ادوارد سعيد بين التأويل والتّقويل
خيري منصور
قد يتضح ذات نقد مفارق ان هناك ادوارد سعيد آخر، غير الذي اختزلته السياسة الي ناقد لاتفاقية اوسلو، عبر مطارحات سجالية حذفت الحقائق لصالح النوايا، وغير الذي اختزله من أعادوا انتاجه كي يرمموا به وبأمثاله نرجسية وطنية جريحة، وغير الذي رأي فيه النقاد الماركسيون عقوقا لايديولوجيا مقررة بمعزل عن قرائنها وحيثياتها ومدي استجابتها لسؤال متعدد الأبعاد!
لقد حفّزني ادوارد سعيد قبل عشر سنوات لقراءة الاستشراق عموديا وبعيدا عن التجوال السياحي في بضعة كتب مترجمة الي العربية، خصوصا بعد أن عثرت مصادفة في احدي مكتبات بيروت علي الطبعة الاولي من كتاب عمر فاخوري آراء غربية في مسائل شرقية ، وقد صدرت في عشرينات القرن الماضي، لكنها رغم جدية اسئلتها وهواجسها وتقصياتها لم تثر صدي يليق بها، لعدة اسباب منها ان الكتاب صدر بالعربية، وفي زمن أمّي، كانت الأذهان فيه منصرفة الي شجون محلية خالصة، ووجدت ان ادوارد سعيد بحكم ثقافته ومرجعياته ومنهجهه ايضا لم يهتم بالاستشراقيات غير الانغلوساكسونية والفرانكفونية كالاستشراقيين الالماني والروسي، وهما يشذان الي حدّ بعيد عن القاعدة التي احتكم سعيد اليها وهي الربط العضوي بين الاستشراق والكولونيالية، فالألمان الذين خسروا الحرب العالمية الثانية لم يتمددوا خارج نطاقهم الجغرافي شرقا وكذلك الروسي فبقي الاستشراق في اللغتين اكاديميا واحيانا عبر تجليات يتزاوج فيها التاريخ مع الخرافة، وقد يكون ما كتبه هرمان هسّة في الرحلة الي الشرق نموذجا لشرق متخيّل، ومتعدد ايضا، لأن ابطاله المتجهين بأشواقهم الي الشرق منهم الباحث عن السحر ومنهم الباحث عن الثروة ومنهم الباحث عن سماء اخري ورعاً!
ان المقاربات النقدية التي قدّمت قراءات متفاوتة من حيث المنهج والأداء لادوارد سعيد بدأت عربيا بما كتبه د. صادق جلال العظم بعنوان الاستشراق معكوسا ، وسجل العظم في مقتربه النقدي ادانات صريحة لكتاب الاستشراق ومترجمه معا، فهو يقول مثلا ان هناك فقرة من الكتاب لم تترجم بدقّة، وهي دعوة سعيد الي تحسين شروط التبعية للغرب وليس رفض هذه التبعية، ورأي صادق العظم ان رؤية سعيد للاستشراق لم تتحرر من الميتافيزيقا، وبالتالي التعميم والتجريد، بحيث يصبح كل ما أفرزه الاستشراق موظفا لصالح الكولونيالية، وكانت هذه الملاحظة رغم اهميتها ذات حدّين، لأن صادق العظم نفسه قرأ سعيد سجاليا وبتعميم ايضا كي لا نقول ان نقده بالجملة!
المقترب النقدي المبكر الآخر كان للدكتور نديم البيطار في كتابه حدود الهوية القومية ، لهذا كان نقد البيطار لسعيد ذا مرجعية قومية بخلاف النقد الذي قدّمه العظم وبعده بربع قرن إعجاز أحمد وهو نقد يمكن تصنيفه اجرائيا علي الأقل في خانة الماركسية.
اما مئات المقالات والتعليقات حول اعمال ادوارد سعيد بالعربية فهي لم تكن الا ما سميته ترميما سايكولوجيا للنرجسية القومية الجريحة، لأن ادوارد نال شهرة واسعة في الولايات المتحدة والغرب وله مكانة مرموقة، وما كتب حوله وليس عنه في هذا السياق لا يختلف كثيرا عمّا اسماه جورج طرابيشي ذكورة وأنوثة، شرقاً وغرباً في دراسته المعمّقة حول الروايات العربية التي عبّرت عن اسقاطات جنسوية، وقدّمت العربي المكسور سياسيا فاتحا جنسيا وهو يشهر فحولته الشرقية في عواصم اوروبا!
وغاب عن هؤلاء الذين حاولوا أن يتداووا بسعيد انه كتب باللغة الانكليزية، وأن ثقافته سواء كانت أدبية او فلسفية او اجتماعية او حتي موسيقية هي ذات مرجعيات وجذور غربية، لهذا كانت محاولات استعادته مثيرة للشفقة، وتدل علي ان العربي الجريح بحاجة الي من يرد له الاعتبار ناسيا او متناسيا ان الثقافة ليست هي الميدان او الحلبة التي تقدم تصفية حسابات بدائية من هذا الطراز .
لقد كتب سعيد تغطية الاسلام، لا كفقيه او مبشّر اصولي، بل من خلال ثقافته ورؤاه للتاريخ، لهذا اساء البعض فهمه والأرجح انهم لم يقرأوه، وان قرأوه لم يستوعبوه، لأنهم حاولوا اعادة انتاجه ايضا كي يشبههم!
لقد كتب ادوارد عن الغرب من داخله وبلغته ومناهجه ايضا، لهذا اثار كل ذلك الاهتمام في الاوساط الاكاديمية والثقافية داخل اوروبا والولايات المتحدة، ومحاولات اعادته الي قواعده سالما لم تكلل بالنجاح، لأنها تعاملت مع الزمان والتاريخ والثقافة كما لو أنها اقطاعيات، وبنزعة قبائلية.
ان ما جعل ادوارد سعيد ادوارد سعيد الذي نعرفه بمجمل منجزاته هو جدلية الوعي والمحيط التي عاشها عقودا في الولايات المتحدة، وما كان له ان يصبح ادوارد سعيد بدون كل تلك العوامل والظروف ومجمل الحياة التي عاشها هناك، حتي مفهوم المنفي الذي كتب عنه ادوارد سعيد بأشواق انسانية لا حدود لها، اختزله البعض الي منفي جغرافي، رغم ان مستويات المنفي تبدأ من التاريخ وقد لا تنتهي عند حدود الميتافيزيقا والهواجس الوجودية والكونية.
ان من أهم ما كتب عن ادوارد سعيد كان قادما من الشرق، لكن الشرق الذائب في الغرب وهو ما قدّمه اعجاز أحمد وهو يبحث عن البعد الماركسي المحذوف من اطروحة سعيد، خصوصا تلك القراءة التي قدّمها سعيد لما كتبه ماكس عن الهند، ونمط الانتاج الاسيوي هذا بالرغم من أن آراء ماركس حول الجزائر قد تكون مدخلا نموذجيا، لا لنقد ماركسي، بل لنقد يتناول ماركس ذاته!
لقد احتفي العرب بإدوارد سعيد بمعزل عن منجزه المعرفي، ولولا الاستثناءات النادرة التي قد تكرس القاعدة، لكان سعيد قد تعرض لأكثر من قاطع طريق يوناني علي طريقة بروكوست الذي كان يقطع اطراف ضحاياه او يمطها كي تلائم سريره…
من هنا أري ادوارد سعيد لم يكتمل برحيله شأن معظم من يرحلون وهم في أوج سني النضج والعطاء، لأنه غير مقروء عربيا الي الحدّ الذي يكتمل به، وكم كنّا نتمني ان يكون الاحتفاء به في ذكراه او في أية مناسبة تخصه بطريقة اخري تعيد اكتشافه، وتطلق الهاجع من الممكنات في النصوص التي كتبها، لكن الكتابة الاجتراحية المغامرة في الغابة او المحيط، لا يلائمها او يليق بها نقد مكبّل في اطر مناسباتية، او داجن له أجنحة دجاجية تعوقه عن المشي بقدر ما تحرمه من التحليق!!
ولم يكن ادوارد الوحيد الذي سجيت كتبه بين التأويل والتقويل، فقد سبقه آخرون أغدق عليهم من المديح العربي ما يكفي لاعادة دفنهم كي لا نقول اعدامهم رمزيا…
ولكل ترميز حدود، ما ان يتجاوزها حتي يصبح لغير صالح الرّمز والمرموز اليه معاً، ومن كتب عن السرديات الوطنية او الناراتيف لم يخطر بباله ان يصبح جملة اضافية في سردية وطنية جريحة، بحيث يكرم بمعزل عن ابداعه.
وهنا لا بد من اعتراف حتي لو كان بالغ القسوة وهو أن الغرب قرأ سعيد أفضل مما قرأناه نحن، حتي امثال برنارد لويس قرأوه بعمق يتيح لهم تقويله، لكن بطريقة اخري غير طريقتنا التي تعتني بالطائر وتكسر بيضه، او تهوي بالهراوات علي اغصان الشجرة كي تحصل علي العناقيد مضحية بالبراعم!
ولو بعث ادوارد حيّا لاصابه الغثيان من المديح المجاني الذي يغدق عليه منقطعا عن منجزه الحقيقي، ومتداويا به، كما لو أنه انتقام العرب من الغرب، وهذا تجلٍّ آخر للجنسوية التي اليها الهيا طرابيشي، ولو شئنا الاستطراد اكثر من هذا فإن المزيد من القسوة بانتظارنا، وعلينا ان نتخيل لو ان ادوارد سعيد انتج ما انتج من كتب وهو بيننا كي لا اقول بين ظهرانينا لأنني لا أحبها.
ان المفارقة موجعة، وقد نضطر الي لجم اللسان والاصابع معا كي لا نصل الي نهاياتها، وقد حدث مرارا ان نكّل العرب بمبدعيهم وهم قاب قبر او أدني من مبدع يكرمونه، لأن المسألة برمتها ليست ذات صلة أصيلة وعضوية مع تقليد ثقافي، بقدر ما هي توظيف مناسباتي، والعرب من أندر الامم في التاريخ التي قد تكرم شاعرا لكنها تعاقب من يصدّق قصائده لأن الشخصنة فاضت عن السياسة الي الثقافة وشملت برعايتها الأدب!
ان اعداد المتحمسين لاطروحات سعيد هي اضعاف عدد من قرأوه، وهذا ليس مجرد عرض جانبي غالبا ما يقترن بالمشاهير في مختلف الميادين، وقد يفسر هذا كون كتاب الاستشراق اكثر كتب سعيد شهرة وتداولا صحافيا، لأنه صدر في آونة حرجة، العلاقة فيها بين الشرق والغرب متوترة وثأرية هذا علي الرغم من أن الشرق ليس شرقا كله والغرب ليس غربا خالصا، وهذه مناسبة لاعتراف متأخر عشرة أعوام، هو باختصار انني اكتشفت الوهم الجغرافي الذي يصنّفني شرقيا في بكين… فالشرق في مكان آخر، ولم يتعد بِدْعة الغرب كما قال سعيد!!
23/02/2008