ثورة مصر

أهلاً بسيندروم الثورة المصرية حيث لا أحد يملك إيقاف الغد

هاني درويش
تستطيع الثورات أن تغيّر الصور، صورنا عن ذواتنا وعن الآخرين. لكن الصور الجديدة التي تصنعها من عدم القديم، من قطيعتها مع الماضي، لاتعني أنها لا تحمل رتوشاً مما قبلها. ظلال في الخلفية تتسلل كالأشباح فتشككنا في مقدمة الكادر الثابتة والعفية. الثورة، وعلى غير ماقد يفكر الثوريون الكلاسيكيون، تحتاج إلى زمن كبير كي تثبّت إنزراع جسدنا الجديد، الذي يبدو غالبا لاعلاقة له بالأشباح المتراقصة في الخلفية، يبدو منطقيا بعد أن تحول رسوخه المؤكد إلى منطق دائم، فيكون تصلب وجهنا أو إشاحته في مقدمة الكادر هو ماتحفظه الذاكرة. بينما البسمة المتراقصة الواثقة على وجه شبح المؤخرة تتحول مع الوقت إلى خدعة فوتوشوب رخيصة.
مناسبة هذه الرحلة في الصور وآليات بقاء مكوناتها، هي لحظة الإجهاد العنيف التي تحيطنا الآن. أستطيع أن اشرحه في معالم تيبس الجسد بلا مناسبة، وتهلهل الحالة النفسية بين موجات من التفاؤل وقيعان من اليأس دون منطق، وعبث التفكير المتأرجح الذي لايجدي نفعا. المدهش أن ما أعتبرته إعتيادا من نفسي الشقية ونظاما مستتبا لحياتي الإنفعإلىة العادية يشاركني فيه كثيرون ممن شاركوا في الثورة، وهو ما يثبت نحت إيمان مرسال للفظ” سيندروم الثورات” او “متلازمة الثورات” ، وهي تعني الإرتباط الشرطي بين حدث وعرض، تبدو العلاقة بينهما على السطح مستحيلة، لكنهما يتلازمان بمجرد حدوث أحدهما، وقد دخل المصطلح إلى علم الطب وعلوم حديثنا بالتبعية على يد روائي طبيب، لم يجد أجمل من السيندرومية العائلية مجالا لكتابة سيرته الشخصية ورغم ما في المصطلح الطبي من تثبيت لحظة عشوائية بنقلها إلى مصاف العلم، حيث لايكشف الطب عن سبب لهذا التلازم، ويصل بتثبيته للصدفة مستوى متقدم من رقي الحقيقة، إلا أنه يحمل ضمنيا فشل التفسير الشامل.
لابد للثورات وفقا للقاعدة الضد سيندرومية أن تصيبنا بالتفاؤل. لكنها هنا، على العكس، توترنا وتضعنا تحت حمل ثقيل وربما مخاوف جبارة. فهل لذلك علاقة بعدم قدرة أجهزتنا العضوية على التكيف مع ماجري فيها، بوصفه لهاثا عنيفا، إيقاعا غير إعتيادي من التحولات التي كنا نتمناها، ثم أتت فيما لم نستطع أن نصنفها على مستوى الحقيقة؟ هل في الأمر علاقة بكوننا في لحظات كثيرة وفاصلة من الإنتقال السريع كنا لا نكاد نصدق أنفسنا، نتشكك في أننا اخترنا المبيت مثلا في ميدان التحرير في تلك الليالي الفاصلة؟ أو أننا ملنا إلى طرح جذري وربما مجنون في التفاوض مثلا ثم ثبت لاحقا صدقيته، نحن أبناء التوفيق التلفيقي، بدونا أطفالا عصبيين نرفع الأحذية في وجه خطاب تفويض الرئيس لنائبه، فيما كان الأمر نفسه منذ أسبوع سبق الحدث سيفرق الناس معتبرين أنفسهم قد حققوا ثورتهم كاملة؟
هل للأمر علاقة بتباطؤ أعدائنا (النظام) في تقديم التنازل. كنا نعوض نقص حساسيتهم وبلادة نفوسهم بالإحتراق في سرعة جنونية. لقد مرت لحظات في ميدان التحرير خيل إلى فيها أننا لن نترك الميدان ابدا، وأننا إذا ما أعلن هذا الشخص تنازله عن السلطة لن نرضى. كانت نكتة الميدان “إرجع ياريس كنا بنهزر معاك” تعبير عن إستعدادنا اللاواعي إلى تحويل الثورة إلى حياة دائمة. ونحن فيما، نقطع مسافة كل تلك الإمكانات والتحققات على الأرض كنا ننفصل فعليا عن صورنا القديمة، الممكنة والتوفيقية، كنا نستعر ونكتوي كجسد يرفض أن يعترف بصوره القديمة ممعنا في تعميد صورته الجديدة بالنار. وتخيلنا ان هذه النار أنهت أو قطعت أي علاقة بالأشباح المتراقصة في الخلفية، لكن أشباح الخلفية، صورنا القديمة تأبي على مايبدو أن تترك المشهد.
جزء منها يصعد الآن وأنا أقود سيارتي في زحام مختنق بوسط العاصمة. الأمن غائب بشكل عمدي تأديبي، وفجاجة كسر الحد الأدنى من النظام كبنية مؤسسة في الشخصية المصرية بدت غير قابلة للتصديق. فالواضح أن جسد الثورة الذائب من ميدان التحرير متخللا نقاباتنا ومنتدياتنا الفرعية قد ترك للأشباح أن تعود وتسيطر، ومن جلسوا في بيوتهم”حزب الكنبة(الأريكة)” يهبطون الآن على ميدان الثورة محولين رصيفه إلى أطنان من مخلفات الكشري، فيما يتحمس مخبول يتلحف بالعلم ويضرب مقدمة العربة بهستيريا بعد أن استعجلت مروره من أمامها فيما هو يتمايل في نشوة المتسكع المستعرض. وعلى المقهي ظهر فريد مقاوماً أعراضنا الإنهزامية يسب لاعناً الثورة، هل كنا نعتقد أن ال18 يوماً كافية لتثوير الأخلاق والقيم؟
في كل محادثاتي أبدو متفائلا، يتصل بي ميدو قائلا: قللّي خبر حلو عشان أنا اعصابي حتنهار، أرد : يا ميدو … كل الأخبار حلوة، بقياس أننا من شهرين مكناش نحلم بلي حصل، وأحنا دلوقتي بنمد خط ال18 يوم متخيلين أن الحاجات حتمشي بنفس السرعة، لأ ياسيدي، الموضوع فيه 3 سنين على الأقل، وبطء التغيير دلوقتي أشبه بعملية ترميم الجسم الكبير اللي أتكسر فجأة. لو بصّيت في أي لحظة لمستقبل عودة الجسم دا للحياة وأنت عمال تلصم فيه حتة حتة حيجيلك يأس، إحنا بنعمل حاجة بنخترع فيها العجلة فعلا من أول وجديد.
ما افسده مبارك في ثلاثين عاما، دون مقاومة تذكر، وبمنتهي حرفية الإرتجال التشويهي، راكم طبقات من التشوهات المركبة. البلد يبدو أقرب لجيفة مختلطة الأجزاء الحيوانية بالبشرية بالمخلفات الصناعية، متماسكة شكلا، الثورة كانت “ماء النار” الذي فاجأ هذا الجسم المشوه فتبعثرت مكوناته المتضاربة، وعلينا الآن مهام تنظيف وترميم وإحياء تلك البقايا تحت شمس جديدة، لكن الناظر اليومي لصناع تلك العملية لا يرى تاريخها ولا مستقبلها. يرى صانعا مهزولا يعيد تشكيل العدم، فيصيبه إاليأس.
اليأس المعمم، تلك الكلمة التي تكررت في كتاباتي لنحو عشر سنوات، الكلمة التي كررتها يأسا لأحطمها، التي كنت أقولها لأطرد أشباحها، أو لأستولد بها صورا أخرى عن نفسي الغاضبة على حدّ قول حسن داوود، تهاجمني الكلمة عندما أعلم امس أن مظاهرة يوم المرأة العالمية جرى التحرش بنسائها في ميدان التحرير، وأن بائعي الميدان هاجموا بالمولوتوف المعتصمين ليلا، وبأن البلطجية متعاونين مع سلفيين قتلوا عشرة أقباط في منشية ناصر. ثم أعود قواعدي ساكنا لأقول لنفسي، من قال إن الثورة ستغير خلال شهرين قيم الذكورية المنحطة، أو الطائفية الشعبوية، أو العصبوية المصلحية الجاهلة؟ هذه ببساطة نخرة الثور الذي يلفظ أنفاسه رافسا بعد توجيه الطعنة إلى قلبه. هذا الثور الضخم على هيئة وحش ذي رؤوس متعددة لن يستسلم ببساطة. جهاز أمن الدولة المنسّل بين الرجل وزوجته، بين الرئيس والمرؤوس، بين الجار وجاره، سيطلق خفافيشه النائمة ليلا، تحديدا في الليل الواقعي، حين يهدأ تدفق الأخبار الإيجابية ويفرد بقاياه في الطرق الدائرية وبالزوايا التي تستعر فيها حمى عدم تصديق أن زمنه قد إنتهى. لا تصدق داليا أن زمنه قد إنتهى وهي تنام حتى اليوم في صالة المنزل خلف باب بقفل من ثلاث دورات ومزلاج كبير.
مايطمئنني أكثر أن التوازن بين الجهات الثلاثة الفاعلة في أيام مصر القادمة، الثورة والجيش وبقايا النظام، قائم على عدم قدرة أي طرف على الحسم الكامل. الثورة بطابعها الرخو المؤدب تراهن على الوقت وعدم قدرة على العودة فجأة للخلف، وبقايا النظام المتشنجة لاتملك إلا التعطيل لا الوثوب مرة أخرى، والجيش ممرور من وضعية بقاءه في الشارع جاهلا بما تعنيه السياسية، تضغط الثورة على الجيش قائلة: أمن الدولة. يقول الجيش: معرفش وأنا مالي، تدخل الثورة المقرات وتستولي عليها، فيتحرك الجيش للقبض على قيادات أمن الدولة. تضرب أمن الدولة في الشأن الطائفي ويحرض مخبر تابع لها اهالي المسلمين على هدم كنيسة. يشتعل الأمر، قتلى ومصادمات. يخرج الأقباط للتظاهر، يتعهد الجيش ببناء الكنيسة ويفرج عن قس مقبوض عليه في قضية سابقة، ينكشف امر أمن الدولة فيتعانق مسلمو مصر ومسيحيوها في ميدان التحرير ويفض الجيش البلطجية.
في كل متلازمة سابقة يظهر للجميع ان معارك الكر والفر والفرملة هي على هذه الهيئة: منتصران يزدادان قوة فيما الخوف بينهما يتقلص(الجيش والثورة)، ومهزوم تنسحب من تحت يده السلطات وتحاكم رؤوسه وينهزم معنويا(بقايا النظام). ولاتستثني تلك الثلاثية كتلة المتفرجين الصامتة. نحو سبعين مليون مصري يشاهدون المعركة من هم على الأرائك، يتحمسون كجمهور الصالات المغلقة، يميلون ببرغماتية إلى روح المنتصر ببطء، هناك مجلس عسكري يتورط، ونحو 8 ملايين تورطوا بدرجات متفاوتة في روح القتيل المنتصر طوال ال18 يوماً، وهناك 2 مليونا فأر يبحثون عبر دهاليزهم في تأمين الحد الأدنى من مصالحهم مع النظام القديم، في كل نجاح تحققه الثورة تتمايل الأواني المستطرقة لصالح الثورة، ورهان الوقت والإصلاح والفوائد المعممة يتزايد. ولنتخيل فقط كيف سيزيد جمهور الثورة بتعديل هيكل الأجور إلى 1200 جنيه، وماذا سيفعل ذلك في جزء كبير من الكتلة الصامتة؟
أجمل مافي هذه الثورة إذا هو نضوجها على النار البطيئة. لا أحد يملك إيقاف الغد، ولو توفرت له الفرصة في منعرجاتها الصعبة الماضية فهي تتقلص بالثانية وكسرها. لايعني هذا إشاعة الأمل المطبق في مواجهة تاريخ اليأس، فجزء من نجاح هذا السيناريو هو بقاء هذا الشبح الرابض في عمق الكادر، إنتظار الطعنة الغادرة في الظلام، وهو ما يوتر جسدنا اللاهث، ويؤرق ليل آن له أن ينقضي.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى