“الملك الشاحب” رواية ديفيد فوستر والاس الأخيرة وغير المكتملة
الكاتب المنتحر بحث عن القلق كما يبحث آخرون عن الراحة
مع أفول صيف 2008، عُثر على الكاتب الأميركي ديفيد فوستر والاس فاقداً الحياة في باحة بيته القائم في شرق لوس انجلس. وجدَت الزوجة، المؤلّف المتعدد البراعة وصاحب الحيوية الأدبية التي لا قعر لها، مشنوقاً، معلّقاً من عنقه كثمرة نضجت قبل أوانها، وهي بعد في اليناع. كان الكاتب يعاني منذ شهور عدة إكتئابا حادا داواه بالأقراص وبشهية مفتوحة على الكتابة أتته بالتهليل النقدي، وارثاً أدبياً علنياً لدون ديليلو وتوماس بينتشون. أنجز والاس خلال واحد وعشرين عاماً من السقم الباطني نصوصاً عدة من بينها، للمفارقة، حكاية توق الى بقاء سرمدي سمّاها “كل شيء وأكثر”. في حين دفع به، على ما يتبيّن، الى ان يبلغ نهاية الخيط التأليفي الرمزي من طريق الانتحار، في السادسة والأربعين.
اقتنع والاس، بصفته الروائية في المقام الاول، ان في وسع الكتابة ذات الجودة ان تعين القارئ على هدم عزلته الداخلية. كان من شأن كلام مماثل ان يسعف الكثيرين، بيد ان النصيحة لم تكن ناجعة في حاله لتساعده في الإنقضاض على ارتدادات اضطراباته. جلّ ما استطاعه والاس ان يحنو على تخييل شغوف أخلاقيا وعلى تخييل أخلاقي شغوف، على ما عبّر عنه في بحث أنجزه وتمحور على دوستويفسكي في 1996. غير ان هذا السقف المرتفع أتاه بتعقيدات جمة، ليس أقلها عجزه عن الإنصراف الى الراحة في كنف أيٍّ من الأساليب الأدبية السائدة. لم يكن في مقدوره أن يتبنّى الواقعية، لأن المقاربة مألوفة جدا ومخدّرة. بحث عن القلق، كما يبحث آخرون عن الراحة، ذلك ان الاستكانة جعلته يلوذ بحذر شديد.
الى اليوم، اختُزل رصيد والاس بروايتين وثلاث مجموعات من القصص القصيرة وبحثين، بينما أكبّ بدءا من 1997، على رواية ثالثة لم يكتب لها الإنتهاء ولقّبها “الأمر المديد”، بإدراك استشرافي لافت. لم يعش الكاتب ما يكفي لتكتمل جداريته الروائية، التي انفرطت في طور التشكّل. في أعقاب موته، ظهر أن مرأب منزله يحتوي على أكثر من مخطوط يرنو مضمونها الى مئات آلاف الكلمات، اي الى ثلث الرواية تلك، وفق ما كان أفصح والاس بنفسه. والحال ان دار “ليتل براون” تتولى نشر الرواية بهيئتها الخام تلك هذه السنة، بعدما منحتها عنوان “الملك الشاحب”، لتنشغل مختلف المنصات الأدبية في الوسط الأدبي الأنغلوساكسوني في تخصيص فسحات نقدية لها.
ثمة ملاحظة مكتوبة تركها الكاتب بين مدوّناته، تخبر فكرة الرواية الأساسية. يذكر والاس: “يكمن النعيم (وهو بمثابة غبطة وجميل آنيين سببهما الحصول على هديتي الإدراك والبقاء على قيد الحياة) في الوجه الثاني للسأم الضاغط، والضاغط جدا. أمعِن النظر في أكثر الأمور بعثاً للضجر التي تصادفك (كملء وثائق الضرائب ومباريات الغولف المتلفزة) ولن تلبث ان تلفّك في هنيهات، أمواج السأم من أرفع طراز، وتكاد تقتلك. غير انك إذا استطعت ان تتجاوزها، لتراءى لك الأمر في ثوان، كأنك اجتزت منطقة بالأبيض والأسود الى أخرى بالألوان. لشعرت كأن المياه تسقيك بعد أيام صرفتها في الصحراء. انه النعيم اللحظوي في كل ذرة”.
في مسوّدة أخرى من الملاحظات، دوّن والاس اقتباسا من احدى قصائد الشاعر فرانك بيدارت النثرية حيث يرد: “نملأ اشكالا موجودة سلفاً وعندما نملأها نغيّرها، فنتغيّر”. أما التحدّي فيكمن في وضع اليد على الأسلوب الملائم لشحن هذه الفكرة دراميّاً في سياق روائي. اختار والاس لهذه الغاية عملاء مصلحة الضرائب موضوعاً، ليلتقط نقيض آليات عمل التخييل، حيث يجري إهمال المسائل الهامشية. غير ان الحلّ الذي اقترحه والاس، قام على نقيض ذلك تماما، لأنه تغلّب على موضوعه المصاب بخدَر ظاهري، من طريق حركية أفكاره. شخوص الرواية بيروقراطيون من أسفل الدرك بلا ريب، غير ان صدقية نص والاس تجعل المطلع عليه بمنأى عن إبداء ايّ تعال إزاء أيٍّ يكن. على هذا النسق، تخبر تلك الأوراق حكاية نحو دزينة من العملاء الملحقين بأحد مراكز دائرة الإيرادات الداخلية، أي مصلحة الضرائب في إيلينوي، في وسط غرب الولايات المتحدة الأميركية، لتعاين نمط تعاطيهم مع سأم يغلّفهم بسبب طبيعة عملهم. لا تني وظيفتهم تذكّرهم بأنها مملة، والحال ان الضجر يحرّر في المحصلة، على ما تدأب “الملك الشاحب” تكرّر. يتوسّع منظور مخطوط الرواية ليفلش فضائل التركيز، ذلك ان الأميركي والاس يحاجج انه إذا تم التعاطي مع الملل على نحو ملائم، فذلك يشكّل ترياقاً لارتباط سائد ومفرط بالمنتجات الترفيهية.
لا تواصل “الملك الشاحب”، الثالثة والأخيرة قسراً، تمعّن والاس باليقظة. إنها في الغالب سرد لواقع ان يحضر المرء في اللحظة المناسبة وحثّ على استبقاء الأمور التي تهمّ. تندرج الرواية في منحى ما بعد حداثي، لأنها تتركّب على نسق المذكرات الصوريّة. في أحد الفصول بإسم “مقدمة الكاتب”، يُعلم والاس القارئ انه كان في ما مضى، موظفاً في مصلحة الضرائب. يروي كيف يتم منح عملاء الضرائب عند انضوائهم في الهيكلية البيروقراطية، أرقام ضمان صحي جديدة، ذلك ان الحصول على وظيفة بمثابة “ولادة ثانية”. تلك التفاصيل من نوع التخييل الصرف التي يتقنها والاس ويفيض، ليقول انه صار في منتصف الثمانينات من القرن المنصرم الرقم “947-04-2012”. يخبر انه وصل الى هذا المكان بعدما ضُبط وهو يبيع نماذج عن الإمتحانات في أحد الصروح الجامعية التي يرتادها الطلاب الأثرياء. عُلّقت دراسته عقاباً، فاضطر الى إيجاد أي مشغلة. تقدّم بطلب عمل في دائرة الإيرادات الداخلية ولم يلبث ان تسلّم الوظيفة.
يسرد والاس: “بلغت لايك جيمس في منتصف أيار تقريبا، وصلت الى مركز دائرة الإيرادات الداخلية رقم 047”. ليتبع ذلك إسهاب مملّ بعض الشيء، في خصوص تاريخ لايك جيمس، فضلا عن تعليق منوط بالإلتباس المتأتي من وجود عميل في المصلحة يشير عنوان المبنى حيث يقطن الى مدينة مغايرة لتلك التي يتضمّنها عنوان صندوقه البريد. عندما التحق والاس بمركز مصلحة الضرائب الضيّق، يذكُر انه تم التعاطي معه على نحو مميّز، ذلك ان العاملين ظنّوه ديفيد والاس مختلفاً، وذاك محاسب من أصحاب النفوذ قدم من خارج البلاد. في القسط الوافر من هذا الفصل، يتراءى جميع موظفي المصلحة مقتنعين ان ديفيد فوستر والاس هو والاس الآخر، ليمدّه وجود صنو له بمادة تمكّنه من تحقيق انبعاث اضافي في التخييل.
تُبدي “الملك الشاحب” طموحاً لافتاً. ذلك ان الرواية تبسط درباً يمكن أن يسلكها مواطنو والاس بغية أن ينجوا بترف عزل أنفسهم عن الاضطراب السام الذي يستبيح المعيش الأميركي. تطمح الرواية الى ان تُحدث تأثيراً عاطفياً وأن تترك صدى أخلاقياً وان تسرد الضجر في سياق دينامي. تتوكّل كذلك بتسطير أنماط من الشخوص الموافقة اجتماعياً، في حين شكّلت اللباقة الإجتماعية نقيصة في شخصية والاس بلا ريب، وصفة لم يدّع امتلاكها يوماً.
والحال ان ديفيد فوستر والاس وصف قبل نحو ستة أعوام في دفتر ملاحظاته، طراز قاطني تصوّره الروائي، متحدّثا عن “أولئك النادرين وانما الموجودين في وسطنا”. اعتبرهم اشخاصاً قادرين على النجاح في التركيز واجتذاب الانتباه، على رغم ما اقترفوه. عدّ هؤلاء بمنطق ما، صوت الحياة الحديثة الذي قصّر والاس عن تجاهله أو تلقفه سوى في مستوى تأليفي ميتا- خيالي. اعترف والاس المتحدث بإسم الهذر الأسود الذي طبع مجموعته القصصية “الفتاة ذات الشعر الغريب” الصادرة في نهاية التسعينات من القرن المنصرم، بأن الحقيقة لعبة لغوية. كان أذكى من سواه بلا شك في هذا المضمار، غير انه أدرك بكثير من المرارة، ان الذكاء لن يأخذه في الضرورة بعيداً فهم ان تجليات الفطنة والمعرفة الواسعة والتعلّق بالنقاش، قد تترك المرء صحبة شعور بالخواء والإرباك والغباء، ذلك ان العصر عصر سيادة التفه والسهولة البلاغية.
كان كفاح والاس الذاتي جديرا بأن يسيّر قدر إحدى شخصيات دون ديليلو المعذّبة. سجّلت روايته الافتتاحية استثناء في الترقب وفيضاً في الحبكة ومجازفة في اللغة وفي الهمّ الاشتقاقي، إضافة الى نزعة فلسفية. استقدم والاس الى النوع الروائي الذي كان سائداً أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات، قطعة من الطموح وحسّ اللهو والغبطة السردية ووفرة التجريب. رمّم مفهوم الرواية كأنها نسيج غليظ متباعد الخيوط، أو حلبة ملاكمة حيث يمكن الكاتب فعل ما يحلو له. حقق هذا كله، في حين لم يقوَ على التقاط نجمة الاحتمالات الأدبية التي حامت في جواره الشخصي، ذلك ان تململ الذات والإنهيارات العصبية خيّما على مساره، كنبوءة شؤم.
في مقابلة على أهمية منحها ديفيد فوستر والاس لمجلة “نوفيل اوبسرفاتور” الفرنسية في آب 2007، أي عمليا قبل عام على غيابه، تحدّث عن أقلام عدة أحبّها، استعاد روسو ودوستويفسكي وسواهما، ليزيد: “يخيل إليّ ان ما أحسدهما عليه يتخطى الامكانات التقنية والمواهب الخاصة. أتكلم على حسنات المرء أي إمكانات الذهن”. لم يكن آنذاك بعد، متيقناً من قدرته على انجاز الرواية- المرجع التي يهجس بها. كان صوته شاكياً وهازئاً ومتحدّياً ومتغطرساً ومستحيلاً، غير انه ظنّ الحقائق الذاتية تصير غير ذات صلة، في خضمّ أي تمرين أدبي عميق. غفل عن المبتكر المسعور والممسوس الكامن في داخله، ذاك الذي يقطّر في كتابته أمزجة مقاديرها الحزن والعته المطوّق بالإستحواذي، في حين ينمّ سرده المتكرر والمنهِك، عن وعي جماعي شقي. تناسى والاس انه الكاتب الذي يتلهّى بذاته عن ذاته.
رلى راشد
(roula.rached@annahar.com.lb )
النهار