صفحات مختارة

خطر التغيّر المناخي يوحّد العالم رغم الاختلافات: هل سيحقق مؤتمر كوبنهاغن ما لم تحقّقه ريو دي جانيرو وكيوتو؟

محمد الشيخلي
ينعقد في العاصمة الدنماركية كوبنهناغن ابتداء من الاثنين الماضي ولمدة اسبوعين المؤتمر العالمي لتغير المناخ الذي يحضره اصحاب القرار السياسي من رؤساء اكثر من 190 دولة حول العالم. وينتظر العالم ان يحسم هذان الاسبوعان من شتاء كوبنهاغن البارد مصير الكرة الارضية الذي بات مهدداً بتغير المناخ الحاد بسبب ارتفاع حرارة الارض المتزايد والناجم عن تكدس انبعاثات غازات الدفيئة وانعكاسات ذلك على امن الانسان والتنمية والنمو الاقتصادي.
ولعل قصة غازات الدفيئة الستة واثرها في الاحتباس الحراري والاحترار الكوني ليست بالحدث الجديد، فقد ظل العلماء والباحثون يحذرون وينذرون من تبعاتها منذ منتصف القرن الماضي. وقد انعقدت وفقاً لذلك مؤتمرات عالمية على مستوى عال كمؤتمر فينا، ولندن، ومونتريال ثم ريو دي جانيرو، وكيوتو، بالاضافة الى العشرات وربما المئات من المؤتمرات العلمية المخصصة هنا وهناك. وعلى الرغم من ان هذه المؤتمرات لم تنجز ما بثته من بروتوكولات وقرارات دولية، الا انها، وبسبب تفاقم المشاكل البيئية التي باتت تهدد الحياة على سطح هذا الكوكب، خلقت وعيا وحاجة ملحة للتوحد وراء مطلب ملح واحد هو الخلاص.. وكيفية الوصول اليه.
وراحت العيون ترنو والقلوب تدق بانتظار ما يمكن ان يحققه هذا المؤتمر. فهل اقتربنا فعلاً من الحل؟ وما هو دور كل منا في الوصول اليه؟
[الحقيقة بشأن تغير المناخ
ظل العديد من الناس وبعض اصحاب القرار السياسي في الدول الصناعية يشككون في نتائج الابحاث العلمية التي جسدت ما يمكن ان يعانيه كوكبنا من آثار سلبية نتيجة لاحتراره. ولكن الاختبار الأكثر حسماً للجدل يكمن في عمل اللجنة الدولية لدراسة التغيرات المناخية (آخر تقرير صدر عنها عام 2007). ويذكر انه قبيل انعقاد قمة مجموعة الثماني في اسكتلندا من يونيو حزيران 1995، قامت اكاديميات العلوم في اضخم احدى عشرة دولة اقتصاديا (وتشمل بالاضافة الى مجموعة الثماني الهند والصين والبرازيل) باصدار بيان مشترك ايدت فيه النتائج العلمية التي توصلت اليها اللجنة الدولية لدراسة التغيرات المناخية، وحثت حكومات العالم على اتخاذ اجراءات عاجلة للتصدي لهذا الخطر. وقد كان البيان مشدد الصيغة وفي غاية الصرامة.
ومما يؤسف له ان اصحاب المصالح الخاصة في بعض الدول الصناعية الكبرى انفقوا الملايين من الدولارات على نشر معلومات مضللة حول اثر الاحترار الكوني وتغير المناخ، بعد ان حاولوا انكار وجود ما يؤيد هذه الظاهرة، ثم وفي وقت لاحق تقبلوا حقيقة تسبب الأنشطة البشرية في تغير المناخ، ولكنهم زعموا انها لن تكون بتلك الدرجة في التأثير، وانهم قادرون على اصلاح الأمور في اي وقت اذا ما تبين ان المشكلة حقيقية وضخمة فعلاً.
وفي قمة الأرض التي انعقدت في ريو دي جانيرو عام 1992 وقعت دول العالم على اتفاقية الأمم المتحدة الاطارية بشأن تغير المناخ والتي يتلخص هدفها في تثبيت تركيز الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري عند مستوى لا يتسبب في تداخل خطير مع النظام المناخي، ويسمح للأنظمة البيئية بالتكيف مع هذا التغير، ويضمن عدم تعرض الانتاج الغذائي للتهديد، ويمكن التنمية الاقتصادية من الاستمرار على نحو مطرد ومستدام. وكان الرأي آنذاك ان تثبيت تركيز غازات الدفيئة الستة وعلى رأسها ثاني اكسيد الكربون من شأنه ان يؤدي في النهاية الى وقف تغير المناخ.
وقد بات واضحا بعدئذ ان ارتفاع مستوى سطح البحر وزيادة تواتر وشدة موجات الحر والفيضانات والجفاف تحدث حتى وان كانت الزيادات طفيفة في متوسط درجات الحرارة الكونية. لذلك، بات لزاما بذل كل الجهود للحيلولة دون ارتفاع متوسط الحرارة العالمية لدرجتين مئويتين لكل مائة عام بعد ان باتت التوقعات الحالية وعلى اساس كمية الانبعاثات تقترب من ست درجات لكل مائة عام.
واذا كان لنا ان نحظى بفرصة طيبة لتحقيق هذه الغاية علينا بالسيطرة على انبعاثات ثاني اكسيد الكربون.
[ثاني اكسيد الكربون لاعب اساس في لعبة المناخ
أكدت الدراسات اننا، لكي نسيطر على تسارع الاحترار الكوني، علينا ان لا نسمح لتركيزات هذا الغاز ان تتجاوز 450 جزءاً في المليون (وتقترب نسبته الان من 400 جزء في المليون). وهذا يعني انه لا بد من خفض اجمالي الانبعاثات العالمية من غاز ثاني اكسيد الكربون بحلول عام 2050 الى اقل من 50% من مستواه عام 1990 (والمعروف ان اجمالي الانبعاثات الآن تتجاوز هذه النسبة بـ 15%). وهذا يعني ايضا ان ينخفض متوسط الانبعاثات في البلدان الصناعية بنسبة 80% على الأقل عن مستواه عام 1990. وعلى الرغم من معاندة بعض هذه الدول وعلى رأسها الادارة الاميركية السابقة في مؤتمر الارض بكيوتو الا انه، وبسبب الحالة الراهنة، هنالك تعهدات بريطانية بخفض الانبعاثات، كما أعرب الرئيس أوباما عن نيته الزام الولايات المتحدة بنفس الفرض.
[وقف غازات الدفيئة الصناعية لا يكفي
هنالك عدة متطلبات تساعد على تقليص تركيزات غازات الدفيئة ولا سيما ثاني اكسيد الكربون تتعدى الانبعاثات الصناعية ومنها زيادة الغطاء الأخضر والمحافظة عليه ووقف ازالة الغابات المدارية، لان قطعها مسؤول عن 20% من الانبعاثات.
أما عن الانبعاثات الناتجة عن حرق الوقود الاحفوري فقد حددت وكالة الطاقة الدولية تفصيليا في تقريرها حول “آفاق تكنولوجيا الطاقة” كافة التدابير المطلوبة لتحقيق هذا الهدف.
وتشير الوكالة في تقريرها الى ضرورة ايقاف التزايد في نسبة الانبعاثات (حوالي 3% سنويا) لتصل ذروتها عام2015 ثم اخذها بالانحدار حتى يتحقق الهدف عام 2050.
هل غازات الدفيئة وحدها مسؤولة عن الاحترار الكوني؟
يمر المناخ دوماً بحالة من التغير. والامر كان كذلك حتى قبل اكتشاف الوقود الاحفوري. والعوامل الطبيعية التي تؤثر على طبيعة مناخ الارض متعددة ومنها حرارة الشمس ودورات نشاطها التي تقدر ب 11 سنة لكل دورة. ولكن التأثير هنا يبدو ضئيلا بالمقارنة مع تأثير غازات الدفيئة الصناعية؛ العامل المؤثر الآخر هو البراكين التي بامكانها تسجيل انخفاض ملموس في درجات الحرارة وعلى مدى سنين لما تطلقه من رماد وانبعاثات الى الغلاف الجوي، والعامل الثالث يتعلق بمسار الارض حول الشمس والذي يلعب دوراً محورياً في الدورات الحرارية التي تتغير كل مئة الف سنة. ومع ذلك فقد وجد ان هنالك علاقة مباشرة تربط ما بين درجة حرارة الارض وكمية غازات الدفيئة الصناعية التي هي في حالة تزايد مستمر بسبب حرق الوقود الاحفوري في الصناعة، ولانتاج الكهرباء.
[كيوتو والاكتفاء بالتوقيع على المبادئ
لم يحقق مؤتمر كيوتو الذي انعقد قبل 12 سنة سوى اتفاق على المبادئ بين اللاعبين الكبار بالدرجة الأولى وهم اميركا واليابان والمجموعة الاوروبية. ويذكر ان الاقتراح الاصلي الداعي الى خفض غازات الدفيئة بنسبة 5 % في عام 2012 (قياساً بمستواها عام 1990) لم يكن كافياً لتحقيق الهدف بتقليل الاحترار الكوني. ولكن، بمساعدة مساعد الرئيس الاسبق آل غور وقعت اليابان على تخفيض 6 % والولايات المتحدة على 7 % وأوروبا على 8 % من انبعاثات غازات الدفيئة في بلدانهم. يقول جون بريسكوت المفاوض الرسمي للامم المتحدة في مؤتمر كيوتو: ان المؤتمر الذي حضرته 47 دولة كان تظاهرة سياسية قبل ان يكون مؤتمراً يتقرر فيه مستقبل الارض، وإن المصالح الشخصية والرأسمالية لبعض الدول الصناعية الكبرى حالت، بالرغم من الوعود المبذولة، دون تحقيق سقف الطموحات الموضوعة في المؤتمر. ويضيف، ان التصاعد في وتائر الانبعاثات بعد مؤتمر كيوتو هو دليل على عدم تحقيقه للاهداف التي اقيم من اجلها.
[كوبنهاغن.. هل سبق السيف العذل؟
هل ستححقق كوبنهاغن ما كبت عنده كيوتو؟ الجواب ليس سهلاً او قابلاًَ للتحقق بعصا ساحر، ولكن غضب الطبيعة وردة فعلها لغازات بني البشر الصناعية والمتمثلة بفيضانات وتسونامي وزوابع وفقدان ملايين الهكتارات من الاراضي المحتلة بالاضافة الى تهديد الحياة البحرية والتنوع الحياتي، ولا يزال في جراب الحاوي المزيد، كل ذلك دق ناقوس الخطر وجعل العالم يرنو بترقب ووجل لما هو آت. ولعل هذا التوحد الدولي ازاء الخطر سيضع ثقلاً على كوبنهاغن لتضع حلولاً حقيقية وليست توفيقات سياسية. يقول البروفسور بوب واتسون، رئيس باحثين في قسم البيئة في جامعة كاليفورنيا والمستشار الرئيسي للحكومة الاميركية: بات الآن من الصعب تحديد الارتفاع في حرارة الارض بدرجتين مئويتين وبات الطموح الآن ان نثبتها على 3 الى 4 درجات مئوية.
يضيف واتسون ان قرار رئيس الولايات المتحدة السابق جورج بوش بالخروج على قرارات كيوتو والذي شجع آخرين على الحذو حذوه قد اخر اجراءاتنا لخفض غازات الدفيئة بما لا يقل عن عقد من الزمان. اما حول مستقبل قرارات كوبنهاغن فيقول واتسن: لا اتوقع ان تأتي لقاء كوبنهاغن باتفاقيات ملزمة لكنه سيحقق نجاحاً في لجم نسبة اعلى من الانبعاثات من الدول الصناعية مع صرف منح وتعويضات للدول النامية على سبيل المقايضة في قطوعات غازات دفيئة. ويختم بالقول: اعتقد اننا سننجح في تحديد الاحترار بين 3 و4 درجات مئوية بعد ان يصبح تركيز هذه الغازات اعلى ما يمكن خلال العشر سنوات القادمة.
ويذكر ان الحكومة البريطانية نشرت الشهر الماضي خارطة تبين التنوع الحراري العالمي المرتقب، ثبتت فيه المناطق التي سترتفع حرارتها اربع درجات مئوية لا سيما في المناطق القطبية الشمالية. حيث ان البحار تدفأ ببطء في حين ان معدل درجة حرارة الارض سيزداد الى 5,5 درجات مئوية. سيكون لمثل هذه الدرجة وقعاً سيئاً على المحاصيل النباتية الموسمية، وعلى توافر الماء في جزء كبير من العالم لا سيما وان الماء بحد ذاته سيكون شحيحاً خلال العقدين القادمين، ولعل الحل يأتي كما يعتقد واتسون، بتبني طرائق موائمة للبيئة وغير باعثة لغازات الدفيئة كاستخدام الطاقات المتجددة والبديلة بدلاً عن الوقود الاحفوري، وتشجيع نمو الغطاء الاخضر ووقف تدمير الغابات واحتراقها.
[خطوتان لانجاح كوبنهاغن
اولاً: ان تتوفر وضوح رؤية بشأن الاهداف الملزمة للحد من الانبعاثات في البلدان الصناعية الكبرى. فمن دون التزام هذه الدول لن يتخذ المجتمع الدولي الاجراءات اللازمة لمنع تغير المناخ لاسيما وان البلدان النامية ليست واثقة من استعداد الدول الصناعية لتولي زمام المبادرة في حل مشكلة تسببت هي ولا تزال في خلقها.
وهنالك اشارات ايجابية تمخضت عنها مباحثات الايام الأولى من المؤتمر تجلت باتفاق الاتحاد الاوروبي على خطة تمكنها بحلول عام 2020 من تخفيض الانبعاثات بنسبة 20 % وفي الولايات المتحدة اشار الرئيس اوباما الى اعتزامه تخفيض الانبعاثات الى 80 % بحلول عام 2050 والعودة بها، في اميركا، الى المستويات التي كانت عليها عام 1990 وينتظر ان تعلن بلدان أخرى مثل روسيا واليابان عن خطط مماثلة.
ثانياً: انعكاس اجراءات الدول الصناعية على التدابير والتعهدات التي ستلتزم بها الدول النامية. ويذكر ان عدداً من الدول النامية كالصين والهند والبرازيل وجنوب افريقيا وضعت فعلاً استراتيجيات وطنية تتناسب والقيود الاقتصادية المفروضة عليها. ولعل زيادة الطلب تماشياً مع ظروف المرحلة سيشكل عائقاً معيشياً يلزم الدول الصناعية بمد يد العون. كما انه حجم العمل الذي ستتولاه البلدان النامية سوف يعتمد على التوجيه الفعال للتمويل وتسليم التكنولوجيا البديلة والنظيفة. وهذا يتطلب التعرف على حجم الموارد المائية التي سيتم توليدها للقيام بهذه المهمة لا سيما وان اقتصاديات الدول الصناعية لا تزال تعاني من الهزة الأخيرة.
وظهرت في هذا السياق افكار مثيرة للاهتمام منها اقتراح البلدان الصناعية ببيع حقوق اطلاق الغازات في المزاد، واستخدام جزء من عائدات البيع لاغراض التعاون الدولي وهو ما تقوم به المانيا فعلاً، بالاضافة الى مشروع قانون ليبرمان ـ وارنر الذي يخدم نفس الفرص في الولايات المتحدة. كما تقدمت النرويج باقتراح تحويل حصة من ميزانيات انبعاث الغازات 1 C تقود لتمويل التعاون الدولي. ويذكر ان خطة عمل بالي التي مهدت لمؤتمر كوبنهاغن ركزت على ضرورة تبني البلدان النامية تدابير التخفيف على المستوى الوطني، ولكن سوق غازات الدفيئة لا يعمل مفرقاً لذا سيكون التعاون بين الحكومات ملزماً وهكذا، سيحتم خطر التغير المناخي نوعاً من الوحدة العالمية للتصدي له. وحدة بشرية تتخطى التحزبات والتحالفات السياسية وما تمخض عنها من حروب عالمية اقصى ما حققته انقسام العالم الى شرق وغرب، ودول غنية واخرى فقيرة.
اخيراً، لا شك ان العديد من الشواغل والهموم سوف تنشأ عن المفاوضات المكثقة التي ستجري خلال الأيام القادمة للمؤتمر وما يتبعها ويبقى الوضوح وصدق التعامل مع الأزمة المتفاقمة للمناخ يشكلان عاملين على قدر عظيم من الاهمية لاحراز النجاح في كوبنهاغن، فلا يصبح كأسلافه من المؤتمرات العالية مجرد حدث اعلامي يضيف هماً جديداً للمواطن المستهلك فوق همومه الكثيرة الاخرى.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى