أوكتافيو باث بصوته الحي في إصدار جديد: كتابٌ يضم أهم الحوارات التي أجراها بين عامَي 1995 و1996
باريس ـ أنطوان جوكي
توفي الشاعر المكسيكي الكبير أوكتافيو باث عام 1998، لكن صوته لا يزال مدوياً في الشرق كما في الغرب، كما تشهد عليه المقالات الكثيرة التي ما زالت تُكتب حوله الى حد اليوم. ولا تعود هذه الشهرة الى الأعمال الشعرية المهمة التي خلّفها وراءه فقط، بل الى ثقافته المذهلة والعميقة في مواضيع تتخطى الشعر والكتابة لتطاول الفلسفة والتاريخ والعلوم والأديان والسياسة… ولعل أفضل دليل على فرادة هذا العملاق هو الكتاب الصادر حديثاً لدى دار “غاليمار” بعنوان “أوكتافيو باث ـ بصوته الحي” الذي يقع في نحو 550 صفحة ويضم أهم المقابلات التي أجراها معه أبرز الصحافيين والنقّاد والكتّاب عبر العالم بين عامَي 1955 و1996. مقابلات تتجلى فيها، الى جانب ثقافته، أصالة شخصيته وجرأته، ولكن أيضاً صفاته كمحاورٍ من الدرجة الأولى. وإذ يستحيل تلخيص مضمون هذا الكتاب الضخم في مقالةٍ واحدة، ارتأينا ترجمة بعضاً من أجوبته المهمة على أسئلة كنا تمنّينا أن نطرحها بأنفسنا عليه، لو سنحت لنا الفرصة.
من أين ينبثق العمل الفني؟
ـ في كل مرة نكتب فيها بشكلٍ واعٍ، يحضر عنصرٌ خارجي: ما نسمّيه “الصوت الآخر” (الوحي، الصدفة، اللاوعي، إلخ.) الذي يحوّل المشروع الأصلي الذي في وعينا الى شيءٍ مختلف. وفي الحالة الأخرى، أي حين يستسلم الشاعر الى ما يمليه اللاوعي، وفقاً الى أندريه بروتون، نلاحظ حضور جانبٍ متعمَّد. في الحالتَين، ثمة تعاون بين ما نسميه الوعي و”الصوت الآخر”. وربما يمكننا مقارنة اللاوعي الى جهازٍ يتلقى تحريضاتٍ فيحوّلها الى علاماتٍ وينقلها الى الوعي. ويذكّرنا ذلك بشكلٍ مذهل بآلات التوجيه (la cybern?tique) التي لا تتمتع بوعيٍ لكن طريقة عملها عقلانية. ولعل الفكر ليس سوى عملية تقوم على تحويل العالم المحسوس الى علاماتٍ. وهذه العملية لا واعية ومستقلّة عن إرادتنا. يميل الفكر الحديث أكثر فأكثر الى تخفيف التضارب بين الوعي واللاوعي، ليس لصالح لا عقلانية اللاوعي، كما لدى فرويد، بل لصالح عقلانية لا واعية. هكذا، يتحول الوعي الى عملية تنظيمٍ ذاتي وتحكّم باللاوعي.
في شعرك، لا يوجد هاجس الآلهة ولا هاجس التجديف الديني المنبثق من ثورةٍ تحاول التخلّص من فكرة الإلهي.
ـ بالنسبة إلي، المشكلة ليست في قتل الآلهة بل في العثور على يقينٍ جديد داخل صمت السماوات. الإلحاد الغربي لا يناهض في الحقيقة مفهوم الألوهة بشكلٍ كلي. فالملحدون الغربيون ينكرون الإله بنفس الإصرار الذي يؤكّد المسيحيون فيه وجوده. وما يشغلهم هو الإله الواحد في الديانات السماوية الثلاث. فحين تكلّمتُ عن الفكر الذي يُفكّرنا وعن مصدر الإبداع الفني وانحلال التضارب وبين وعيٍ ولاوعيٍ، قصدتُ بذلك ضرورة تدمير وهم الأنا.
تدمير اللغة
هل توافق على مقولة أن الشعر اليوم يقوم على تدمير اللغة كي يتمكن من ولوج حقيقة النفس البشرية؟
ـ سبق وقلت أني لا أعتقد بأن الإنسان مركز الخليقة. الفن الحديث هو استكشاف “للجانب الآخر” من الواقع. أعتقد أن المرئي معلّق باللامرئي. ماركس حاول ـ ونجح ـ في تفسير المجتمع بمحرّكاتٍ خفية: البنيات الاقتصادية غير مرئية. إنه موقف فرويد أيضاً، فاللاوعي هو كيان مستور. الفن الحديث إذن هو محاولة لمعرفة ما يوجد خلف اللغة أو الواقع.
أي واقع؟
ـ واقعٌ لا يمكننا إلا التلميح إليه، وبشكلٍ موارب، بواسطة كلمات كل شاعر. واقعٌ بالكاد بدأنا استكشافه. فرويد أعتقد أن اللاوعي غير عقلاني، وبشكلٍ ما، اختصره بالغريزة أو بالطاقة الحيوية الشبقية. بدون نكران فرويد، التحوّل المعاصر الكبير هو فرضية ليفي شتراوس الذي ارتكز على علمَي الألسنية والأنتروبولوجيا لإظهار أن اللاوعي هو عقلاني. لدينا هنا إحدى التأكيدات الأكثر تحييراً في زمننا: اللغة هي نظام دلالات وبنيتها عقلانية على المستويين الدلالي (s?mantique) والصواتيّ (phonologique). نعثر إذن في اللغة على لاوعيٍ عقلاني. وفكرة أن نرى في البنية الأخيرة للغة نظاماً عقلانياً لا وعياً تقودنا الى فكرة أخرى مدوخة أيضاً: يوجد فكرٌ يفكّرنا. الإنسان ليس مَن يُنتج الفكر بل هو مَن ينقله.
من هم الكتّاب الذين تأثّرتَ بهم؟
ـ اللائحة طويلة جداً. في البداية، هنالك الثورة الشعرية الكبيرة باللغة الأسبانية بين عامَي 1925 و1930: شعراء جيل 27 في أسبانيا، وشعراء جيل هويدوبرو ونيرودا في أميركا الذين فتحوا لنا عالماً مذهلاً. أما قراءة غونغورا وكيفيدو فكانت دامغة وحاسمة بالنسبة إلي، الى جانب قراءة شعراء القرون الوسطى في أسبانيا (…). لكن اكتشافي تقليدَي الشعر الحديث هو الذي حوّل طريقة كتابتي ونظرتي للشعر، أي شعراء اللغة الانكليزية: إيليوت وباوند وستيفنس وكامينغس، ولكن خصوصاً الشعراء الفرنسيين، والسرّياليين منهم. لقد تعاونتُ مع المجموعة السرّيالية مرحلةً طويلة وكنتُ قريباً جداً من بروتون وبنجامين بيري. شكّلت السرّيالية نقطة الوصل بين الرمزية الفرنسية والرومانسية الألمانية والانكليزية. التقليد الحديث هو كناية عن مثلث يتألف من ويليام بلايك ونوفاليس وبودلير. وتيار بودلير (ونرفال) امتد وتحوّل بفضل أعمال شعراء ثلاثة، هم رامبو ولوتريامون ومالارمي. والسرّيالية، من خلال أبولينر، استعادت هذا الإرث وذهبت بنتائجه الى أبعد حدود. السرّيالية هي التي جعلتني أدرك وحدة الشعر الأوروبي وكشفت لي في الوقت ذاته عن أخلاقية شعرية وعن رؤية للغة وللإنسان لا سابق لهما.
السريالية واحدة
الشاعر الأميركي روبرت بلي تحدّث عن سرّيالية أسبانية مغايرة للسريالية الفرنسية…
ـ الحركة السرّيالية واحدة. أمرٌ عبثي التحدّث عن سرّيالية أسبانية وأخرى فرنسية أو شيلية أو مصرية… السريّالية انتشرت في معظم أنحاء العالم، وبروتون أشار دائماً الى الطابع الدولي لهذه الحركة. صحيحٌ أنه في ميدان الأدب ـ حالة الفن مغايرة ـ النشاطات السرّيالية كانت مهمة بشكلٍ خاص باللغة الفرنسية. لكن لدينا شعراء سرّياليين من دول ولغات مختلفة، مثل تشيكوسلوفاكيا وشيلي وانكلترا والبرتغال وأسبانيا والمكسيك. وجميع هؤلاء الشعراء شاركوا في الحركة السرّيالية وكانت لهم علاقات بالمجموعات السرّيالية الأخرى، خصوصاً الفرنسية. وبشكلٍ موازٍ، ثمة شعراء من لغاتٍ وأماكن مختلفة تأثّروا بالسرّيالية بدون أن يكونوا سرّياليين. ففي اللغة الأسبانية مثلاً، خلّفت هذه الحركة أثراً بالغاً على أفضل مرحلة شعرية أعطتنا وجوهاً كبيرة مثل غارسيا لوركا ونيرودا وسرنودا وألكسندر وألبرتي… إذاً، من السخافة التحدّث عن سرّيالية فرنسية ذات طابع فكري ونخبوي ومنحطّ، وأخرى أسبانية ذات طابع أرضي وذكوري وجنسي، كما فعل الشاعر بلي. فإذا كان هنالك شعراء باللغة الأسبانية تأثّروا بالسرّياليين الفرنسيين، العكس غير صحيح. لكن هذا لا يعني أن الشعراء الأسبان والأميركيين اللاتينيين لم يساهموا في تنشيط الحركة السرّيالية. بروتون أقرّ بذلك مرات عديدة. من بين السرّياليين الأسبان، نذكر ميرو وبونويل ودالي وأرابال وريميديوس فارو، زوجة بيري. وفي أميركا اللاتينية، نذكر الرسّامين ماتا وويلفريدو لام وجيرسو، والشعراء سيزار مورو وأدولفو وستفالن وبروليو آريناس وغوميز كورّيا وكاسيريز وأنريكي مولينا وألدو بلّغريني…
هل تعتبر نفسك سرّيالياً؟
ـ كنتُ سرّيالياً في مرحلة من حياتي، وأحاول أن أكون وفياً لهذه المرحلة. في انطولوجيا “الشعر السرّيالي” التي وضعها مؤرّخ الحركة جان لوي بيدوان، يذكرني هذا الأخير الى جانب بيكاسو وبيكابيا ودالي وسيزار مورو كممثلين للسريالية الناطقة باللغة الأسبانية (…). ويصحّح بيدوان في هذه الانطولوجيا الخطأ الفادح الذي روّجه النقّاد حول انتهاء السرّيالية عام 1939. هذا أمرٌ عبثي. فخلال الأربعينات، كتب بروتون كتابَين من أفضل كتبه: “أركان 17″ و”نشيد لشارل فوريي”. وبعد ذلك بقليل، كتب بيري أحد أهم قصائده: “لحن مكسيكي”. وبعد الحرب العالمية الثانية، انخرط شعراء كبار في الحركة السرّيالية مثل إيمي سيزير وجوليان غراك وأندريه بيار دو مانديارغ، الى جانب شاعر لبناني أُعجِب به بروتون واعتبره سان جون برس أحد أفضل الشعراء الفرنسيين المعاصرين: جورج شحادة.
الوحدوية
لكن مرحلة ما بعد الحرب طغت عليها الوجودية؟
ـ هذا صحيح. لكن هذه الحركة الأيديولوجية كانت جدّ فقيرة فنّياً وشعرياً. مَن يرغب اليوم في قراءة روايات سارتر ومسرحه؟ ادّعى هذا الأدب الملتزِم بأنه تاريخي، لكنه شاخ بسرعة أكبر من التاريخ وأفضى الى تفاهة كبيرة، مثل جميع مفاهيمه. ما تبقّى من هذه المرحلة ليس الأدب الملتزِم والأدب الشيوعي الذي كتبه أراغون وإيلوار، بل كتابات صامويل بيكيت وجان جوني وألبر كامو وأعمال شعراء ارتبطوا بشكلٍ وثيق بالسرّيالية، أي ميشو، شار وبونج. السرّيالية لم تمت عام 1939، وأكبر دليل على ذلك حيويتها الكبيرة في أميركا اللاتينية بعد الحرب.
وفي الولايات المتّحدة؟
ـ في اللغة الانكليزية بشكلٍ عام، وبخلاف ما حصل في العالم أجمع، بقى تأثير السرّيالية محدوداً. وأتكلم عن الشعر وليس عن الفن. ظهرت مجموعة صغيرة في انكلترا (بينروز وغاسكويْن) لكنها قوبلت بالرفض. وهذا ما حصل أيضاً في الولايات المتحدة. فعام 1950، ظهر شعراء “مدرسة نيويورك”: فرانك أوهارا وجون أشبري وكينيث روث الذين استوعبوا التجارب الدادائية والسرّيالية وكرّروا بعضها. لكن هذه المجموعة شكّلت استثناءً. جهل الشعر السرّيالي في الدول الأنغلوسكسونية كان غير معقول.
ما هو السبب، في نظرك؟
ـ تأثير السرّيالية على فن الرسم الأميركي كان حاسماً. فبدونها لما كانت التعبيرية المجرّدة ولا البوب آرت. أما لماذا لم يكن للسرّيالية أثر على الأدب، فربما لأن الانكليز كان لهم سرّياليتهم الخاصة. ثمّة توجّه خارق وهزلي يسبق السرّيالية لدى كبار الأدباء، منذ شكسبير وحتى ديكنس، مروراً بلويس كارول وادوارد لير، توجّه تميّز بدقة قصوى وغرابة قصوى، أو ما سمّاه بودلير: “ميل الى الغريب”. وهذا العنصر موجود أيضاً في أدب الولايات المتحدة منذ والاش ستيفنس وإليزابيث بيشوب (…). هذا المزيج من الواقعية والمخيّلة نفتقده في الأدب ذو الجذور اللاتينية الذي ورث من روما فنّي البلاغة والفصاحة. والأدب الحديث في الدول اللاتينية وألمانيا هو ردّة فعلٍ على هذين التقليدَين (…). التيار الشعري الحديث، منذ الرومانسية وحتى اليوم هو تيار واحد لكنه يمتد وفقاً لحركة تماثُل (sym?trie) معكوسة (…). فبخلاف ما حصل في أوروبا اللاتينية وألمانيا، شكّلت الحداثة الأنغلوسكسونية (باوند، إيليوت، هولم…) حركة في اتجاه الكلاسيكية (…).
علاقتك بآسيا معروفة اليوم. السرّياليون اهتموا بالعالم غير الغربي بشكل مجرّد. لكن معك سترتبط المخيّلة الغربية بالحساسية الآسيوية أمام الواقع…
ـ الرومانسيون الألمان تأثّروا بقوة بالشرق. فريدريك شليغيل كان أوّل مترجم من اللغة السنسكريتية التي تعلّمها في فرنسا على يد الانكليزي ألكسندر هاميلتون. غوته أيضاً تأثّر بقوة بالهندوسية. التقليد البوذي في ألمانيا معروفٌ جداً: شوبنهاور، فاغنر، نيتشه. في ما يتعلّق بي، اهتمّيتُ بسرعة باليابان. الجمالية اليابانية لم تصل الى أوروبا فقط من خلال فرنسا، بل أثارت اهتماماً واسعاً في المكسيك أيضاً. ففي تابلادا تعرّفتُ على الشعر الياباني وعثرتُ على فكرة التكثيف (concentration) التي تقوم على القول بعناصر قليلة شيئاً يتمتع بحدّةٍ كبيرة، ثم على فكرة اللا منجَز أو ترك الأشياء معلّقة بدون إنجازها. الشعر الياباني هو أمثولة في الاقتصاد.
الإنسان، وفقاً إليك، هو ما لا يمكن تحديده أو ما يعصى على التحديد الذي يمكن أن يحوّله الى شيء…
ـ يمكن مقاربة هذا الموضوع بطرقٍ مختلفة. الطريقة التقليدية هي تلك التي اقترحها هايديغر، أي بما أن الإنسان كائن زمني نجده يسمو بذاته ويحاول تخطي ذاته بشكلٍ مستمر. لكن يمكننا أيضاً العودة الى تلك الفكرة اليونانية القديمة التي تقول بأننا لا نعرف ذاتنا، والسبب هو عدم امتلاكنا لهوية ثابتة ووحيدة. الإنسان يجهل ذاته لأن فيه شخصيات عديدة يجهلها. علم التحليل النفسي يذهب في هذا الاتجاه: الإنسان الذي يظهر في أحلامنا أو ذلك الذي يتجلى في لحظات معيّنة، كالحب أو الحوار، يفاجئنا دائماً. الهوية غير موجودة، أو أنها خفية وغامضة. إحدى مزايا الإنسان الجوهرية هو شعوره بالغرابة أمام العالم وأمام نفسه. وهذه الغرابة هي التي تقوده الى التماثُل مع الآخر أو، بالعكس، الى فصل نفسه عن الطبيعة بشكلٍ جذري.
سيوران
المفكّر سيوران يقول بأن وظيفة الشاعر هي جوهرياً تأكيدية، حتى حين يكون في موقع الرفض…
ـ الشعر، بالنسبة إلي، هو احتفال. ويمكن للاحتفال أن يتضمّن جانباً من اللعنة أو أن يتحوّل الى لعنة. أنها حالة دانتي الذي يحتفل ويلعن في آنٍ واحد. حتى حين ينبثق الشعر من الشك، كالقسم الأكبر من الشعر الحديث، يتحوّل الشك بقوة الشعر الى نوعٍ من التأكيد. تحصل هذه الظاهرة بفضل كمال الشكل الذي يحوّل الشك الى احتفال بالموت. قصائد بول فاليري هي كمقابر جميلة تتمتع بشهوانية خاصة…
المثير في هذه النظرة التأكيدية للشعر هي اقترابها من طبيعة اللاوعي الذي لا يتضمّن، وفقاً الى فرويد، سلبية. السلبية تنبع دائماً من نظام الوعي، الأمر الذي يربط الشعر باللاوعي، كما سبق وقلتً
ـ بدون شك. وهذا يذكّرني بطريقة تفسير فرويد لقبول البشر طوعاً الذهاب الى الحرب: لأننا في لا وعينا أبديون. اللاوعي لا يقبل الموت.
ما رأيك بحرب الخليج (1991)؟
ـ يشكّل الصراع في الخليج العربي أمثولة مهمة لمكيافيلية ديموقراطياتنا، أي تلك المكيافيلية القصيرة الأمد التي قادت شامبرلين ودالاديي الى تقوية هتلر، وقادت روزفلت وتشرشل الى تقوية ستالين. حصل شيءٌ مشابه مع بيع الأسلحة الى صدام حسين ودعمه. الكويت دولة سيّدة ومستقلة باعتراف الأمم المتّحدة والعراق نفسه، ولا يمكن أن نقول بأنها صنيع انكلترا وإلا لطبّقنا الأمر على الأردن ودول أخرى في المنطقة. حاولت بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة إحلال نظامٍ جديد بعد سقوط الأمبرطورية العثمانية في الماضي. والبارحة دعموا العراق بوجه إيران فخلقوا بذلك مسخاً وخطراً كبيراً. وكان قد حصل الأمر ذاته لو دعموا إيران. يجب حالياً إيجاد حلولٍ سياسية طويلة الأمد تبدأ بعدم تدمير العراق، ثم بنزع سلاح صدام حسين، وأخيراً بالعثور على حل عادل لمشاكل المنطقة يأخذ في الاعتبار حقوق الفلسطينيين واللبنانيين والأكراد الذين ننساهم دائماً.
على مستوى عالمي، يجب تشجيع الأفكار التي تؤدّي الى أفرادٍ أصيلين قادرين على مضارعة (relativiser) آرائهم والتعايش بسلام: عرب ويهود، مكسيكيون وأميركيون. الأنظمة التي كانت تشرح كل شيء بشكلٍ لا يُجادَل سقطت. ماذا سيبقى من الماركسية؟ بدون شك سلسلة مفاهيم مهمة كتلك التي بقيت من التومائية (thomisme). مع أن اهتمامي بالفلسفة انطلق وأنا شاب من قراءتي لشوبنهاور ونيتشه، أعتقد اليوم بأن فيلسوف الحداثة الأهم هو كانت. بدونه، لا يمكننا فهم الفلاسفة الذين جاءوا بعده، ومعه انبثق المنهج النقدي الذي يسمح لنا بالحكم على الأنظمة الميتافيزيقية ولكن على النقد ذاته. أعتقد أن جهد الفكر الحديث يقوم على مد الجسور بين الخاص والشامل، بين الجزء والكل.
فكر نقدي
ما هي، في نظرك، القاعدة التي تصلح لبناء فكرٍ نقدي جديد؟
ـ ثمّة عقباتٍ مختلفة أمام تطوير فكرة جديدة للمجتمع، إحداها مسألة ربط التقدّم الاجتماعي بالتطوّر الصناعي، وهو خطأ يقع فيه الرأسماليون والماركسيون والتكنوقراطيون. ثمّة مفكّر رائد قادر على مساعدتنا للخروج من هذا الالتباس هو شارل فوريي. فهو أوّل مَن فهم أن التطوّر الصناعي ليس أمراً مستحباً. وقد أكّد مرّات عدة بأن الإنسان الذي يعمل في مصنع هو تعيسٌ بالضرورة أو مُرتهَن، واقترح مجتمعاً بحدٍّ أدنى من الصناعات وأعطى للزراعة دوراً أساسياً. من جهتي، أعتقد أننا محكومون “بالحداثة” ولا يمكننا (أو يتوجّب علينا) التخلي عن التقنيات والعلوم. أي “عودة الى الوراء” كحلّ لمأزق المجتمع الصناعي مستحيلة. المسألة تقتصر على أقلمة التكنولوجيا الى الحاجات البشرية، وليس العكس، كما هو الحال الى حد اليوم (…). انقراض أي مجتمع هامشي أو أي اختلاف أتني يعني ضياع إمكانية بقاء الجنس البشري برمّته. مع كل مجتمع يتوارى بسبب الحضارة الصناعية يتوارى ليس فقط ماضينا أو حاضرنا بل مستقبلنا أيضاً. الى حد اليوم، كان التاريخ متعدِّد ومتنوّع: رؤى مختلفة للإنسان، كل واحدة لها نظرتها الخاصة للماضي وللمستقبل. المحافظة على هذه التعددية هو محافظة على تنوّع مستقبلنا، أي على الحياة نفسها.
المستقبل