صفحات ثقافية

الثقافة والمجتمع الصورة الشاعرية للإنسان المتخيل

null
محمد الحرز
تساءل المفكر والمؤرخ هشام جعيط عن معنى السعادة في المجتمعات العربية الإسلامية، ويجيب: إن معنى السعادة عندنا رتيب ويقف عند تماسك النسيج الاجتماعي والعائلي، وعندما نخرج من الرتابة، فإلى التهور في التفاخر والاستهلاك.
هذا المعنى الذي يطرحه جعيط يعكس بصورة حقيقية أزمة القيم الأخلاقية التي نعيشها. فالحديث عن قيمة مثل السعادة لا يكون مقطوع الصلة ببقية القيم الأخرى التي تشكل إجمالاً السلوك الأخلاقي للإنسان، وكذلك للمجتمع.
فالألم والحزن والحب والعشق والتضحية والصداقة والكره، كلها قيم تندرج ضمن ما يمكن أن أسميه الصورة الشاعرية للإنسان المتخيل.
ما الذي أقصده من وراء هذه التسمية؟ هناك جملة من المقاصد، أولها: في حياتنا اليومية نحن في الغالب لا نميز بين السلوك النظري والسلوك العملي، ثمة اختلاف بالتأكيد، يرجعه غالب الباحثين إلى الطبيعة البشرية، فالإنسان عندما يعشق أو يكره فهو يمارس حقه الطبيعي، ولكن طريقة ممارسة هذا الحق، تحددها ثقافة المجتمع.
من هنا تكمن خصوصية هذه الممارسة عند كل فرد، تضاف إليها الخبرة التي يكتسبها الأخير من جراء هذه الممارسة. ثانياً: لذلك لا تقوم ثقافة المجتمع بوظيفة التأثير على الفرد من خلال سلوكه العملي فقط، وإنما تمده أيضاً بالبعد النظري الذي هو عبارة عن مجموعة من الآراء والصفات والأحاديث والتجارب التي ترتبط بكل قيمة من القيم الأخلاقية المتأصلة في الثقافة نفسها.
ولكن بين الاثنين، أي بين البعد النظري والسلوك العملي يكمن الاختلاف الذي تحدثنا عنه سابقاً. خذ المثال الآتي: حاول أن تجد شخصين تربطهما الصداقة برباط وثيق وقوي، بحيث ترى عليهما مظاهر الانسجام والتوافق والرضا في سلوكهما العملي إزاء بعضهما بعضاً، ولكن حاول من جهة أخرى أن تجرب مع كل واحد منهما على حدة، أن تنتزع تعريفاً نظرياً عن معنى الصداقة، ستقع على الاختلاف والتباين بالتأكيد، ولعل هذا المثال ينسحب على بقية القيم الأخرى، ولكن هل نقول إن هذا الاختلاف من الأمور الطبيعية، بل والبديهية التي لا تحتاج إلى حتى مجرد الحديث عنها؟ لا أجزم بذلك، لأسباب تعود في ظني إلى الأهمية الكبرى التي تكتسبها عملية الكشف عن طبيعة هذا الاختلاف، والأهمية تنبع من قدرة هذا الكشف على اكتساب ثقافة المجتمع حراكاً قوياً نحو الانسجام والتفاهم والتوافق بين أفراده على اختلاف مرجعياتهم الثقافية والفكرية، وهذا في حد ذاته يشكل أهمية يقل نظيرها، خصوصاً في ظل الأحداث الحالية التي تمر بها مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
وهناك عامل آخر، ترجع ضرورته إلى رفع درجة الالتباس وسوء الفهم الذي يحدث بسبب التصورات المسبقة التي نحملها في أذهاننا عن الآخرين، سواء جاءت هذه التصورات على مستوى العلاقات الشخصية، أم على مستوى العلاقات الاجتماعية، أم على مستوى العلاقات الدولية.
من هذا المنطلق يمكن القول إن الصور التي تنطبع في أذهاننا من خلال التجارب المتراكمة التي نعبرها في حياتنا، هي من طبيعة شاعرية، فعندما نحب شخصاً على سبيل المثال، فإن الرغبة العميقة التي تخرج من أعماق النفس هي التي تتحكم في هذه الصور، ومن ثم توجهها إلى إضفاء القيمة التي على ضوئها يتعامل الإنسان مع الشخص الذي يحبه نفسه.

وهكذا نجد هذه الحالة مطابقة تماماً مع التصورات الاجتماعية عن مجتمعات أخرى، والعكس صحيح. لقد وجدنا كيف أن التاريخ يضرب لنا الأمثلة تلو الأخرى عن النتائج الكارثية التي تسببها التصورات المسبقة والجاهزة أو «المخيال الجمعي» التي تتشكل بين مجتمعين، وهي نتائج تفضي في معظم الأحيان إلى الحروب والدمار، وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى العلاقة الملتبسة التي تشكلت بين الإسلام والغرب، وذلك على خلفية ما يسمى بالحروب الصليبية، ففي كتاب أمين معلوف «الحروب الصليبية كما رآها العرب»  نقع عنده على تحليل التصورات التي تكونت في ذهنية الإنسان المسلم في الشرق عند احتكاكه من خلال هذه الحروب بالإنسان المسيحي في الغرب، وعلى رغم اعتماده في إظهار هذه التصورات على الصورة التي تركها المؤرخون العرب «كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير، كتاب ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسي، رحلة ابن جبير، كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ» غير أنه لم يذهب أبعد من ذلك، أي لم يبحث عن بدايات هذه التصورات، أو جملة هذه الآراء عند المتقدمين من المؤرخين العرب، أي قبل أن تعصف الحروب الصليبية بالشرق الإسلامي بمدة طويلة من الزمن.
وخلافاً لأمين معلوف، وبالمقابل فقد ذهب الكاتب «تييري هنتش» في كتابه «الشرق المتخيل – رؤية الغرب إلى الشرق المتوسطي» إلى التساؤل الآتي: هل المخيال الجمعي للغرب المسيحي في تصوراته عن الشرق المسلم بدأت تكويناتها كما يظن غالب المؤرخين الغربيين المستشرقين منهم والمختصين، عند تكوين الحملة الصليبية الأولى في مطالع القرن الحادي عشر الميلادي، أم أن هذا المخيال له جذور أعمق من هذه البدايات المفترضة؟ هذا التساؤل هو محاولة من الكاتب لإعادة رسم المراحل الأكثر تأثيراً في عملية بناء التصورات عن الشرق المسلم منذ الزمن الإغريقي والروماني والبيزنطي.
هذان المثالان يوضّحان لنا بصورة أكيدة مدى الأهمية التي تحظى بها التصورات في ثقافة كل مجتمع، ومدى الآثار التي تحملها في داخلها، ألا يكفي أن نعود في الوقت الحالي إلى العلاقات الدولية، ونجد مثل هذه التصورات تعشش في قلب سياسات بعض الدول إزاء بعضها الآخر، والأمثلة كثيرة، ولكن أهمها الصورة الإرهابية للمسلم الشرقي في الذهنية الأوروبية، فقد تحولت هذه الصورة إلى نوع من المقدس الذي لا يمس في الذهنية الغربية، وكأنها صورة لا يمكن تفكيكها، وكأنها كذلك صورة منزلة من السماء.
إذاً مثل هذه المقاربات مطلوبة سواء على الصعيد الشخصي أم الاجتماعي أم الدولي، لأنها بكل بساطة تحررنا من الأحكام المسبقة ضد الآخرين، وتعلمنا كذلك – وهنا الأهمية – ألا نثق كثيراً بآرائنا حول القيم التي تمس سلوكنا من العمق.
لهذا أليس من الأجدى أن نبحث عن معنى السعادة كقيمة سلوكية مهمة في حياتنا بعيداً عن التصوّر الذي يربط معنى السعادة بقوة الترابط الأسري، وكذلك بالتفاخر الاجتماعي.
كما تؤكد عليها مقولة جعيط آنفة الذكر؟! ألم يتحول مفهوم الألم في قانون الأحوال الشخصية في الدساتير الغربية إلى شر في حد ذاته، ينتفي بالمطلق مع قيمة الإنسان وكرامته؟!

نشر في جريدة الحياة في 8/7/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى