالتالي ينتهي زواجها بالطلاق . إنها الآن في أوج مجدها ؛ مطربة شهيرة ، تضاهي مقاماً كبيرة مغنيات زمنها ، أمّ كلثوم ، بل وتتفوق عليها لناحية سحرها الآسر ، الفريد . ولكنها ، على أيّ حال ، كانت فترة مضطربة في حياة أسمهان ، تلك السنوات السبع ، الأخيرة . إقامتها ، كانت محصورة غالباً في حجرة فندق ، كئيبة ، علاوة على أنّ الشائعات ، السيئة ، المتناولة أمورها الشخصية ، قد تناهت حدّ إتهامها بالإرتهان للإنكليز والعمل جاسوسة لحسابهم ، مقابل أموال طائلة ـ كذا . هذه الأسطورة ، شاءَ بعض الكتاب والصحافيين أن يتبناها ، حتى في آونتنا ، المتأخرة . إن حادث السيارة ، المُختتمة به حياة مغنيتنا ، قدّر له لا أن يبقى لغزاً حسب ، بل وأن يُضافرَ أيضاً تلك الأقاويل عن عمالتها ، المزعومة . في واقع الأمر ، فإنّ إشكاليّة إنتماء أسمهان ـ التي سبق لنا الإشارة إليها في مبتدأ مقالنا ـ هيَ على رأينا مَعْقِدُ المسألة . إنه قدَرُ الإنتماء إلى أقليّة مذهبية ، أو عرقية ، في مشرقنا ، وبالتالي كما يقول الروائي اللبناني ، المبدع ، أمين معلوف : ” يصبح ” تأكيد الهوية ” بالضرورة فعلاً شجاعاً وعملاً تحريرياً ” ( كتاب ” الهويات القاتلة ” ـ الطبعة العربية ص 42 ) . فما بالكَ بإنسانة ، مثل أسمهان ، منتمية إلى واحدة من أكبر العائلات الدرزية في بلاد الشام ، فضلاً عن رهافة مشاعرها وإعتزازها بجذورها وكرامتها . على الرغم من ندرة المعلومات ، الموثقة ، عن هذه الفترة الغامضة من حياة مغنيتنا ، إلا أنه يجوز لنا الإفتراض بأنّ دافعاً وطنياً ، ولا شك ، كان وراء قبولها التعاون مع الإنكليز ، الذين طلبوا منها معلومات سريّة ، معينة ، عن الفرنسيين الموالين لهتلر ، والمسيطرين وقتذاك على سورية ولبنان . التعاون مع ممثلي قوى الحلفاء ، ربما إبتدِهَ خلال وجود أسمهان في موطنها الأول ، وبطلبٍ من وجهاء الطائفة على الأرجح . ودون الغوص في التفاصيل ، يتوجّب الإشارة إلى العلاقة التاريخية بين الدروز والإنكليز . هؤلاء الأخيرون ، سبق لهم أن إستغلوا تبني الفرنسيين ـ خصومهم التقليديين ـ للموارنة الكاثوليك ، فمدوا يدَ التعاون للدروز ؛ وهم الجماعة ، العريقة ، المُشكِلة منافساً قوياً في جبل لبنان ، بشكل خاص . وإذ تخلصت بلاد الشام من الحكم العثماني ، الذي كان قد دأبَ على تأجيج الفتن المذهبية ، فإنّ خطل السياسة الداخلية للمنتدبين الفرنسيين ، والقائمة على دعم نصارى المشرق على حساب الآخرين ، ما كان له إلا أن يُسهمَ بدوره في المزيد من سوء الفهم بين أبناء الوطن الواحد . ثمة وجهٌ آخر للمسألة ، وهوَ وعدُ الحلفاء للدول العربية بالإستقلال ، فيما لو دعمتهم خلال الحرب العالمية الثانية ، علاوة على الدعاية القوية ، المضادة للنازية ، المكتسحة تلك الدول . وبما أنّ جميع ملفات الإستخبارات الغربية ، العائدة لتلك الفترة ، قد سبقَ وفتحتْ للملأ ، فمن غير المنطقيّ بحال إتهام الإنكليز ، جُزافاً ، بقتل أسمهان . وفي الأخير ، فما هيَ مصلحة هؤلاء بفعلة كهذه ، ما داموا في سنة موت مغنيتنا ( 1944 ) ، كانوا في طريق النصر المؤزر ، المنتهي بسقوط برلين ؟ دونما إغفال حقيقة ، أنهم ليسوا من الغباء لدرجة تأليب الرأي العام عليهم ؛ أو على الأقل الطائفة الدرزية ، الصديقة . إذا أهملنا عقلية المؤامرة ، نجدُ أنّ طريقة موت أسمهان في حادث الترعة ، غير العنيفة بحال ، لا تستدعي أيّ شبهةٍ عن إغتيال سياسيّ . على هذا ، فمن المستبعد أيضاً أن يكون أعداء القصر ، من متطرفين فاشيين وإخوان ، وراء موتَ مغنيتنا ؛ هم الذين كانوا معتادين على الإفتخار علنا بقتل من يسمونهم ” عملاء الإنكليز ” . قد يكون حادثاً عادياً ، في آخر الأمر ، وبالرغم من مأسويّته وإشكاله . خصوصاً ما قيلَ عن الإختفاء الملغز لسائق السيارة ، بعيدَ ذلك الحادث مباشرة ، والذي لا يقلّ إبهاماً ويُشعل المزيدَ من الأسئلة ، المشروعة . على كلّ حال ، فإنّ موت أسمهان خلال تصوير فيلمها الثاني ، والأخير ، ” غرام وإنتقام ” ، لهوَ دليلُ قدَرها في أن تكونَ قديسة الفنّ وإيقونته الخالدة ؛ هيَ المرأة العظيمة ، المُلتبَسَة حيّة ً وميتة ، والفنانة العبقرية ، النادرة ، العصيّة على التكرار .
حاص – صفحات سورية –