صفحات الناسمحمد علي العبد الله

الإنترنت في سوريا والحرية المخادعة

null
محمد العبدالله
انتظر السوريون الإنترنت كثيراً بعدما كانوا سمعوا بها من جوارهم ومن شاشات التلفزة، وحيكت القصص والأقاويل عن الإنترنت وعن المعجزة المقبلة وعن الإمكانات التي ستقدمها الى البلاد، وعن التجارة الإلكترونية وعن وعن… وكان على السوريين الراغبين في ولوج الشبكة العنكبوتية قبل ذلك الإتصال عبر الهاتف بمزوّد الخدمة في لبنان أو الأردن، وتكبّد نفقات باهظة.
في العام 2000 وصل الزائر المرتقب، وبدأ السوريون بالحصول على الخدمات بالقطّارة، وباشرت الجمعية المعلوماتية السورية تقديم الخدمة الى شرائح معينة دون أخرى كان لها أولوية على الباقين (الأطباء والمهندسون والمحامون). بعد عام تقريباً بدأت المؤسسة السورية للإتصالات (مؤسسة حكومية ثانية) بتقديم الخدمة للمواطنين عموماً، وكان على السوريين الذين يودون الإشتراك إحضار صورة عن بطاقة الهوية ونسخة مطبوعة من استمارة طلب الإشتراك إلى مركز خدمة الزبائن، ووجب عليهم ملء بيانات الإسم وإسمي الوالدين والجنسية ورقم الهوية الذي تصدرها الحكومة وتاريخ الميلاد ومحلّه والمهنة واسم المستخدم وكلمة السر. مثلت التكلفة الباهظة للخدمة أحد أهم المعوقات التي وقفت في وجه إنتشارها. لكن وعلى الرغم من هذه المعوقات ارتفع عدد المستخدمين في سوريا سريعاً، إذ أشارت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في  تقريرها الذي صدر عام 2005 أن عدد المستخدمين السوريين قدِّر وقتذاك بأكثر من 500 ألف مستخدم. في حين تقدّر مجموعة الإستشاريين العرب، وهي بيت خبرة إستشاري تجاري مركزه عمان، أن يرتفع عدد مستخدمي الإنترنت السوريين بنسبة 24.9 في المئة بين 2004 و2009، لتفوق نسبة المستخدمين عام 2009 نحو 10 في المئة بعدما كانت تقدّر بأقل من 1 في المئة عام 2004. لكن الفرحة بالزائر المنتظر لم تكتمل، فالمعوقات المصطنعة والعراقيل التي زرعت في وجه الخدمة الوليدة كانت كفيلة تقييدها ومحاولة الحد من إنتشارها، أو العمل على إنتشارها وفق منهجية تفرغها من مضمونها، الأمر الذي حدا بمنظمة “هيومن رايتس ووتش” أن تعنون التقرير المذكور سابقاً “الحرية الزائفة”.
على رغم ورود نصوص كثيرة في الدستور السوري وفي المواثيق الدولية التي وقّعتها سوريا تتحدث عن حرية الحصول على المعلومات وتبادلها، بدأت السلطات بالإعتماد على مجموعة من القوانين المقيّدة والتدابير غير القانونية لقمع حق السوريين في الوصول إلى المعلومات ونشرها بحرية على الإنترنت. بدأت بالرقابة ومتابعة الرسائل الإلكترونية وصولاً إلى حجب المواقع وإلقاء القبض على مستخدمي الإنترنت والمدوّنين ومقاضاتهم؛ رقابة فرضتها أنظمة تخشى ان يعرف مواطنوها الحقيقة الكاملة، أو على الأقل الصورة المعاكسة لما يصدرها إعلامها الرسمي، فلجأت إلى قتل المعلومة من طريق حجبها عن بقية شرائح المجتمع، بهدف تحويل الحياة الافتراضية الالكترونية للسوريين إلى حياة تشبه حياتهم الواقعية؛ حياة تلفها العزلة والصمت والعيش على الهامش. وخلقت لهذا الغرض أنظمة مراقبة دقيقة وفعّالة في مواجهة هذا المد الهائل من المعلومات، وسيول المعرفة التي ستعمل على اطاحة تلك الرقابة، ودفنها في مقابر الفساد التي تملأ البلاد. فمنذ اللحظة الأولى لم يكن أمام المواطن سوى استخدام خدمات البريد الإلكتروني التى تقدمها شركات التزويد المحلية والتي يسهل رقابتها. فالسلطات السورية حجبت الوصول إلى مواقع خدمات البريد الالكتروني المجانية الشهيرة مثل Yahoo أو Hotmail أو Maktoob وغيرها، ولم ترفع الرقابة عنها حتى العام 2004 الأمر الذى أرجعه أحد الخبراء إلى احتمال حصول السلطات على تجهيزات ومعدات أمنية جديدة تتيح لها مراقبة البريد المتداول عبر هذه الخدمات أيضاً.
مسألة الحجب والتعطيل هذه لا تأتي بالمصادفة، فالخطة الحكومية الخمسية العاشرة في فصل مخصص للإعلام وتحت عنوان “العوائق والمخاطر” ورد فيها ما يأتي: “أهم وأخطر ما نواجهه هو ما يسمى بالعولمة الإعلامية كأحد مظاهر النظام العالمي الجديد والتي دعت إليها وسائل الإعلام باستمرار (ومن بينها) الشبكة العنكبوتية، الإنترنت التي تبث من دون حسيب أو رقيب”!.
في شهر تشرين الثاني 2005 اعتبرت منظمة “مراسلون بلا حدود” السلطات السورية واحدة من أشرس خمسة عشر عدواً لشبكة الإنترنت على مستوى العالم. في حين صنفت منظمة Article 19 سوريا ضمن الأنظمة العشرة الأكثر عداء للإنترنت، وتقييداً لاستخدامها. وأوردت دراسة “أوبن نت” (مبادرة الإنترنت المفتوحة) التي جاءت نتيجة شراكة بين جامعات اوكسفورد وكامبريدج البريطانيتين وهارفرد الاميركية وتورونتو الكندية، ان حكومات في آسيا والشرق الاوسط وشمال افريقيا تمنع مواطنيها من الوصول الى معلومات تعتبر حساسة في هذه الدول وتتعلق بالسياسة والثقافة والجنس والدين. وقالت الدراسة التي وضعت خلال عام 2006 ان “الطريقة التي تحصل فيها الرقابة تزداد تطوراً مع تطور أدوات الانترنت”، وأن ست دول تركز خصوصاً على الرقابة السياسية على الإنترنت كانت سوريا بينها (بورما والصين وايران وسوريا وتونس وفيتنام). وحجبت السلطات منذ منتصف 2006 عشرات؛ لا بل مئات المواقع ذات الإستخدام الواسع حيث تمارس الحجب المؤسسة السورية للإتصالات بناء على طلب المخابرات.
وفي 18 تشرين الثاني 2007 حجبت السلطات السورية موقع “فايس بوك” الشهير. وفي 1 تموز2007 أبلغت عناصر من الأجهزة الأمنية أصحاب مقاهي الانترنت شفهياً ضرورة تسجيل البيانات الشخصية لمستخدمي الانترنت في محالهم والاحتفاظ بسجل يومي يتضمن اسم المستخدم الثلاثي واسم والدته ورقم الهوية الشخصية أو جواز السفر ورقم الجهاز الذي يستخدمه وساعة حضوره إلى المقهى وساعة مغادرته، وإلزام أصحاب المقاهي تسليم هذا السجل إلى مندوبي الأجهزة الأمنية عند حضورهم.
في سياق هذه السياسات المنهجية بهدف القضاء على الخصوصية التفاعلية وعلى مساحة الحرية التي يوفرها الإعلام الالكتروني أصدر وزير الاتصالات والتقانة الأسبق عمرو سالم بتكليف من مجلس الوزراء السوري قراراً بتاريخ 25 تموز 2007 يأمر فيه إدارة المواقع الإلكترونية بذكر “اسم ناشر المقال والتعليق بشكل واضح ومفصل تحت طائلة إنذار صاحب الموقع ومن ثم عدم النفاذ إلى الموقع موقتاً وفي حال تكرار وقوع المخالفة عدم النفاذ إلى الموقع نهائياً”. وفي 18 أيلول 2007 نفذت الوزارة تهديداتها و”عاقبت” موقع “داماس بوست” الإخباري وحجبته لمدة 24 ساعة. وفي آذار 2008 كتب المدوّن نهاد الشامي على مدوّنته “سوري يا نيالي”، خبراً مفاده أن السلطات السورية حجبت مدوّنات “مكتوب” في سوريا وقد تعذر على المدوّنين السوريين داخل سوريا على موقع “مكتوب”، البالغ عددهم أكثر من ثلاثة آلاف مدوّن، الوصول إلى صفحات مدوّناتهم. ومنذ شهر تقريباً قامت السلطات السورية بحجب موسوعة “ويكيبيديا” wikipedia بنسختها العربية على جميع مزوّدات الخدمة في البلاد، ليفقد السوريون مصدراً إضافياً من مصادر المعرفة والمعلومات.
لم تكتف السلطات بحجب المواقع عن المرتادين، بل عمدت إلى غلق ما تمكنت من غلقه، ففي نيسان 2006 توقف موقع “مرآة سوريا” عن العمل “طوعياً” بعد ضغوط مورست على رئيس تحريره ليفاجأ زوار الموقع برسالة تعلن توقف الموقع عن العمل. الأمر ذاته فعله موقع “سيريا لايف” في عام 2007 إذ أجبر على الإغلاق طوعاً، ووجد زواره رسالة تعلن ذلك على صفحته الرئيسية وتعتذر عن عدم المتابعة في الظروف الراهنة. وفي 27 شباط 2008 اعتقلت السلطات السورية الكاتب أسامة إدوار قريو على خلفية مقال عنوانه “اللاءات الثلاث: لا غاز لا مازوت لا كهرباء” نشره على مدوّنته “آشوريون من أجل الوجود والحرية”، وأطلقته السلطات بعد تسعة أيام يعتقد أنه تعرض خلالها للتعذيب، وخرج ليضع الرسالة الآتية على مدوّنته: “تتوقف مدونة “آشوريون من أجل الوجود والحرية” عن إدراج الجديد من المقالات إلى إشعار آخر”.
تتنوع المواقع المحجوبة بين مواقع إخبارية سورية تتناول الأوضاع السورية الداخلية، ومواقع صحف تصدر في لبنان وبريطانيا، لتصل إلى بعض أهم الخدمات العالمية مثل “يوتيوب” Youtube، و”غوغل بلوغ سبوت” google-Blogspot، و”سكايب”. لكن الأكثر خطورة اليوم من حجب مواقع الصحف البارزة هو حجب المدوّنات، التي يرى المراقبون في منعها كارثة معرفية حقيقية، لأن في المدوّنات محتوى أصيلاً وفريداً هو الجزء الأكبر من المحتوى الثقافي والمفيد في الانترنت.
اعتقالات
ثمة تجربة لا أعتبرها شخصية، ولا أستطيع تجاهل هذا الطابع فيها، ألا وهي تجربة مدوّنة “الدومري السوري”. ففي أعقاب إغلاق السلطات صحيفة “الدومري” لرسام الكاريكاتور السوري علي فرزات، انطلقت مدوّنة أطلقت على نفسها إسم “الدومري السوري”، وأعلنت صراحة على صفحاتها الأولى أنها لا تمت بصلة الى صحيفة “الدومري”. انطلقت المدونة على نطاق “غوغل بلوغ سبوت”، وقبل أن تحجب السلطات النطاق المذكور كاملاً قامت في كانون الثاني 2006 بحجب المدوّنة وحدها، وكتب يومذاك المهدي بن يونس على موقع “مرآة سوريا” (الذي أغلق طوعاً كما رأينا) الخبر الآتي: “في خطوة بلهاء تعبّر عن مدى التخلف الفكري الذي ما زال يعاني منه الكثير ممن يعملون في مراكز مفصلية في بلدنا، قامت الجمعية المعلوماتية السورية بحجب موقع “الدومري السوري” عن المشتركين معهم على مخدّم انترنت الجمعية”.
لم يتكهن أحد بما حصل، وأعتقد قراء المدوّنة أن السلطات حجبتها كما تفعل عادة مع من تختلف معه في الرأي، وعجز الجميع عن معرفة القائمين على هذه المدوّنة والتي حصدت عدداً لا يستهان به من القراء وجذبت انتباه المتابعين داخل سوريا وخارجها، الى درجة حدت بموقع  bloggers watch الصادر باللغة الإنكليزية أن يعلن على صفحة USENET الخاصة به أن “الدومري السوري” هو أكثر blog عربي تمّت زيارته منذ إنشائه. وتحدثت أرقام عن خمسة وسبعين ألفاً وتسعين ألف زائر يومياً، قسم لا يستهان بهم من دول عربية وأوروبية. وفي كانون الثاني 2006 كتبت زينب غصن في صحيفة “السفير” اللبنانية مقالة عنوانها “في الداخل يا رب السترة وفي الخارج معارضة” وتتناول موضوع مواقع الـ blogs في سوريا، وفيها: “لعل أكثر المدونات السورية الداخلية لطافة هي تلك التي تتخذ من التهكم سلاحا لها لإطلاق نكات حول الوضع السياسي تحت اسم “الدومري السوري”. ويحرر هذه المدونة عددٌ من الشباب السوريين في الداخل. وهي لا علاقة لها بمجلة “الدومري” التي كانت تصدر في الشام وتم إيقافها”.
ازدانت “الدومري السوري” بعدد كبير من الصور والكاريكاتورات، الأمر الذي دل على استحالة أن يكون شخص واحد يحرّر هذه المدوّنة، وأن الفريق القائم عليها يملك خبرة واضحة ببرامج الرسم كالفوتوشوب، أو بالفن اليدوي المجرد.
كنت قد تعرفت إلى المدوّنة قبل حجبها وتابعتها باهتمام وقمت بتعميم بعض كتاباتها وصورها عبر البريد الإلكتروني. تحدثت “الدومري السوري” في كل المواضيع التي تهمّ الشعب السوري تقريباً، فلم تترك موضوعاً لم تتطرق إليه، من الفساد في السلطة إلى الفقر والغلاء وصدقية الصحافة السورية وصولاً إلى تقرير ميليس، وشُفع كل موضوع منها بصورة أو كاريكاتور أو تعليق.
المعارضة السورية نالت نصيبها من النقد، فنشرت المدوّنة الكثير من التعليقات والإنتقادات والكاريكاتورات لعل أجملها الذي تناول الأستاذ العزيز المعتقل ميشال كيلو.
عندما رأيت الصورة، عرضتها على العزيز المعتقل أيضاً فايز سارة، فضحكنا معاً. رغب سارة في إرسالها الى كيلو بالإيميل، لكنه تردد خوفاً من جرح شعوره، ثم أتى كيلو الى مكتب سارة ورأى الصورة التي ضحك بسببها كثيراً وسأل عن الشخص الذي رسمها.
وفي كانون الأول 2005 قمت بتخزين الصورة (المقابلة) على جهازي المنزلي.
ضحكت كثيراً، أكثر مما قد يتخيل أي شخص. ضحكت حتى دمعت عيناي. عرضت الصورة على والدي وشقيقي وعائلتي، فلم يعلّق شقيقي عليها كثيراً. أمضيت النهار بطوله أردد عبارة “لو أعرف بس مين وراء هالمدوّنة”، وشقيقي يسألني في كل مرة “ليش شو بدّك منه”.
في أواخر عام 2005 بدأت المخابرات السورية حملة اعتقالات طاولت ستة من نخبة طلاب جامعة دمشق على اختلاف إختصاصاتهم العلمية إضافة إلى صديقين لهم من خارج الجامعة. بدأت الإعتقالات بشكل متفرق (حسام ملحم وماهر إسبر في أواخر 2005)، مروراً بعلام فخور وطارق الغوراني وعلي العلي وأيهم صقر في شباط 2006 إنتهاء بدياب سرية وشقيقي عمر العبدالله في آذار 2006، الذين اعتقلهم جهاز المخابرات الجوية المسؤول عن أمن المطارات من دون أن يعلم أحد لماذا. وخلال شهر ونيف أمضاها شقيقي في الذهاب يومياً الى التحقيق قبل اعتقاله لم يطلعني أو والدي على سبب استدعائه أو اعتقال زملائه.
في 18 آذار اعتقل شقيقي عمر وبعده بخمسة أيام اعتقلت مع والدي. غابت الأسرة في السجون، وأفرج عني ووالدي بعد ستة أشهر ونصف شهر، وحكم على شقيقي عمر بالسجن سبع سنوات مع رفاقه طارق الغوراني وماهر إسبر، وخمس سنوات للباقين.
لم يعرف أحد ما الذي اقترفه شبان في عشرينات العمر، شبان بأعمار الورود سوى التهمة التي حوكموا عليها ومفادها “نشر أنباء وكتابات ومقالات وتصريحات لا تجيزها الحكومة من شأنها تعريض سوريا لخطر أعمال عدائية”. لم يعرف أحد السبب، حتى المحامون الذين ترافعوا ودافعوا عنهم أمام محكمة أمن الدولة العليا الإستثنائية لم ينبسوا ببنت شفة. لم يعرف أحد شيئاً إلا بعد الإفراج عن أحد الطلاب (علي العلي) الذي خرج بعد عام فقط من اعتقاله ليخبر الجميع أن التهمة كانت “الدومري السوري” وكتابات أخرى كتبها حسام ملحم ودياب سرية وعمر العبدالله على “منتدى أخوية” الإلكتروني. تعتيم غير مسبوق نجحت السلطات في فرضه على القضية، فلم تشر أي منظمة حقوقية الى الشباب المعتقلين كمدوّنين. حتى المنظمة الوحيدة التي اهتمت بقضيتهم (العفو الدولية) اعتبرتهم معتقلي رأي من دون أن تعرف شيئاً عن القضية، وخلت بياناتها من أي إشارة الى اعتبارهم مدوّنين معتقلين بسبب تدويناتهم.
عندذاك فقط أدركت مستوى غبائي. فأحد المشرفين على المدوّنة التي عشقتها كان شقيقي الذي كان يعمل على تحرير المدونة من جهاز الكومبيوتر داخل غرفتنا المشتركة. أدركت وقتذاك فقط حجم المخاطرة بأن تفتح مدوّنة سورية من داخل سوريا، الأمر الذي يتطلب أن تكتم السر عن عائلتك وأهلك وذويك وصاحبتك وأخيك.
حكمت المحكمة الإستثنائية على الشبان بعد عملية تعذيب قاسية، وانتهت أجمل تجربة لأجمل مدوّنة مرت على السوريين من داخل سوريا. فجأة اختفت المدونة (المحجوبة أصلاً) واختفى الأرشيف. لم يعلم أحد لماذا إلا لاحقاً، إذ تطوع جهاز المخابرات المذكور برفع محتواها عن الشبكة وتلفه، فلم تنج منها إلا بضع صفحات وجدتها لاحقاً على جهاز الكومبيوتر في المنزل من مخلّفات شقيقي.
لكن التجربة لم تنته. فمدوّنو “منتدى أخوية” أوفياء لأصدقائهم المدوّنين، فنظّموا حملة لهم، وثبّتوا كتاباتهم على الصفحة الرئيسية، واعتبروهم معتقلي المنتدى، فكثيراً ما ترى على “أخوية” توقيعاً موحداً بلون أحمر قان: “الحرية لشباب الأخوية الأسرى”.
لم ترق السلطات حملة “أخوية” فحجبت الموقع الذي يرتاده أكثر من خمسة وسبعين ألف شخص وأكثر من خمسين ألف عضو مسجّل. راقبت الموقع وأغرقته بالمخبرين للدفاع عن النظام وأهله، لكنها فشلت أمام إصرار المدوّنين على الإنتصار لقضية زملائهم، فقررت اعتقال المشرف على “المنبر الحر” في “منتدى أخوية” وهي الزاوية الأكثر شعبية في المنتدى كله. المدوّن كريم عربجي (Karimbow) الذي مر منذ أيام عام على اعتقاله، اعتبرته منظمة العفو الدولية سجين رأي، ورأت منظمة “مراسلون بلا حدود” أنه مدوّن سجين بسبب تدويناته. اعتقلت المخابرات العسكرية (فرع فلسطين) كريم عربجي بعدما جرى تعميم “منتدى أخوية” على كل الأجهزة الأمنية الخمسين المهتمة بأمن البلاد، ونفسية الأمة، والشعور القومي. أحيل كريم عربجي بعد ثمانية أشهر من التعذيب والحبس الإنفرادي في فرع فلسطين على سجن صيدنايا العسكري، بسبب قصيدة كتبها يعايد فيها صديقه الأسير دياب سرية.
منذ أيام فقط أرجأت محكمة أمن الدولة جلسة محاكمة كريم عربجي الى أجل غير مسمّى إنتظاراً للإنتقال إلى البناء الجديد للمحكمة والتهمة نفسها: نشر أنباء كاذبة من شأنها أن تنال من هيبة الدولة.
شباب الأخوية الأسرى، كريم عربجي، وآخرون كثر. الشهر الماضي أصدرت المحكمة نفسها حكماً بسجن المدوّن طارق بياسي ابن الـ23 ربيعاً لثلاث سنوات بسبب تعليقٍ نشره على الانترنت، حُكم على طارق بالتهمة نفسها: النيل من هيبة الدولة. آه كم أحتقر هذه الهيبة.
فسحة أمل
على رغم الحصار الشديد المفروض، وجد النشر عبر شبكة الانترنت لنفسه منفذاً وحقق وجوداً لدى المواطن السوري الذي يرغب فى استكشاف مصادر مستقلة للمعلومات تختلف عن الإعلام التقليدي الخاضع للرقابة وذلك على رغم المخاطر الشديدة التى تحيط بالانوجاد على الشبكة. وعلى رغم سياسة الحجب التي كانت متبعة، ولا تزال، فإن عدداً قليلاً من مستخدمي الإنترنت السوريين هم من يعانون من نتائجه. فالالتفاف على المنع هذا أسهل من الالتفاف على منع جريدة أو مجلة ورقية من دخول السوق المحلية، وقد طوّر السوريون طرقاً وأدوات تسمح بتجاوز الحجب والوصول إلى المواقع المحجوبة ببساطة ويسر شديدين.
وما دام الحجب لا يحقق أهدافه المفترضة في منع مستخدم الإنترنت السوري من الوصول إلى معلومات لا تريد الجهات التي تقرر الحجب أن يصل إليها، فلا يمكن أن نفهم استمرار سياسات الحجب إلا على أنها مجرد منغّص إضافي، أو إثبات وجود بطرق دونكيشوتية قديمة لم تعد تنفع مع تطور تقانة المعلومات وتطور خبرة السوريين في استخدامها للوصول إلى المعلومات.
فقد وسعت شبكة الانترنت قاعدة الحصول على المعلومات ونشرها وإنتاجها، والتعبير عن الرأي وإيصاله، فحازت بذلك مفعولاً ديموقراطياً أكيداً، ووفرت فرصاً للتعارف والتواصل والتجمع الافتراضي لأناس لم يسبق لهم أن التقوا، وقد لا يلتقون أبدا. وهذا شأن عظيم الأهمية في بلد تحرم فيه حالة الطوارئ العريقة اجتماع الناس الطوعي والمستقل في الشارع، إن لأغراض تضامنية أو احتجاجية أو حتى احتفالية. بذلك كله أظهرت شبكة الانترنت أنها غير محايدة سياسياً، وأنها أكثر ديموقراطيةً مما ترضى به السلطات السورية.
وعلى رغم أن آلية عمل المدوّنين في سوريا بقيت إلى الآن، تدخل في حيز النشاطات الهاوية والتطوعية التي تفتقر الى الاحتراف، إلا أنها استطاعت أن تسجل هدفاً في مرمى القمع السوري الرسمي. فحركة التدوين تكبر يومياً، والأصوات والوجوه التي تسعى الى رصد الحقيقة، ومتابعة الخبر قبل تزويره، تزداد عدة وعتاداً. الأهم اليوم، ليس أنها مجرد خرق لجدار الصمت والتعتيم الجاثم علي صدورنا، بل أنها نواة لحالة وعي. حالة وعي بحقوق المواطنة، وبإمكان هدم جدار الصمت بدلا عن خرقه، وبالأمل في أن يتحرر الشباب السوري من منظمات التدجين، ووسائل إعلام الكذب والنفاق والتعبئة الجماهيرية، التي تداس فيها الحقيقة والحقوق تحت أرجل إعلام عديم الضمير ■

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى