صفحات ثقافية

توحّش سلس

null
أحمد فرحات
من قلب المجتمع المعلوماتي، والاقتصاد المعلوماتي، ولهاث المفكرة الإلكترونية فيها، وفي ذاكرتها، تولد قصيدة الشاعرة الأميركية من أصل عربي سوري مرح البقاعي.. تولد هكذا مضمّخة بالفطرة الأولى.. بالكينونة الأولى.. الكينونة المهاجمة، المتغيرة، المعزولة والعازلة، والمتلبسة لكل ما هي عليه في جهاتها.. ناسجة أيضا، وبقوة، فرجتها العميقة والمدفوعة بمجهول الأسباب ومعلومها.
ديوانها «الصفر»، حقق انتشاراً عريضا في الدوائر الثقافية المعنية بالشعر الحديث في أميركا، ما دفع بعض النقاد والمستعربين الأميركيين إلى البدء بمشروع نقل أعمالها الشعرية إلى اللغة الإنكليزية، على الرغم من أن الشاعرة كتبت قصائد ديوانها الأخير بالإنكليزية، وكان هذا الديوان، هو بوابتها الذهبية على «الآخر» الغربي قارئاً في الصميم.
تعيش هذه الشاعرة مأزق المواطنة العالمية، أو الإنسان الجديد في العالم، وترتيب أولوياته في الوجود المجتمعي الذي يطل منه على الآخرين، وعلى الذات مرة أخرى، باعتبارها مركز المجتمع المركب والخصوصي، والذي يؤكد كل يوم على نوع جديد من الاغتراب، يعجز عن تعيين هندسته الداخلية، وحاجاته الفكرية والأخلاقية، التي لم تعد تنسجم مع ما كان، وعليه، لم يعد بإمكان الشاعرة المطلة من هكذا مجتمع، أن تكتب على الأشياء «لتمدحها»، أو «لتذمّها»، وإنما «لتفهمها» وتفكك مركزيتها لاستيضاح المطمور منها.
من الغريزة تنطلق دوماً قصيدة مرح البقاعي. تسلس الشاعرة فيها الصلة عبر موصولها في مساقط الداخل كله.. هذا المشتعل بالرموز الضاغطة، والممجّدة لفعل التعبير الشعري الجديد، يخرج عاليا بـ«لوغوس» الكبت والتهتك والجنون والجنس على شكل خطاب كلّياني آخر.. خطاب يدور بمطلقه الجديد فوق المطلق الذي مات مع نيتشه بموت قيمة القيم ذات يوم.
وخطابها الشعري «المطلق» بكثافته هذه، تظل الشاعرة تقرنه بأشيائها الحميمية التفصيلية التي تعرف كيف تؤلف فيما بينها، وتمازجها بأحاسيسها وحناياها ونواياها وشراهتها في التأكيد على الأشياء.. فبعد الولاء الأعمى لدم عاشقها تعترف.. «أزحف عارية السريرة، على جمر من حجر خطيئتك والكرب/ عليك أن تواجهها/ ساطعاً وعالياً/ لتسمعك على الأقل/ كل الضباع العطشى/ لقد انتهكت حقوقي في مبارزة عادلة».
تتمادى مرح البقاعي في حسها الوجودي، وحسها الجسدي معا، وذلك ابتغاء الدهشة بلذتها وللذتها واندفاعها الحيوي فيها، على رغم حصار النسق والتناقض واللاتحديد والوصل والانقطاع.
إنها أيضا شاعرة برناسية بنفس جديد، تأنف فيه من التأليف والتعليل، وتهجم على موضوعها بالحس الطازج، المباشر، وما يعتريه من توحش سلس، يتركها ضحية إغماءة ملحمية ملمّة بفيض الحدس واليقين… ولا غرو فقصيدتها أشبه ببنية شبكية من متغيرات الحضور والغياب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى